مجلة الرسالة/العدد 198/هتاف الشيطان
→ الفلسفة الشرقية | مجلة الرسالة - العدد 198 هتاف الشيطان [[مؤلف:|]] |
على أطلال الماضي ← |
بتاريخ: 19 - 04 - 1937 |
للأستاذ عبد المغني علي حسين
كنا في حجرة استقبال، بدار إنجليزية، بإحدى مدائن إنجلترا، والفصل شتاء، والوقت ليل؛ فالستائر مسدلة، ونار الفحم موقدة، ونحن في غمرة من الدفء الشهي، ذلك الموج الخفي. في اللجي الأثيري. وكانت الطبيعة في تلك الليلة غضبى والريح تهب من جميع الجهات إلى جميع الجهات، يجن جنونها فتثب على الشجر المنحف العاري تعركه عركاً وتكاد تمزقه وتشظيه، لولا تلويه، فتختلط زمجراتها بعويل الشجر. كانت الريح في الفينة بعد الفينة تهوي علينا من المدخنة، كأنما تبحث عنا جاهدة، فإذا استعصت عليها الأبواب والنوافذ لم تتحرج أن تأتي البيوت من سقوفها، فتنقض علينا تنفث في وجوهنا السناج والدخان. ثم ترتد من المدخنة لتكر على زجاج النوافذ تحصبه برشاش المطر.
كنا في الحجرة أثنين. أما الثاني فسيدة إنجليزية شقراء أرملة في نحو الخمسين، تنحني على النار فتجيل فيها العود، وتعتدل فتضع ساقاً على ساق، وتنظر إلى اللظى بعينين رماديتين حالمتين حزينتين. هي (صاحبة البيت) كما كنا نسميها. كنا نسمر سمراً متراخياً أكثره سكوت، إذ كان الحس موزعاً ما بين تخدير الدفء وتخويف الطبيعة. إلى أن حدث أمر أيقظ منا الحس. وأهاج النفس، فإذا هياج الطبيعة من هياج النفس كخطر النسيم من لفح الجحيم.
ذلك أنه كان على إحدى حوائط الحجرة لوحة فيها رسم فتى وفتاة كلاهما في نحو العشرين أو دونها، أما الفتى فكان صغير الجرم. في وجهه إشراق الذكاء. وفي هيئته جد وحيوية؛ يبسم للدنيا - الدنيا المخاتلة! وأما الفتاة فكانت ناهداً هيفاء بسمتها الحلوة خليقة أن تمحو مرارة الدهر، وتطرد الحزن من أقطار الوجود. شعرها مكور على رأسها على النمط الفكتوري؛ ثوبها طويل محكم يبدي من سحرها النسوي ما لا أظن العري يبديه؛ وقفتها فيها ميل من الدل والطراوة، وعيناها رماديتان حالمتان كان في الفتاة من سيدة الدار شبه، ولكنه ضئيل جداً.
لاحت منّي إلتفاتة إلى تلك الصورة، فقلت أسائل السيدة عنها وأجعلها موضوع حديث. فما إن فعلت حتى رأيتها وجمت وجوماً انقبض له صدري. قالت: (ألا تعرف من تكون الفتاة؟) قلت (من؟) قالت (أنا). فلم أقل شيئاً، ولكني عجبت من فعل السنين، لئن كانت تلك هي هذه فإن الزمن لم يترك منها إلا بقدر ما ترك في جسم أبي الهول من شكل الأسد. لابد وأن تكون أهوال ألف عام قد حشدت في عمر هذه السيدة حتى صارت مما كانت إلى ما هي الآن.
قلت فمن الفتى الوسيم؟ قالت (زوجي) واغرورقت عيناها الحالمتان، ومن الغريب أن الدموع لم توقظهما من أحلامهما.
حسبت أنني آلمتها بذكرى هناء ذاهب. وحبيب غير آيب، فقلت متعثراً معتذراً: (أخشى أن أكون أدميت جرحاً عله كان اندمل. فقالت (لا أخال مثل جرحي يندمل. وتلا ذلك سكوت وجدته خيراً من الكلام، ووددت لو أن كلاماً لم يكن.
