الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 196/بين يومي الهجرة والفتح

مجلة الرسالة/العدد 196/بين يومي الهجرة والفتح

بتاريخ: 05 - 04 - 1937


حمامتان تتناجيان

للأستاذ محمود غنيم

قالت الأولى: هلمي يا أختاه نغادر سطح هذا الغار - غار ثور - قبل أن يدركنا هذا الجيش اللهام، فيغطينا العثير الذي تثيره سنابك خيله. يا لله! إنه ليحث الخطى نحو قومنا - قريش - ولا قبل لقومنا به، عشرة آلاف أو يزيدون - إن صدق حدسي - مع كل منهم سيفه القاطع ودرعه المنيعة، ويقين أقطع من سيفه وأمنع من درعه. يا لله لقريش! من أين أقبل هذا الجيش؟

قالت الثانية: لقد جاء القوم عن طريق يثرب، لكني لا أخالهم جميعا يثربيين. انظري، هذه خيل من سليم، وهذه من مزينة، وهذه من غطفان، هم أمشاج أخلاط، من كل فج وعلى كل لون؛ ولكن شيئا لا أكاد أتبينه، تبدو أنواره على أساريرهم، ويشع بريقه من عيونهم - يؤلف بينهم، ويجعل منهم كتلة واحدة كأنهم بنيان مرصوص

بيد أن شعورا داخليا في نفسي يجعلني لا أرهب هذا الجيش، هذا الجيش، حتى لأكاد أقف على ذباب سيوفهم وفوق شبا رماحهم آمنة مطمئنة، كأنني فوق منبر الحرم، أو على حافة مقام إبراهيم. انظري معي، أنعمي النظر، ألا ترين تلك الكتيبة الخضراء التي تتوسط الجيش؟ ألا ترين هذا الرجل الذي يتوسط تلك الكتيبة الخضراء، يومئ للقوم فيسيرون، ويقفهم فيقفون؟ إن لي عهدا بهذا الرجل - إن لم تخني الذاكرة - آه! تذكرت يا أختاه، أليس هذا صاحبنا بالأمس الذي استضفناه في هذا الغار ثلاثة أيام منذ عشرة أعوام؟ إنه محمد، محمد، محمد، ألا تذكرين؟

قالت الأولى: تذكرت كل شيء، حتى لكأن هجرته بنت الصباح، وكأن مكانه في الغار لا يزال حارا، وكأن جرس صوته يرن في أذني وهو يقول لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا) ألم أحدثك يومئذ أن لهذا الرجل شأنا؟ ما الذي أوحي إلينا يومئذ أن نحكم تدبير تلك المؤامرة التي اشتركنا فيها لتضليل القوم وإخفاء محمد عن عيونهم؟ يوم عششنا بفم الغار، وما كان فم الغار لنا بعش، ونسجت العنكبوت خيوطها على بابه، وما كان لها به عهد، وأرسلت الشجرة الجرداء ذوائبها فاعترضت الطريق إليه. لقد تضافرنا على تضليل الق حتى ضل القوم، فظلوا يتخبطون في كل مكان، ويهيمون في كل واد، يبحثون عن محمد، ومحمد منهم بحيث لو نظر أحدهم تحت قدميه، لعثر عليه

تذكرت يوم تألب شبان قريش على محمد، وأحاطوا بداره إحاطة السوار بالمعصم، ينتظرون طلوع الصباح، فيعطرون أديم الأرض بأطيب دم جرى في اطهر عروق، ويفصلون أعظم رأس عن اكرم جسد، وكيف أن محمدا تغفلهم في الهزيع الأخير من الليل فأضجع عليا في فراشه، وسجاه ببرده الحضرمي، ليوهم القوم أنه هو ثم انسل من بينهم، والكرى آخذ بمعاقد أجفانهم. كم كان ليلا هادئا ساكنا، لم يقطع عليه سكونه إلا دبيب محمد الخافت، يسير على أطراف أصابعه، وإلا طرقة هامسة من أطراف أنامله على باب صديقه أبي بكر سرعان ما استجاب لها، كأنما كانا على ميعاد، على أنهما لم يأمنا أن يخرجا من باب الدار، فخرجا من فجوة في الجدار، ثم اتجها في طريق اليمن حتى طرقا علينا باب الغار، وقد آذن أن ينبلج النهار، فقابلناهما بالنجلة والإكرام، طيلة ثلاثة الأيام. كم كان يثير إشفاقي وإعجابي ما كان يبدو عليهما من الخوف المركب في طبيعة الإنسان، مقرونا بالثبات الذي تبعثه قوة الإيمان!

