مجلة الرسالة/العدد 197/الديمقراطية
→ نقل الأديب | مجلة الرسالة - العدد 197 الديمقراطية [[مؤلف:|]] |
تلخيص وتعليق ← |
بتاريخ: 12 - 04 - 1937 |
تساوي الفرص لا تساوي الأنصبة
للأستاذ أديب عباسي
ليس بين مسائل الاجتماع ما يسيء جمهور الناس فهمه ويخطئون دلالته كما يسيئون معنى الديمقراطية الصحيح في مختلف مناحيها ونواحي تطبيقها على شؤون الحياة الاجتماع. فهي في رأي قوم تحلل من قيود الاجتماع وخروج على كل عرف وعادة؛ وعند قوم غيرهم هي قسمة عادلة وملك مشاع لكل ما بيد الناس من متاع تالد ومال طريف؛ وعند فئة أخرى لا يكاد يعدو معنى الديمقراطية نطاق السياسة ومجال الحكومة، بل هذا المعنى الأخير للديمقراطية يكاد اليوم يطغى على كل معنى سواه وذلك لكثرة ما يحمل محامل السياسة ويورد مواردها العديدة في هذه الأيام.
أما أن الديمقراطية بمعناها الأعم ودلالتها الأدق ليست على الحصر هذا ولا ذاك مما مر، فشيء يحتاج إلى بعض البسط والبيان؛ فليست الديمقراطية انطلاق النفوس على سجاياها فلا قيود تراعي ولا حدود تلتزم، ولا هي تعني تسليط النوكي والكسالى على جهد المجدين فينالون منه ويصيبون مثل ما يصيب المجد بالعرق الصبيب والجهد الدؤوب؛ ولا هي تحصر في نطاق السياسة الضيق وان وسعته الجرائد وضخمه الساسة ليست الديمقراطية بمعناها الأدق أمراً من هذه الأمور. وإنما هي بدلالتها الصحيحة ومعناها العام تيسير على الناس وتهيئة لهم ليقفوا من فرص الحياة المتاحة موقفا عادلا فيشتركوا شركة متساوية في هذه الفرص المتاحة لا في الأنصبة المحققة ونتائج الجهد المبذول.
وبعبارة أخرى تكون الديمقراطية ديمقراطية المثل الأعلى إذا انصرفت إلى تهيئة الأسباب وتيسير السبل التي تجعل كل فرد من أفراد الأمة ينال على قدر استعداده وكفايته من فرص النجاح ووسائل التوفيق. وإذا شبهنا الحياة بميدان للسباق فالديمقراطية الصحيحة أن ينطلق المتبارون من نقطة واحدة بعد أن يعدوا أعداداً عادلا لهذا السباق، لا أن يكبل البعض أو يحجز عن السباق أو يترك بلا أعداد ثم يحاسب على تخلفه ويلام على إبطائه!
وإذاً فالديمقراطية الصادقة هي ديمقراطية التيسير على الناس لإظهار كفاياتهم واقتدارهم الموهوب والمكسوب. وكل ما يؤدي إلى هذه النتيجة الأخيرة فهو في صميم الحق، وكل ما يؤدي إلى عكسها فليس من الديمقراطية في شيء. وفيما يلي شرح لوسائل تيسير الديمقراطية على النحو الذي عرفناها به.
