مجلة الرسالة/العدد 2/مجمع اللغة العربية الملكي
→ مسارح الأذهان | مجلة الرسالة - العدد 2 مجمع اللغة العربية الملكي [[مؤلف:|]] |
صور من التاريخ الإسلامي ← |
بتاريخ: 01 - 02 - 1933 |
لأستاذ كبير
في مجلة باريس التي ظهرت أول يناير فصل قيم، دقيق مستفيض عن المجمع العلمي المصري، الذي أنشأه بونابرت في القاهرة في شهر أغسطس سنة 1798. تقرأه فيعجبك لفظه العذب وأسلوبه المتين، ودقة صاحبه في البحث وعنايته بالتفصيلات، وعنايته قبل كل شيء وبعد كل شيء وفوق كل شيء بتمجيد فرنسا وبونابرت، وما كان لهما من أثر بعيد في أحياء مصر الحديثة، وتمهيد السبيل أمامها إلى الرقي المادي، والمعنوي جميعاً.
وربما أحسست (وأنت تقرأ هذا المقال) شيئا من الحزن الخفي يمازج هذا الفخر الظاهر، الذي يملأ نفس (المسيو ف. شارل ليرو) كاتب هذا الفصل. لأن هذا الجهد العنيف الخصب المعجز، الذي أنفقه الفرنسيون أثناء إقامتهم القصيرة بمصر في أواخر القرن الثامن عشر لم يؤت الثمر الذي كان ينتظره بونابرت وأصحابه، والذي كان الفرنسيون يودون أن يكون شيئاً غير الفخر والذكرى.
ولعلك تعلم أن هذا المجمع العلمي المصري الذي أنشئ في القاهرة منذ قرن وثلث قرن، على نظام المجمع الفرنسي، وسعى إلى نفس الأغراض العلمية والأدبية التي كان يسعى لها هذا المجمع وسعى بعد ذلك إلى أغراض عملية كانت تحتاج إليها سياسة الفاتحين وإدارتهم. لعلك تعلم أن هذا المجمع لا يزال قائماً إلى الآن أعيد تنظيمه سنة 1859 وهو الآن يعمل كما كان يعمل آخر القرن الثامن عشر يبحث أعضاؤه عن الرياضة والطبيعة والطب والعلوم الاقتصادية والسياسية والفنون والآداب، ويبحث الآن كما كان يبحث من قبل عن حلول عملية لبعض المسائل التي تمس الزراعة والري والصحة وما إلى ذلك وهو يعتبر كأنه فرع من المجمع العلمي الفرنسي المستقر في باريس ولأعضائه إذا ذهبوا إلى مدينة النور أن يشهدوا جلسات هذا المجمع. وهو دولي كما يقولون فيه علماء يمثلون الأجانب الذين يقيمون في مصر على اختلاف جنسياتهم، وفيه مصريون. ولكن مصر لا تكاد تحسه ولا تشعر به وإن إعانته الحكومة المصرية بالمال، وإن كثر ما ينشره من الكتب والمذكرات، وإن أصدر نشرته في نظام واضطراد لأن لغته ليست اللغة العربية وإنما هي اللغة الفرنسية غالباً والإنجليزية أحياناً. ولست ادري أنشر هذا الفصل في مجلة باريس بمناسبة المرسوم الملكي الذي صدر في منتصف الشهر الماضي بإنشاء المجمع الملكي للغة العربية أم هي مصادفة مطلقة؟ أرادت أن تشتغل مجلة من اكبر المجلات الأوربية بالمجمع العلمي المصري القديم، وفي الوقت الذي تشتغل فيه الصحف المصرية والأندية المصرية بالمجمع الملكي الجديد.
ولكن شيئا يدعو إلى التفكير على كل حال حين نقرأ الفصل الذي نشرته مجلة باريس وهو نشاط الفرنسيين وإسراعهم إلى إنشاء هذا المجمع وفتور المصريين وإبطاؤهم في إنشاء مجمعهم اللغوي.
أيام قليلة لا تكاد تبلغ الخمسة كفت لأن يتكلم بونابرت في مجمعه العلمي إلى بعض العلماء الفرنسيين الذين كانوا يرافقونه ويصدر إليهم أمراً بان يجتمعوا فيضعوا له نظماً ويرشحوا له أعضاء ولأن يجتمع هؤلاء العلماء فيضعوا النظام ويرشحوا الأعضاء ولأن يصدر المرسوم ويعقد المجمع جلسته الأولى وما هي إلا أسابيع قليلة حتى يجمع العلماء الفرنسيين الذين كانوا مفرقين في الإسكندرية ورشيد ليأخذوا مجالسهم في مجمع القاهرة ولا يكاد يعقد المجمع جلسته الأولى حتى يبدأ البحث وتقرأ المذكرات وتنشر الرسائل وكانت المطبعة والمعامل قد أعدت من قبل وما هي الا أعوام حتى يظهر هذا الأثر الخالد لهذا المجمع وهو كتاب وصف مصر.