نعم تذكرت ذلك كله، وتذكرت كيف كان عبد الله بن أبي بكر يندس بين قريش نهارا، ثم يوافيهما في الغار ليلا، فيسر إليهما ما يأتمرون به، وكيف كان عامر بن فهيرة غلام أبي بكر، يمر بغنم عليهما موهنا فيحتلبان ويذبحان، ثم يعفى بها على آثار عبد الله. وتذكرت يوم اعتزما الرحيل فالتمسا ما يعلقان به الطعام فشقت أسماء بنت أبي بكر - ذات النطاقين - نطاقها شطرين، علقت الطعام بشطر، وانتطقت بشطر. وتذكرت سراقة بن مالك وما كان من أمره يوم جعلت قريش لكل من يقبض على محمد مائة بعير، فخرج يلتمس محمدا، فإذا محمد من عن كثب. لكنه ما كاد يصيح صيحة الظفر، حتى شعر بجواده قد عثر، فأنهضه فكبا ثانية، ثم ثالثة، حتى كأن الحصان فقد قوائمه، أو فقد الأرض التي تستقر عليها قوائمه؛ وإذ ذاك رأى الفارس أن الأرض اثبت ظهرا من حصانه، فترجل ودنا من محمد، لكن لا ليقبض عليه، بل ليعتذر إليه. ألم أخبرك يومئذ أن الرجل يكتنفه غموض وتحوطه أسرار؟

قالت الثانية: دعيني مما تقولين، أي سر في جواد يكبو بصاحبه، أو في حمامة تبيض، أو عنكبوت تنسج خيوطها، أو شجرة ترسل أغصانها؟ إنما السر كل السر في تعاليم هذا الرجل التي تنفذ إلى قلوب أصحابه، فتفعل فيها ما لا تفعل خمر الأندرين ولا سحر بابل. لقد هاجر الرجل وهو وحيد طريد، فمن أين جاء بهذا العدد العديد، الغارق في يلب الحديد؟، أتذكرين ما كنت تتنبئين به يومئذ من أن أهل المدينة لن يكونوا أبر به من أهله الذين آذوه وطردوه، ولو تمكنوا منه لقتلوه، ولا من أهل الطائف الذين أغروا به الصغار، فحصبوه بالأحجار؟ أما كنت تقولين: ماذا عسى أن تكون إقامة محمد بين ظهراني أهل المدينة، والمدينة معقل اليهودية التي يناصبها العداء، ومهد الفتن التي لا تهدأ ثائرتها بين الأوس والخزرج، وبينهما ما بينهما من تراث ودماء، يتوارثها الأحفاد عن الأجداد؟

وقد ينبت المرعى على دمى الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا

لقد كنت تقولين ذلك، وحق ما تقولين، فليت شعري ماذا فعل محمد حتى استسل تلك السخائم المستأصلة من نفوس القبيلتين؟ وكيف هادن اليهود، وهم اشد تمسكا بتوراتهم، من أهل مكة بهبلهم ولاتهم؟ بماذا تفسير هذا؟ وما هو هذا الذي يأتي به يسميه قرآنا، فيصبه في الآذان كما تصب الخمر في الأفواه، ويتلوه عليهم كما تتلى الرقى والتعاويذ؟ إن لم يكن خمرا، ولم يكن سحرا، فأي شيء هو؟ لقد سافر محمد في قلة وذلة، لا ينفر منه وحش، ولا تشعر بوطأته أرض، فما باله يعود فتتدكدك الأرض تحت وقع سنابك خيله، وتلوذ الوحوش منه بقمم الجبال؟ كان هو وزميله ودليل عند هجرتهم يسيرون ليلا، ويختفون عن العيون نهارا كما يزور الحبيب الحبيب، عندما يخشى عين الرقيب

أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وانثني وبياض الصبح يغري بي

كانوا لا يأمنون نميمة الشمس، ولا إغراء القمر، ولا وشاية ظلالهم بهم، ولا يطمئنون إلى سلوك طريق معبدة ذلول، فهم أبداً يعوجون ويعرجون ويصدون وينحدرون، فما بالهم الآن يسيرون في وضح النهار، ويكادون يغطون قرص الشمس بما يثيرون من غبار، ويهتكون حجابها بكل صارم بتار؟

لشد ما تغيرت الحال! ولشد ما تدهشني تلك المغناطيسية التي تجذب إليه الرجال! ولعمري ما رأيت اتباعا أشد تعلفاً بصاحبهم من تعلق أصحاب محمد بمحمد. أو ما تذكرين يوم كانت قريش تطرح بلالا على الرمضاء إذا اشتد الهجير، وتلقي على صدره حجراً ينوء بحمله البعير، لكيف عن اتباع محمد، فلا يزيد على قوله: أحد، أحد؟ أو ما تذكرين يوم أسرت هذيل زيد بن الدئنة وباعته من قريش لتقتله ببعض قتلى بدر، فتقدم إليه أبو سفيان، وهو واقف على أبواب الأبدية وقال: أنشد الله يا زيد: أيسرك أن محمداً الآن في مكانك تضرب عنقه، وأنت في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحب أن تصيبه شوكة في قدمه وأنا في أهلي. أليس معنى ذلك أن القوم يتفانون في حب محمد ودين محمد، وهم أشد ما يكونون تفانيا إذا حزب الأمر واشتدت اللازبة وتحرجت المواقف)

قالت الأولى: لقد ذكرتني بأبي سفيان وإنني أكاد ألمح شخصاً يشبهه في سواد الجيش، يسير تحت لواء محمد. انظري معي، أنعمي النظر، كأنه هو، عجباً! أترينه هو أيضاً سرى فيه تيار كهرباء محمد وجذبه مغناطيسه فاستجاب له، بعد أن ناهضه من بدء دعوته؟ أليس هو قائد جيش المشركين ببدر، ثم بأحد ثم بالخندق؟ ثم أليس هو زوج هند بنت عتبة التي مضغت كبد عمه حمزة بأحد، وأرادت أن تشفى صدرها بابتلاعها لولا أن شعرت بمرارتها فلاكتها، ثم قذفتها، والتي آلت إلا يطأ فراشها أبو سفيان بعد بدر حتى ينتقم لأبيها وأخيها، والتي جدعت أنوف صرعى المسلمين بأحد، وصلمت آذانهم، واتخذت من كل ذلك قلادة تحلى بها عنقها؟ ليت شعري أترينها هي أيضاً قد استجابت لمحمد فاستجاب بعلها، إنها لأحاجي وألغاز

