مجلة الرسالة/العدد 196/في رأس السنة الهجرية
→ الجزيرة والتاريخ الإسلامي | مجلة الرسالة - العدد 196 في رأس السنة الهجرية [[مؤلف:|]] |
من صفحات البطولة ← |
بتاريخ: 05 - 04 - 1937 |
معنى الهجرة
للأستاذ علي الطنطاوي
. . . مشى (عبد الله) حذراً، يتلفت إلى الوراء خشية أن يراه بعض سفهاء قريش، فيقطعوا عليه سبيله، فلم ير أحداً، وكانت طريق مكة خالية لأن الناس قد أموا الحرم ليجلسوا في مجالسهم كعادتهم في كل مساء فاطمأن وسار قدما، حتى إذا خرج من مكة وجاوز الحجون، واتسع الوادي أمامه وانفرج، صعد الجبل يأخذ طريقه إلى الغار؛ ونظر. . فراقه منظر الغروب. على هذه السفوح والذرى، وأحس بجلال الموقف، وأخذ عليه نفسه هذا الصمت العميق، وهذه الصفرة التي تعم كل شيء، فنسي غايته ووقف ينتظر. . رأى مكة تلوح أبنيتها من فرجة الوادي، وتبدو الكعبة قائمة في وسطها، والأصنام التي تحف بها تظهر على البعد كأنها لطخ سود. . فذهب به الفكر سريعا إلى ذينك الرجلين اللذين تركهما صباحا في الغار. وذهب يتحسس لهما خبر قريش. ويعلم علمهما. ذكر النبي ﷺ وأباه الصديق. . فخاف أن يكون قد أصابهما شر، فاغمض عينيه عن هذه المشاهد، ومضى في طريقه وهو يتعجب من قريش حين زهدت في المجد والظفر، وآثرت هذه القرية الجاثمة بين هذين الجبلين كأنما هي مخبوءة في صندوق من الصخر، على السهول والجنان والمدائن التي أراد النبي ﷺ أن يقودها إليها وانصرفت عن الراية التي دفعها إليها محمد، لتسير بها إلى أرض النخيل والأعناب فتركزها في دمشق والإسكندرية، وعلى إيوان كسرى. وفضلت عليها رايتها التي لم تتعود الخفق في سماء المعارك الكبرى، ولا ألفت الاهتزاز على أسوار المدن المفتوحة. . لقد عرض محمد على قريش أن تعطيه هذه الأصنام ليكسرها. ويعطيها بدلا منها ملك كسرى وقيصر، ويعطيها العقل المبدع، والقانون العادل، والعبقرية والخلود، فأبت، وعكفت على أصنامها وتماثيلها. . فما أعجب عقل قريش!
ونظر إلى مكة مرة ثانية، فإذا الظلام قد لفها بردائه، ثم ابتلعها ولم يعد يبدو منها إلا بصيص من النور فخالط نفسه سرور مبهم، وشعر بزوال هذا الخطر القرشي، واستروح رائحة الظفر، فامتلأ قلبه أملا، وجعل يجيل بصره في الأفق الواسع، فيخيل إليه أنه يرى راية محمد ترقص على هام القصور البلق في الشام، والصروح البيض في المدائن. . . فمضى يتسلق الصخور إلى الغار، وهو يقفز قفزاً، يظن من شدة النشاط وقوة الأمل أنه سيطير!
وكانت الجزيرة يومئذ تتمخض بالموجة الكبرى. . . ولطالما ماجت هذه البرية القاحلة التي تلتهب في أيام الصيف التهاباً، وهذه الرمال التي تسلسل إلى غير ما حد، ففاضت على أرض العراق الشام وكانت منبع الحياة. لقد كان ذلك، والتاريخ جنين في بطن العقل البشري لم يولد بعد، وكان وهو طفل لا يعي، وكان والتاريخ صبي يميز ويدرك، فرآه فسجله في دفتره. . .
رأى وادي النيل، وحوض الرافدين، يمشيان إلى الخراب، قد نضبت فيهما الحياة، فما راعه إلا موجة تنشأ من الجزيرة، من وسط الرمال، فتقذف إلى مصر بـ (مينا) ليكون أول فرعون فيها، وتلقى ببني كلدة إلى العراق، فإذا هؤلاء الوافدين من أعماق القفز، يفتحون حقائب أدمغتهم، فيخرجون منها الحضارة الأولى، (حضارة البابليين القدماء) قبل الميلاد بستة وثلاثين قرناً
ويكر الزمن، وتدور الأفلاك، فتطحن الناس، وتحطم الحضارة وتطفئ الشعلة، فتنادى العراق والشام يطلبان المدد، وتسمع الصحراء فتتهيأ وتتحرك وتموج موجة أخرى فيقذف إلى ساحل البحرين بأنشط (مجموعة بشرية) عرفها التاريخ القديم، ثم تلقي بها إلى ساحل سوريا لتطل على العالم، فلا تلبث أن تغلغل فيه تحمل إليه تجارتها وحروفها ولا تلبث أن تغدو شريان الحياة في العالم، وتنشئ في كل موضع (مستعمرة فينيقية) هي في الحقيقة مدرسة عالمية، كان من أمهر من تخرج فيها (اليونان)
ولقد ماجت الجزيرة موجات أخرى. . . ولكنها اليوم تتمخض بالموجة الكبرى!