ثم رأيت السيدة تنظر إلي نظرة فيها حنان الأم، وإذا بها تقول: (أوصيك يا بني ألا تذوق الخمر أبداً، فإن كنت شربتها فلا تقربها بعد اليوم). فدهشت لهذا الكلام المفاجئ وعجبت له. قلت (ما هذا الذي تقولين؟) قالت (لقد كانت حياتي مأساة يؤلمني أن أقصها فأحياها من جديد، ولكنها عبرة نافعة لمن هو في سنك، فسأقصها عليك.
كان زوجي في أول عهدنا فتى جم المحاسن، شديد الحب لي وللأطفال، يهوى العش الذي بنينا، وكان في عمله مثال النشاط، جم الكفايات. وشاء الجد العاثر أن ينقل إلى وظيفة (بالجمارك)، فكانت مهمته تقدير المكوس على الخمر التي ترد من الخارج، ومرت الأيام فإذا بي أشم ريح الخمر في فم زوجي، فأبديت له مخاوفي، فطمأنني قائلاً إنه يسترشد في عمله أحياناً بتذوق عينات الخمر، وإنه إنما يفعل ذلك بحذر وما يتناوله لا يذكر. ومرت الأيام فإذا به يعود إلي يترنح من الشراب ثم لم يعد المحب العطوف البسام، بل صار غضوباً إذا كلمته رفع صوته بالجواب الخشن. ثم ازداد فكان لا يفرغ هراؤه ما دمت بمرأى منه. ثم استغلظ فصار يضربني ويضرب الأطفال. كل ذلك وأنا حافظة عهده، أكتم ما أنا فيه عن الناس ثم حدث ما لم يكن منه بد، ففصل من عمله لقلة كفايته وسوء خلقه، واستعجف عيشنا، فأكلنا ما ادخرنا في العهود السمينة ويعلم الله أننا ما كنا نأكل بمعشار ما كان ينفق في الشراب. ثم ساءت صحته، وألح عليه السعال، فكان يسعل الليل بطوله وأنا معه يقظى حتى الصباح. وذات صباح انتبهت من غفوة فلم أجده في فراشه، فحسبت أنه بدورة المياه، ثم شممت رائحة غاز الاستصباح، فخفت أن يكون صنبوره بالمطبخ بات مفتوحاً فذهبت إلى هناك. فوجدت باب المطبخ مغلقاً، فعالجته حتى انفتح، وتراجعت إلى الوراء خشية الغاز السام، ثم نظرت أمامي فرأيت. . . ويا لهول ما رأيت. . .) وغطت وجهها بكلتا راحتيها وزلزل صدرها بنهنهة خفت أن تحطمه. قالت: (رأيته ممدداً في أرض المطبخ وقد استنشق من الغاز القاتل حتى قضي الأمر).
ثم كفكفت عبراتها، وهدأ صدرها، وجلسنا واجمين صامتين، كأنما الميت ممدد أمامنا ونحن لجلال الموت في خشوع. أردت أن أقول شيئاً أنفس به عنها فلم أجد ما أقول، وماذا يقال في رجل قتل عقله بالشراب. وقتل نفسه بالغاز. عمد إلى أنفس ما أعطاه الله، وإلى أقدس ما أعطاه الله فدمرهما، ومرغ معه في رغام التعاسة سيدة فاضلة وأطفالاً بيض الصحائف.