قالت الثانية: حقا أنني لألمح أبا سفيان يسير تحت لواء محمد بجوار عمه العباس، وليس غريبا أن يكون تيار محمد جرفه كما جرف آلافا من أمثاله. إن تيار محمد جارف، وريحه عاصفة تجتاح كل ما يعترضها في طريقها، ولئن كان أبو سفيان ناهض الإسلام ضعيفاً لما ضره أن يؤيده قوياً. وما أقل أشياع الضعيف حتى يشتد ساعده فيكثر أشياعه، وينضوي تحت لوائه من أسرف في عدائه. وهل تعتقدين أن كل من ناوأ الإسلام ناوأه مقتنعاً ببطلانه، أو أن كل من أيده أيّده بدافع من وجدانه؟ وهل كان أبو سفيان بدعا في الرجال؟ كم لأبي سفيان من أمثال وأشباه، كانت لهم تجارة وجاه أشفقوا عليهما وعلى أنفسهم من الهوان فصدهم ذلك عن الإيمان. أما وقد تغير مركز محمد فيجب أن يعتدل موقف هؤلاء من محمد. وما يدريك أن أبا سفيان سيجني من وراء إيمانه خيراً كثيراً؟ وما يدريك أنه سيخرج من بين صلب أبي سفيان وترائب هند من يفتح البلاد ويتحكم في رقاب العباد باسم محمد ودين محمد؟ على أن أبا سفيان ما لجأ إلى الإيمان، إلا بعد ما قاساه من الهوان. أما سمعت ما تحدث به الناس أنه بعد أن نقضت قريش عهد الحديبية جعل قلب أبي سفيان لا يستقر بين ضلوعه خشية محمد وبطش محمد فتسنم راحلته، وتوجه شطر المدينة ليؤكد العهد إن وفق، أو يستشف نوايا محمد إن أخفق، فنزل أول ما نزل على ابنته أم حبيبة زوج محمد، فما كادت تراه حتى طوت فراشا كان مبسوطا أمامها، فقال: أتطوين الفراش رغبة بأبيك عنه، أو رغبة به عن أبيك، فقالت: لا والله إنه فراش رسول الله الطاهر الأمين، أخشى عليه دنس الشرك ورجس الوثنية، فتشاءم الرجل، ونهض مغضباً، ودخل على محمد فازور عنه جانبه، فلجا إلى أبي بكر فطوى عنه كشحا فلاذ بعمر، فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار. عندئذ ارتد على عقبه يجر ذيل الفشل وخيبة الأمل. على أنه بعدها لم يغمض له جفن، ولم يهدأ له جأش، وجعل يتوقع غزو محمد لملكه، وإن كان محمد حاط هذا الغزو بالكتمان. ولقد اشتد القلق بأبي سفيان، فخرج منذ حين ليكشف أمر المسلمين. نعم لقد شاهدته منذ حين في نفر من قريش، خرجوا يستطلعون خبر الجيش، فلقد تناقلت خبره الركبان، رغم مبالغة محمد في الكتمان. وكأني بأبي سفيان ما كاد يلوح غبار الجيش لعينيه، حتى سقط في يديه. وكانت في نفسه بقية شك في دعوة محمد، فما هو إلا أن رأى جيش المسلمين، فإذا الشك يقين، وكأنني به وقد مثل بين يدي محمد. فنظر إليه نظرة يكمن فيها شبح الموت، ولسان حال الرسول يقول:

إن على الله أن تبايعا ... تؤخذ كرها أو تجيء طائعاً

فلم يسع أبا سفيان إلا التسليم والإذعان

قالت الأولى: هاهو ذا الجيش قد دنا من مكة حتى صار قاب قوسين أو أدنى، وإنني لألمح أبا سفيان واقفاً بمضيق تمر عليه جيوش المسلمين فيلقا فيلقا، وما أخال هذا إلا من تدبير محمد، حتى يلمس الرجل مقدار ما يستهدف له قومه من الخطر إذا حدثتهم أنفسهم بالمقاومة، فيذهب إليهم نذيرا ينقل ما ألقي في نفسه من الرعب إلى قلوبهم. يا لله لسياسة محمد! إنه يريد أن يتم الفتح بدون أن تتطاير الرءوس، أو تتناثر الأشلاء، أو تراق قطرة من دماء. هل تريده أن تتبيني صدق ما أقول؟ أرهفي أذنيك. أصيخي إلى هذا النداء: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن) أسمعت النداء؟ أتحققت صدق رغبة محمد في السلام؟ وكيف يريد أن يحقن دماء أهل المدينتين: التي ربته وليداً والتي آوته طريداً. هاهو ذا أبو سفيان يتقدم الفاتحين داعيا قومه إلى ترك الكفاح وإلقاء السلاح. وهاهو ذا جيش الفاتحين ينقسم أربعة أقسام، يدخلون مكة من جهاتها الأربع: الزبير بن العوام على رأس فريق، وخالد بن الوليد على رأس فريق، وسعد بن عبادة على رأس ثالث، وأبو عبيدة بن الجراح على رأس الرابع. ولست أظن أن هؤلاء سيلقون مقاومة، وإن كنت أشك في هؤلاء الذين يقيمون بأسفل مكة، وعلى رأسهم عكرمة بن أبي جهل، فما أظنهم يخلدون إلى الاستسلام، بل يأبون إلا امتشاق الحسام. على أن خالدا سوف يعمل فيهم نباله ونصاله، فلا يلبثون إلا ساعة من نهار يلوذون بعدها بأذيال الفرار، وتستطيعين أن تعتبري هذا اليوم في تاريخ مكة فاصلا بين عهدين، خالدا على مر الجديدين. هنيئا لمحمد! لقد غادر مكة آبقاً تحت أذيال الظلام، ثم دخلها دخول القياصرة العظام، فليصدح مؤذنه بالأذان حتى يش اجواز الفضاء، وليقم شعائره في ضوء النهار لا من وراء ستار، وليطف بأرجاء مكة آمنا مطمئنا، وليتفقد منزله إن كانت أبقت أيدي القوم عليه، وليزر معاهد صباه، وليغش حراء الذي كان يتحنث فيه، وليملأ عينيه من أرض مكة وسمائها، وليملأ رئتيه من هوائها، ليتنفس هواءها الآن نقيا صافيا، بعد أن حرمه عشرة أعوام، وتنفسه مسموما موبوءا ثلاثة عشر عاما. ولتتداع إلى خاطره الذكريات، وليستجمع العمر في لحظات. ويل لهبل ومناة، والعزى واللات، ولتلك الأصنام المشدودة إلى الكعبة بالرصاص. ولتلك الصور التي تمثل ملائكة السموات غواني فاتنات. هذا آخر عهدهن بأستار البيت، لشد ما كان يمقتها محمد. وكأني به يعمل فيها معول التحطيم ويحرم من أجلها على قومه النحت والتصوير، وهكذا تسيء الوثنية إلى الفن كما أساءت إلى الدين، ولكن ما تظنين محمداً فاعلا لقريش؟

قالت الثانية: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، إن محمدا ابر بقومه من أن يجد عليهم أو يؤاخذهم بما اقترفوا، وإنه لأكبر من أن يتشفى بالترة عند المقدرة، وقريش يأسرها المعروف كما ترهبا حدة السيوف. ولو أن محمدا أراد الانتقام لرأى من المهاجرين محبذين، ومن الأنصار أنصارا. إن سيوف أولئك وهؤلاء لتظمأ إلى ما في عروق القوم من دماء، أو ما سمعت سعد بن عبادة عندما دخل مكة صاح قائلا: (اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة) فما هو إلا أن سمع محمد صياحه، فتقلصت شفتاه، وقدحت الشرر عيناه، ثم اختطف الراية من سعد، وأعطاها قيسا ابنه. إن الرجل لا يريد بقومه شرا، وإنه ليضرب للعالم بذلك المثل الأعلى في الصفح والمغفرة عند القدرة، وإني لأذكر لمحمد مواقف من هذا القبيل تعتبر مثلا عليا في الصفح الجميل. فلقد سمعت أنه يوم حشد هذا الجيش لفتح مكة، أخذ على الناس المواثيق أن يتكتموا أمره ولا يذيعوا سره، ولكن حاطب بن بلتعة كان له بمكة ولد وأهل أشفق عليهم فكتب إليهم حتى يتجهزوا لقتال محمد؛ بيد أن خبر الكتاب نمى إلى محمد، فسرعان ما أرسل عليا والزبير في أثر حامل الكتاب، وكان امرأة فأدركاها فاعترفت بحرمها وأخرجت الكتاب من بين غدائرها. تعرفين ماذا كان جزاء حاطب وهو من جيش الرسول ومن شهود بدر؟ لقد جوزي على هذه الخيانة العظمى بالصفح والغفران! قال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنقه فإن الرجل قد نافق، فقال الرسول - بعد أن أطرق هنيهة - (دعه يا عمر وما يدريك أن الله قد اطلع على أصحاب بدر يوم بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وهكذا تذكر النبي بجوار هذا الغدر موقف الرجل ببدر فاغتفر الإساءة اللاحقة للإحسان السابق وخالف ما درج عليه الناس، فكل الناس