أما نحن فنفكر في مجمعنا اللغوي منذ أعوام طوال ونحاول إنشاءه فلا نوفق. فكرنا فيه أن صدقتنا الذاكرة في أوائل هذا القرن وقبل الحرب الكبرى وفكرنا فيه وحاولنا إنشاءه أثناء الحرب وفكرنا فيه بعد الهدنة وفكرنا فيه بعد الاستقلال، واعددنا له مشروعا ومشروعا ومشروعاً وكان بعض هذه المشروعات يضيع فلا يهتدى إليه، وبعضها ينام فيطيل النوم وبعضها يقبر قبل أن تنبعث فيه الحياة. وأخيرا وبعد التفكير والتقدير، وبعد الذهاب والإياب، وبعد السفر والإقامة صدر المرسوم، وقيل في البرلمان أن المجمع اللغوي قد أنشئ. وهو قد أنشئ حقاً ما دام المرسوم الذي ينشئه ويحدد أغراضه ويرسم شكله ويبين له خطة العمل قد صدر ونشر وتحدثت عنه الحكومة في البرلمان. ولكنه منشأ بالقوة لا بالفعل، لأن مكانه لم يعرف وأعضاءه لم يختاروا وأبحاثه لم تنشر، والوجود بالقوة خير من العدم على كل حال. أنفق بونابرت أياما لينشئ مجمعاً ينتج بالفعل في واد مجدب من العلم والفن والأدب. وأنفقت مصر ثلاثين عاما لتنشئ مجامعها وتنشر أبحاثها.
وشيء أخر يدعو إلى التفكير حين نقرأ الفصل الذي نشرته مجلة باريس. فالمجمع المصري القديم الذي أنشأه بونابرت لم يكن مقصورا على جنسية بعينها، وكان فيه منذ إنشائه قسيس يوناني شرقي، وهذا المجمع لا يزال إلى الآن دوليا، لا تستطيع أمة أن تقول لها فيه الكثرة حتى ولا مصر التي تؤويه وتنفق عليه وتمكنه من الحياة ونشأ عن ذلك أن مصر هذه التي تؤوي وتمد بالمال لا تستطيع أن تقول أن مجمعها المصري يعترف بلغتها على أنها اللغة الرسمية ومجمعنا اللغوي الجديد دولي أيضاً، سيمثل فيه الشرق العربي كله، وستمثل فيه أمم أوربية مختلفة، يشتغل بعض أبنائها باللغة العربية. وقد تكون اللغة العربية لغة المجمع الجديد وقد يستعين أعضاؤه بالفرنسية أحياناً وبالإنجليزية أحياناً أخرى، وربما كانت هذه اللغة أو تلك ايسر وأدنى إلى أن يفهم بعض الأعضاء بعضاً. وكذلك يكون في مصر مجمعان دوليان أحدهما علمي قديم والآخر لغوي جديد. وكذلك تضرب مصر للناس أحسن الأمثال في الإيمان بأن العلم يجب أن يكون فوق الأوطان والقوميات واللغات الخاصة!
وشيء آخر يدعو إلى التفكير حين نقرأ الفصل الذي نشرته مجلة باريس، وهو أن المجمع الذي أنشأه بونابرت كان يعقد جلساته في اتصال غريب لا يعرف الراحة ولا الهدوء، وهو الآن يعقد جلساته مرات في الشهر أثناء سنة العمل، لا يستريح إلا في الصيف حين يتفرق الأعضاء.
أما مجمعنا اللغوي الجديد فسيجتمع شهرا في العام في الشتاء أو في الربيع، فإذا فكرت في أن المجمع العلمي المصري واحد من مجامع تعد بالعشرات. وانه لو استراح من العمل لم يكد العلم يخسر كثيراً وأن مجمعنا اللغوي الناشئ بالقوة سيكون يوم ينشأ بالفعل واحداً من مجامع لا تبلغ أصابع اليد الواحدة عداً، وأنه يريد أو يراد له أن يضع معاجم في اللغة منها العادي ومنها التاريخي وان يجدد اصطلاحات العلوم والفنون وينشئ منها ما لم يوجد وأن يشرف بعد هذا كله على حياة الأدب واللغة وصفائهما. نقول إذا فكرت في هذا كله وافقتنا على انعقاد مجمعنا اللغوي شهرا كل عام في الشتاء أو في الربيع أقل جدا من أن يتيح له النهوض ببعض ما يطلب إليه. ولكن المجمع اللغوي قد وجد على كل حال ولو بالقوة (وماش خير من لاش) كما يقول المثل ومن يدري لعل أعضاءه لا يكادون يجتمعون لأول مرة حتى تشرب قلوب بعضهم حب بعض ويعز كل منهم على صاحبه ويكرم في نفسه، فلا يفترقون بل يبقون في القاهرة يعملون طول الخريف وطول الشتاء وطول الربيع، ولا يفترقون في الصيف الا كارهين!.