وحان وقتت انصراف السيدة، فجلست وحدي، أنظر إلى نار الفحم، وإنها لأبرد من نار الصدور، وذهب بي الخيال مذاهب عجيبة، حتى لقد خلت أني أرى الشيطان نحيف الوجه مستطيله محروق الجلد طويل الأصابع أحمر العينين، في مجلس من أعوانه، في جوف بركان خامد، أول ظهور الإنسان على الأرض. قرض الشيطان بأنيابه المعوجة وقال: (ماذا ترون في الدمية التي صنع الله؟) مشيراً بإبهامه إلى أعلى حيث سطح الأرض. قال أحد الأعوان: (إن في رأس تلك الدمية) جوهرة تغشى بصري، لو اعتنى بها ذلك المخلوق، وتبع ضياءها ببصره، كاد أن يرى الله جهرة!). فازداد قرض الشيطان بأنيابه وصاح: (أريد جديداً أيها الأبله) فسكت الجميع زمناً ثم عاد الذي تكلم فقال: (والله ما أحسب ذلك المخلوق إلا مفلتاً من أيدينا بجوهرته تلك، فهي خليقة أن تسمو به إلى حيث النور، ولا يبقى في الظلام خائباً منبوذاً إلا نحن). فوثب عليه الشيطان وثبة فر أمامها فأخطاته. ثم عاد الشيطان إلى مقعده والشرر يتطاير من عينيه، وإذا بجني يهبط عليهم من فوهة البركان وهو يصيح: (أحطت بما لم تحيطوا به، وجئتكم بنبأ عظيم) فصاح به الشيطان: (والله لقد كنت أنتظرك أيها الملعون لأقطع أوصاك بعد هذا الغياب الطويل. قل فلعل عندك ما يشفع لك) فشرع الجني يقول:
(بصرت بقبيل من تلك المخلوقات البغيضة يعيشون في كهوف هذه الجبال، فتخيرت واحداً منهم قوي الجسم مغروراً، فصرت أزين له الفتك بأقرانه، وفي ذات يوم رأيت امرأته تدق الحب بالحجر لتطحنه، ثم وضعت الطحن في حفرة بالصخر وذهبت لبعض شأنها، فزينت لأولادها العبث، فحملوا الماء وكفئوه على الطحن، ثم أنسيت المرأة طحنها يومين ليفسد، فتصاعد منه ريح خانق. وفي اليوم الثالث حضر الرجل من الصيد ضمئاً يلهث، ونادى على المرأة لتسقيه ولم تكن المرأة بالكهف، فثار ثائره، وبحث عن ماء فلم يجد فانتهزت الفرصة وأرشدته إلى حفرة الماء والطحن ليشرب مما بها فيتسمم فيموت، فلما بلغ الحفرة نظر فيها وعاف رائحتها فزينت له الشرب منها، وكان ظمؤه بالغاً، فشرب قليلاً وسكت ثم عاد يشرب حتى امتلأ، وأنا أكاد أطير من الفرح، ثم رأيته يقوم مترنحاً يضحك ملء شدقيه، فعجبت، وإذا به يسير بين الكهوف يجري وراء النساء كالمجنون فيهربن منه مذعورات، ثم لقي امرأته فهجم عليها كالوحش وقتلها شر قتلة. ثم أخذ يقتل كل من صادفه من الرجال ويعتدي على النساء. ذلك الذي حسبته سيموت قد ازداد قوة وجرأة، وأخيراً ارتمى فنام، ثم صحا بعد ساعات فرجع إليه صوابه كما كان، فعلمت أن ذلك الشراب يفقد الرجل عقله إلى حين.
عاد الرجل إلى كهفه، فلما رأى الخابية مال عليها يكرع وأعاد سيرة الأمس، وتحدث أهل القبيل بهذا الأمر العجيب فجاء الرجال وكرعوا من الخابية، وجنوا مثل صاحبهم، وقد تركتهم ولا عمل لهم إلا صنع ذلك الشراب والعب منه، وتهتيك النساء، وتقتيل الرجال ولا أحسب قبيلهم بعد قليل إلا صائراً أثراً بعد عين)
فما إن سمع الشيطان هذا الحديث حتى وثب على المتكلم ولكن ليعانقه ويقبله. وتصايح الجمع صيحات الفرح، وأخذوا يرقصون ويقفزون. ثم رفع الشيطان يده فسكتوا فقال: (أيها الإخوان! لقد تجدد أملكم بذلك الشراب العجيب فانفروا إلى سطح الأرض. وانتشروا في المشارق والمغارب، وعلموا العدو الأبله صنع الشراب، وزينوا له شربه، فسيفرح الغبي به، ويذيب منه جوهرته اللعينة، فإذا شربه صار لعبة في أيدينا، وإذا أفاق اشتاق غليه فلا نزال به حتى نهلك منه الروح والجسد جميعاً، قولوا معي أيها الإخوان: لنحيي الخمر.
فتدفقوا وهم يرددون هذا الهتاف، ولا يزال هذا هتافهم إلى اليوم.
عبد المغني علي حسين