وفي أول هذه الوسائل بل أولها أن يعم التعليم وينتظم التثقيف جميع أفراد الأمة ثم يسار فيه على نهج واضح من الاختصاص والأفراد. وعموم التعليم يجئ في أول وسائل الديمقراطية لأن عصرنا هذا عصر العلم والسرعة والاقتصاد، لإنجاح فيه مضمون إلا لمن توسل للنجاح فيه بوسائل من علم يتقن أو فن يكتسب والأوربيون على أتم الإدراك لهذه الحقيقة فتراهم لا يألون جهداً ولا يدخرون وسعا في تعميم التعليم وتيسيره بحيث ينتظم جميع أفراد الأمة ويصيب كل منه على قدر استعداده وكفايته. وهم يبالغون ويشددون في هذا التعميم والتيسير فلا يكتفون أن يعدوا وسائل العلم والتثقيف ويتركوا أمر اكتسابها لاختيار الجمهور وهوى الأفراد، بل تراهم يفرضون العلم والثقافة فرضا على جميع أفراد الأمة فلا يستطيع أحد أن يستمر على أمية أو يمضي في جهل حتى لو أراده. والأوربيون بعد لا يكتفون بأن يعمموا التعليم ويفرضوه على جميع الأفراد، بل تراهم ينوعون العلم ويعددون فروع الاختصاص حتى يصيب كل فرد من العلم ووسائل النجاح ما يتلاءم وكفاياته الخاصة ومواهبه الموروثة. وهذا هو الذي من اجله تفتح الجامعات ودور الفن الخاص حيث يستطيع كل فرد أن ينال من العلم والفن كماً وكيفاً خير ما يستطاع نيله. على أن حرص ذوي الشأن هناك على استغلال كفايات الأفراد أحسن استغلال لا يدعهم يتركون الأفراد وهواهم واختيارهم لما يشاءون من العلم والفن بل تراهم في كثير من الأحوال يتدخلون في حرية الأفراد ويحددون اختيارهم ويربطون بنوع ابرز كفاياتهم، فترى المربين وعلماء النفس يتوسلون باختبارات الذكاء العام والخاص، ليدركوا مبلغ قابلية الفرد للعلم وليدركوا في أي نواحي المعرفة والمهارة يستطيع أن يجيد ويبرز نسبيا أو إطلاقا ثم يدفعونه في ناحية ابرز كفاياته فتكون النتيجة خيرا له ولقومه
ولا يكتفي أولو الشأن هناك بأعداد الفرد أحسن الأعداد وتزويده بأحسن زاد من العلم والخبرة، بل تراهم يزيلون من طريقة الكثير من العثرات والعقبات المصطنعة غير الطبيعية؛ فلا مذهب سياسي ولا عقيدة دينية ولا منزلة اجتماعية ولا نفوذ شخصي بمعطِ فردا فرصة من النجاح لا تؤهله لها كفاياته على وجه الدقة أو التقريب. هذا ولسنا نزعم أن جميع الدول الأوربية بلغت من فهم الديمقراطية وتطبيقها هذا المبلغ، وإنما الذي نزعمه أن معظم هذه الدول الأوربية تفهم الديمقراطية هذا الفهم ويسعى مخلصا لتطبيقها، ومن هذه الدول من بلغت شأواً بعيدا في التطبيق.
ولا يقف الأوربيون من تحقيق الديمقراطية عند هذا الحد الذي شرحنا، بل تراهم يبذلون قصارى الجهد ليهيئوا لجميع أفراد الشعب جواً روحيا متقاربا لا في دور التعليم وحسب، بل في كل مرحلة أخرى من مراحل الحياة. فترى الحكومات الأوربية تبذل الجهود الكبيرة والأموال الوفيرة لإنشاء الحدائق العامة ودور التمثيل والسينما والمكتبات العامة وخلافها من المؤسسات الاجتماعية الروحية، فلا يكون ميسورا لأفراد دون أفراد سبيل الاستمتاع بما تيسره هذه المؤسسات من متع روحية غالية.
ويدرك الأوربيون العلاقة الوثيقة بين صحة الجسم وبين صحة الفهم وجودة الإنتاج، فترى الحكومات والجماعات غير الحكومية تبذل أقصى الجهد لإنشاء الأطفال نشأة صحيحة سليمة، ولا نزعم هنا انهم بلغوا المثل الأعلى في هذا الشأن وإنما نزعم انهم ساروا شوطاً بعيداً في تحقيق هذا المثل ولا زالوا يسعون ليصلوا نهاية الأمد.
هذا ومعظم الدول الأوربية تسعى للمباعدة بين الأفراد وبين روح الاتكال، وللظن ببذل الجهد أركاناً إلى ثروة تورث أو مال يأتي عن غير طريق السعي والعمل، فتراها تقتطع لنفسها من أموال الإرث مبالغ طائلة، فتقلل بذلك من روح الاتكال في الأفراد الوارثين، وتبذل هذا المال المقتطع في تيسير الكثير من أسباب الثقافة والاستمتاع والصحة لمن تعوزه إليها الوسيلة.
وليس هذا كل ما يفضي إليه فهم الديمقراطية وتطبيقها على النحو الذي أبنا في أول هذا المقال، فمما لا ريب فيه أن الديمقراطية التي تفهم هذا الفهم وتطبق هذا التطبيق تكون الوسيلة التي ليس فوقها وسيلة لتحسين أنواع الإنتاج المختلفة كماً وكيفاً، ولبث روح الرضى والاطمئنان في نفوس الجمهور إذ ليس في الحق ابعث على الرضى في نفوس الأفراد من شعورهم بأنهم يعملون في أحسن ما اعدوا له من عمل وأن الحكومة والهيئة الاجتماعية قد أعدتا لهم احسن الوسائل الحسية والفكرية والروحية لتوجيه كفاياتهم في خير وجهتها ثم الانتفاع من هذه الكفايات بإبرازها قوية واضحة أحسن الانتفاع.
أديب عباسي