فكر (عبد الله) في هذا وهو يتسلق الصخور، إلى الغار، وكان لطول ما سمع من حديث الإسلام شديد الرغبة في توحيد العرب، وسوقهم إلى إنقاذ أرض الوطن (في الشام والعراق) من الحكم الأجنبي، وكانت هذه الفكرة جديدة لم يعرفها العرب، أثمرتها في رأس (عبد الله) الدعوة التي استجاب لها، وآمن بها، واستسلم عبد الله إلى أفكاره، وأطلق لها العنان، وشمل العالم كله بنظرة واحدة، فرآه ينتظر شعباً جديداً طاهراً لم تدنسه تلك الحضارة الزائفة، حراً لم تذله تلك الأنظمة الجائرة، أبيا لم يألف طغيان الملوك، وجبروت الأباطرة، ليختم صفحة الماضي السوداء، ويفتح في التاريخ صفحة بيضاء جديدة
إن البناء القديم قد تهدم وخرب، ولم يعد صالحا، ولابد من شعب قوي ماهر، يهدم هذه الأطلال البالية، ثم ينشئ بناء جديدا.
إنه ليس في العالم إلا ثلاث كتل كبيرة. . . كتلتان تتصارعان صراع الديكة، قد أمسكت كل واحدة بعنق الأخرى، فسالت دماء الشعوب، والملوك يضحكون ويفرحون لأنهم سيصبغون بالدم ثيابهم لتغدو قرمزية حمراء، يمتازون بها من (سواد الشعب) وطاحت جماجم الشعوب، والملوك يضحكون ويفرحون، لأنهم سيبنون منها برجا، يترفعون به عن غمار الشعوب
هاتان هما الإمبراطوريتان الفارسية والرومانية، وهناك كتلة أخرى في زاوية الكون نائمة على ضفاف (الكنج) ووراء (همالايا) لا يدري بها أحد. . .
أمم تشقى ليسعد أفراد. شعوب تضنى ليحيا رجال. مدن تحرق لتشعل منها (سيجارة) إن هذه حال يجب أن يوضع لها حد! فمن هو الذي ينقذ العقل البشري من قيود الجهل والاستبداد! من هو الذي يمحو هذه الأرستقراطية العاتية السخيفة؟ من يهدم هذه الهياكل البالية ليقيم على أطلالها صرح الحضارة؟ من الذي يمهد السبيل للمستقبل المنتظر، لعصر الراديو والطيارة؟ لعصر العلم والفضيلة؟ لعصر الحرية والعدالة والمساواة؟ لعصر السوبرمان. . .
لا أحد!
كل شيء هادي في العالم!
إن القافلة تمشي ببطء في عرض البادية، قد خرس الحادي، ومات الدليل، إنها تمشي نحو الموت!
إن السفينة تتخبط في لجة اليم، تميل وتضطرب، لم يعد لها أمل، قد هبت العاصفة وطغى الموج، وغرق الربان!
يا من يهد القافلة الضالة؟
يا من يخلص السفينة الحيرى؟ يا من ينصر الشعوب المظلومة؟ يا من يحمي العقل المهان؟ يا من ينقذ الفضيلة المعذبة؟
ليس من مجيب، كل شيء هادي في العالم!
بلغ السيل الربى، وعم اليأس، واشتدت المصيبة، فتلفت الناس فلم يجدوا أمامهم إلا البيع والكنائس، فأموا بيوت الله، ونفضوا أيديهم من الدنيا، وجاءوا يبغون فيها الفرج، لقد سدت في وجوههم كل الأبواب، ولكن باباً واحدا لا يزال مفتوحا فوق رءوسهم، هو باب السماء.
