الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 2/صديق

مجلة الرسالة/العدد 2/صديق

بتاريخ: 01 - 02 - 1933


للأستاذ احمد أمين

الأستاذ بكلية الآداب

- 1 -

لي صديق اصطلحت عليه الأضداد، والتقت فيه المتناقضات، سواء في ذلك خلقه وخلقه وعلمه.

حي خجول، يغشي المجلس فيتعثر في مشيته، ويضطرب في حركته، ويصادف أول مقعد فيرمي نفسه فيه، ويجلس وقد لف الحياء رأسه، وغض الخجل طرفه، وتقدم له القهوة فترتعش يده، وترتجف أعصابه، وقد يداري ذلك فيتظاهر أن ليس له فيها رغبة، ولا به إليها حاجة، وقد يشعل لفافته فيحمله خجله أن ينفضها كل حين، وهي لا تحترق بهذا القدر كل حين، وقد يهرب من هذا كله فيتحدث إلى جليسه لينسى نفسه وخجله، ولكن سرعان ما تعاوده الفكرة فيعاود الهرب، وهكذا دواليك حتى يحين موعد الانصراف، فيخرج كما دخل، ويتنفس الصعداء حامدا الله على أنه لم يخر صعقا، ولم يدركه حينه كربا وقلقا.

من اجل هذا اكره شيء عنده أن يشترك في عزاء أو هناء. أو يدعى إلى وليمة أو يدعو إليها، يشعر أنه عبء ثقيل على الناس وانهم عبء عليه، يحب العزلة لا كرها للناس ولكن ستراً لنفسه، ويأنس بالوحدة وهي تضنيه وتبريه.

ثم هو (مع هذا) جريء إلى الوقاحة، يخطب فلا يهاب، ويتكلم في مسألة علمية فلا ينضب ماؤه، ولا يندى جبينه، ويعرض عليه الأمر في جمع حافل فيدلي برأيه في غير هيبة ولا وجل، وقد تبلغ به الجرأة أن يجرح حسهم، ويدمي شعورهم فلا يأبه لذلك، ويرسل نفسه على سجيتها فلا يتحفظ ولا يتحرز.

يحكم من يراه في حالته الأولى أنه أحيا من مخدرة، ومن يراه في الثانية أنه أوقح من ذئب وأصلب من صخر، ومن يراه فيهما أنه شجاع القلب، جبان الوجه.

وهو طموح قنوع، نابه خامل، يرمي بهمته إلى أبعد مرمى، وتنزع نفسه إلى أسنى المراتب، وتحفزه إلى أبعد المدارك، فيوفر على ذلك همه، ويجمع له نفسه، ويتحمل فيه أشق العناء، وأكبر البلاء، ولا يسأم ولا يضجر. وكلما نال منزلة ملها، وطلب أسمى منها.

وبينا هو في جده وكده، وحزمه وعزمه إذ طاف به طائف من التصوف، فاحتقر الدنيا وشؤونها، والنعيم والبؤس والشقاء والهناء وسمع قول المتنبي:

ولا تحسبن المجد زقا وقينة ... فما المجد الا السيف والطعنة البكر

وتركك في الدنيا دويا كأنما ... تداول سمع المرء أنمله العشر

فهزئ به وسخر منه، واستوطأ مهاد الخمول ورضي من زمانه بما قسم له، وبينا يأمل أن يكون أشهر من قمر، ومن نار على علم، يسافر في الشرق والغرب ذكره، ويطوي المراحل أسمه إذا به يخجل يوم ينشر اسمه في صحيفة، ويذوب حين يشار إليه في حفل ويردد مع الصوفية قولهم (ادفن وجودك في ارض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه) يعجب من يراه مجدا خاملا، ومعرفة نكرة، وعاملا مغمورا.

وأغرب ما فيه أنه متكبر يتجاوز قدره، ويعدو طوره. ومتواضع ينخفض جناحه، وتتضاءل نفسه. يتكبر حيث يصغر الكبراء. ويتصاغر حيث يكبر الصغراء. يتأله على العظماء حتى تظن أنه نسل ألا كاسرة ووارث الجبابرة ويجلس إلى الفقير المسكين يؤاكله ويستذل له، هو نسر أمام الأغنياء، وبغاث لدى الفقراء لا تلين قناته لكبير، ويخزم أنفه الصغير.

يحب الناس جملة، ويكرههم جملة. يدعوه الحب أن يندمج فيهم، ويدعوه الكره أن يفر منهم فحار في أمره، فامتزج الحب بالكره، فاستهان بهم في غير احتقار.

صحيح الجسم مريضه. ليس فيه موضع ضعف ولكن كذلك ليس فيه موضع قوة. يشكو المرض فيحار في شأنه الطبيب فيحنق على الأطباء ويرميهم بالعجز، وما العاجز إلا جسمه لم يستطع أن ينوء بنفسه.

كذلك كان رأسه. مضطرب. مرتبك. كأنه مخزن مهوش، أو دكان مبعثر وضع فيه النعل القديم بجانب الحجر الكريم، يؤمن بقول الفقهاء: القديم على قدمه، ثم يدعو إلى التجديد. ويتلاقى فيه مذهب أهل السنة بمذهب أهل النشوء والارتقاء، ومذهب الاختيار بمذهب الجبر، وحب الغني بمذهب أبي ذر وتجتمع في مكتبته كتب خطية قديمة قد أكلتها الأرضة، ونسج الزمان علها خيوطه، وأحدث الكتب الأوربية فكرا وطبعا وتجليدا. ولكل من هذين ظل في عقله، وأثر في رأسه. يسره تأبط شرا في بداوته وصعلكته و (جوته) في حضارته وإمارته ويؤمن لشاعرية هذا وذاك. يسمع إلى الملحدين فيصغي إليهم، وإلى المؤمنين فيحن شوقا لذكراهم، يهمل في صلاته ويحافظ على صومه. إن ألحد فكره لم تطاوعه طبيعته، وإن كفر عقله آمن قلبه. ومن أصدقائه السكير والزاهد، والفاجر الداعر والعابد. وكلهم على اختلاف مذاهبهم يصفه بأنه يجيد الإصغاء كما يجيد البليغ الكلام.

سرت معه سيرة من جنسه، فأحببته وكرهته، ونقمت منه ورحمته، وكنت أنس به واستوحش منه، يبعد عني فأتوق إليه، ويطول مقامي معه فأتبرم به.

وأخيرا، لم يقو جسمه على هذه الأضداد مؤتلفة، والمتناقضات مجتمعة. فعاجله الشيب في شبابه، وتقوس ظهره في ربيع عمره، وأصبح مترهل العضل، منسرق القوى، يظنه من رآه أنه بلغ أرذل العمر، ولداته في رونق الشباب وميعة النشاط.

بلغني مرضه، فلم أدركه إلا جنازة فشيعته إلى أن أنزل حفرته وأجن في رمسه ونفضت من ترابه الأيدي!

وعدت موجع القلب باكيا، ضيق الصدر، مكروب النفس، أخذني من الحزن عليه ما تنقض منه الجوانح، وتنشق له المرائر، فعلمت أن حبي له كان أعمق من كرهي إياه، وأن نقمتي عليه لم تكن الا مظهراً من عطفي عليه، أني كنت أقسو عليه رحمة به! رحمة الله عليه فقد حطم بعضه بعضا، ومضى قتيل روحه شهيد نفسه!