ينسى من الإحسان طودا قد رسا ... وليس ينسى ذرة ممن أسا

ولقد تمثلت محمدا إذ وقف بأحد بعد أن وضعت الحرب أوزارها فرأى عمه حمزة مبقور البطن مجدوع الأنف ممضوغ الكبد ممثلا به أي تمثيل. فأقسم لئن أظفره الله بقريش ليمثلن بسبعين من قتلاهم؛ فهاهي ذي قريش مطأطئة الرقاب، وهاهي ذي رءوس قريش دانية القطوف، فما يمنع محمدا أن يطفئ من غلته ويبر بأليته؟ إنه المتسامح في اجمل صوره وأعلى أمثلته. على أنني لا أخال محمدا مهما بلغ من تسامحه يعفو عن الحويرث الذي أغرى على زينب ابنته عند هجرتها، أو عن هذين الرجلين اللذين أظهرا الإسلام ثم ارتكبا جريمة القتل بالمدينة ثم ارتدا إلى الشرك، أو عن قينة ابن خطل التي كانت تتغنى وتسمر بهجائه، فهو لابد قاتلهم، ولعلك لا تنكرين ذلك على محمد متناسية أن اللين لابد أن يشوبه العنف وإلا شاه جماله. ولقد كانت لمحمد بجانب تسامحه البالغ صرامة بالغة. ولعلك تذكرين أنه يوم قبل الفداء من بعض أسرى بدر وأطلق بعضا آخر أبى إلا أن يضرب عنق النضر ابن الحارث وعقبة بن أبي معيط، لشدة ما ناله من الأذى على أيديهما قبل هجرته. ولعلك تذكرين أنه ما كادت جنود الأحزاب تتخلى عنه في غزوة الخندق حتى تفرغ لليهود الذين تألبوا مع العدو عليه في ساعة العسرة فأباح دماءهم وأموالهم ونكل بهم شر تنكيل، وكيف أنه كان يعترض لقريش وغير قريش من المشركين يريق دماءهم، ويسلبهم إبلهم وشاءهم حتى يعتصموا بالإسلام، وما كان ذلك تجنيا من محمد، ولكنها الدعوة الروحية يجب أن تؤيدها القوة المادية، حتى ينظر إليها الناس نظرة جدية، وهكذا تمهد السيوف للأقلام، ويتضافر الاثنان على نشر لواء الإسلام

قالت الأولى: ثم ماذا بعد فتح مكة

قالت الثانية: ما يدرينا؟ لقد كان محمد يعد قومه ملك فارس والروم فيتهكم به كفار قريش قائلين: (هذا ابن أبي كبشة - يعنون زوج مرضعه حليمة - سيرث ملك الأكاسرة والقياصرة)، ولعله لو امتد بنا الزمان بضعة أعوام، شهدنا تحقيق هذه الأحلام

قالت الأولى: لقد احسنا إلى محمد يوم آويناه في الغار، وساعدناه على الفرار.

قالت الثانية: أكبر الظن أننا أحسنا إلى الإنسانية جمعاء: استحدثنا ثقافة، وأقمنا بناء حضارة، وغيرنا مجرى التاريخ.

كوم حمادة

محمود غنيم

مدرس بالمدرسة الابتدائية الأميرية