وسمعوا الفرج على ألسنة الكهان ورجال الدين، علموا أنه سيبعث نبي جديد، يطهر الأرض، وينشر العدل، فخرجوا فرحين مستبشرين، قد أحيا قلوبهم الأمل
وطفقوا يفتشون عن النبي الجديد، فتشوا عنه على ضفاف الأنهار في سهول العراق الجميلة. . . فتشوا عنه على جبال لبنان الشجراء، وحدائق الشام الغناء، فتشوا عنه في المدن الكبرى، عله يظهر إلى جانب القصور في القسطنطينية والمدائن، مثوى الجبروت البشري، فيهزها ويزلزلها، فتشوا عنه في كل مكان فلم يجدوه، إنه لن يخرج في السهول ولا في الجبال ولا في المدن الكبرى - ولكنه سيخرج من حيث انبثقت الحياة، من حيث بزغ فجرها من حيث خرجت الحضارات الأولى. . . من الجزيرة
تلك هي أم العالم فليلجأ العالم إلى أحضانها، كلما حاق به خطر؟
فتشوا عن النبي المنتظر في كل مكان فلم يجدوه، وازداد عسف الملوك، وظلم الطغاة، واشتد البلاء، وكمت الأفواه، وقيدت العقول، وديس الحق. . . فلجأ الناس مرة ثانية إلى البيع والكنائس. فسمعوا فيها البشارة، وكانت هذه المرة واضحة قريبة. . .
(يا شعوب العالم)!
(استبشروا فقد نشأت اليوم الموجة الخيرة التي ستغمر العالم - وتغسله من أدران الماضي - لقد نشأت من غار عال منقطع. في قمة جبل رفيع، ومشت تقطع الرمال - نحو أرض الثمار والرياحين - نحو أرض المدنيات. . . لقد ابتدأ اليوم أكبر حادث تاريخي: إن ركاب النبي المنتظر، قد تحرك من مكة يسير إلى نصرة الشعوب - إلى حماية العقل، إلى إنقاذ الفضيلة، إلى إنشاء عصر الحرية والعدالة والمساواة)
فخفقت القلوب في كل مكان لذكر النبي المصلح، وعاشت بحبه، وسألت:
- إلى أين بلغ؟ إلى أين بلغ؟ - لقد بلغ الغار، فوقف فيه يودع هذه الجماعة السخيفة، التي جاءها أعظم رجل، بأعظم مبدأ، فلم تفهم منه شيئا، وحسبت أنها تستطيع القضاء عليه، فهي تريد أن ترد النبي فتقتله أو تسجنه، فهي تبعث رسلها، يفتشون عنه في أنحاء البادية، وشعاب الجبال، ومنعرجات الأودية، وينفضونها نفضاً، ولكنهم يعمون عن هذا الغار العالي المكشوف الذي يطل منه سيد العالم
- أهؤلاء يحرمون البشر من العصر الذهبي المرتقب؟ ويقضون على الأمل الوحيد الذي تعيش به ملايين الخلائق؟ يا للمجرمين، يا للجاهلين المغترين!
وتفرق الناس يهتفون في كل مكان باسم المنقذ الأعظم، باسم النبي!
وانتبه (عبد الله) فإذا هو قد تأخر، وضل الطريق، فصحا من ذهوله، وتسلق الصخر مسرعا نحو الغار، لقد فهم معنى الهجرة، التي لم تفهم قريش معناها - وحسبتها سفرا من مكة إلى المدينة، لقد علم أنها انتقال من الماضي الأسود الكئيب، إلى المستقبل المشرق المنير. . . فليقفز إلى الغار قفزا. . .
وبعد، فيا من ينعمون بحضارة القرن العشرين:. .
يا من يعرفون قيمة الفكر البشري، ويستمتعون بثمراته. . .
يا من يقدرون العدالة والحرية والمساواة. . .
لا تنسوا أبداً أن المنار الذي اهتدت به القافلة الضالة، والسفينة الحيرى، إنما خرج من ذلك الغار، فاذكروا دائماً عظمة هذه الغيران غار (حراء) إذ بزغت منه أنوار الديانة التي هذبت العقل الإنساني، وأرشدته إلى أقوم سبل الحقيقة والخير والجمال، وغار (ثور) إذ بدأت منه الموجة التي نسفت قصور الظالمين، وصروح العتاة، وقفت على الماضي السخيف، وحملت إلى العالم أسمى المبادئ وأعلاها، حين حملت إليه تعاليم حراء
إن هذه الغيران كعبة في التاريخ، لا ينبغ عقل ولا يمشي في طريق التفكير الصحيح، إلا بعد أن يطيف بها، ويقف عليها. . .
إن العالم قد سار نحو الكمال، يوم سار محمد (ﷺ) نحو الغار. . .
إنه لولا الهجرة، ولولا الفتح الإسلامي. . . ما خرج العالم من الهوة، التي دفعته إليها أرستقراطية السادة الأشراف، وجبروت الملوك المستبدين. . . ولا كانت حضارة القرن العشرين!
. . . هذا هو معنى الهجرة، التي نحتفل اليوم بذكراها، فحق على كل متمدن أن يشاركنا في هذا الاحتفال!
عين التنته - سوريا
علي الطنطاوي