مجلة الرسالة/العدد 196/الدبلوماسية في الإسلام
→ الإسلام بعد 1355 سنة | مجلة الرسالة - العدد 196 الدبلوماسية في الإسلام [[مؤلف:|]] |
ليتني كنت أدري! ← |
بتاريخ: 05 - 04 - 1937 |
العلائق بين مصر وبيزنطية في عهد الدول الفاطمية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت بغداد محور السياسة الإسلام في المشرق يوم كانت الدولة العباسية في ذروة قوتها وفتوتها؛ وكانت الدولة البيزنطية تتجه يومئذ ببصرها إلى بغداد قلب الإسلام النابض، ترقب حركاتها ومشاريعها، وتتحوط لفوراتها وغزواتها. وكانت المعارك تضطرم بين الدولتين بلا انقطاع تقريبا أيام الرشيد والمأمون والمعتصم؛ ولكن فتوة الدولة العباسية لم يطل أمدها؛ فمنذ أواخر القرن التاسع تسري إليها عوامل الانحلال والوهن، وتخبو فيها فورة النضال والغزو، ويتجه بصر الدولة البيزنطية إلى قوة ناشئة أخرى على مقربة من حدودها الجنوبية. ذلك أن مصر، التي بقيت زهاء قرنين ونصف قرن ولاية خلافية، غدت في ظل الولاة الأقوياء دولة شبه مستقلة، وأخذت تجيش بمختلف الأطماع والمشاريع، وألفت الدولة البيزنطية في قيام الدولة الحمدانية بالشام، وقيام الدولة الطولونية ثم الدولة الاخشيدية بمصر، مواطن جديدة للخطر يجب اتقاؤها. وأخذ ميدان النضال بين الإسلام والنصرانية يتحول من سهول أرمينية وأواسط الأناضول إلى سهول كليكية وشمال الشام. ولما قامت الدول الفاطمية بمصر، رأت الدولة البيزنطية من قوتها وغناها ووفره جيوشها وأساطيلها ما ينذر بتفاقم الخطر، وأدركت أنها تواجه على يد هذه الدولة القوية فورة إسلامية جديدة تضطرم قوة وفتوة وطموحا، وأخذت ترقب حركات الدولة الجديدة ومشاريعها في يقظة وجزع.
وشغلت الدولة الفاطمية مدى حين بخطر القرامطة الذي كان يهددها في موطنها الجديد، ويكاد ينذرها بالمحو والفناء العاجل. وألفت الدولة البيزنطية من جانبها فيما أثارته غزوات القرامطة للشام من الاضطراب والفوضى، فرصة للإغارة على الشام ودفع حدودها إلى الجنوب؛ وكانت الدولة الحمدانية في حلب قد اضمحلت ولم تقو بعد على رد الغزاة من الشمال، ولم تلبث أن انضوت تحت لواء الروم (البيزنطيين) وتعهدت لهم بأداء الجزية استبقاء لحياتها، واتقاء لسطوة الدولة الفاطمية الجديدة. وبينما كان القرامطة يزحفون على مصر، وجيوش المعز الفاطمي تدفعهم عنها، غزا الروم الشام، وعاثوا في سواحله واست على إنطاكية، وهزموا الجيوش الفاطمية أولا، ثم عادوا فارتدوا أمامها تحت أسوار طرابلس، واختتم عهد المعز لدين الله، والروم يبسطون سلطانهم على قسم كبير من شمال الشام.
وفي عهد العزيز بالله استؤنف النضال بين الدولتين؛ وكان خطر القرامطة قد خبا وتحطم تحت ضربات الدولة الفاطمية. وألفى الفاطميون والروم أنفسهم في سهول الشام وجها لوجه؛ وكانت الدولة البيزنطية تجوز في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر مرحلة جديدة من القوة والنهوض في عصر الأسرة البسيلية، ولاسيما في عهد الإمبراطور باسيل الثاني (976 - 1025م)، معاصر العزيز بالله وولده الحاكم بأمر الله؛ وكانت السياسة البيزنطية كعادتها تشجع كل عناصر الانتقاض أو الخروج في المملكة الإسلامية؛ فلما همت الجيوش الفاطمية بغزو حلب واستغاث بنو حمدان بحلفائهم الروم، سار الروم لقتال المصريين ونشبت بينهما معركة طاحنة على مقربة من إنطاكية (381هـ - 991م)، فهزم الروم هزيمة شديدة؛ وخشيت السياسة البيزنطية عواقب هذا الفشل، فسار الإمبراطور باسيل الثاني بنفسه إلى الشام وغزا حمص وأعمالها، وبسط سلطانه على معظم سواحل الشام؛ وارتاعت الخلافة الفاطمية لهذا التطور الخطير في حوادث الشام، وهم العزيز بالمسير بنفسه إلى قتال البيزنطيين، ولكن الموت أدركه في الطريق؛ وخلفه ولده الحاكم بأمر الله طفلا، وتولى تدبير شؤون المملكة وصيه برجوان الصقلى؛ واضطربت حوادث الشام حينا، وشجعت السياسة البيزنطية قيام الثورة في صور، وسار الروم في البر والبحر لمؤازرة الثوار؛ ولكن برجوان كان رجل الموقف، فبعث إلى الشام بجيش كبير، استطاع إن يخمد الثورة، وأن يهزم البيزنطيين في عدة مواقع (378هـ - 998م)، واضطر باسيل الثاني أن يسير بنفسه إلى الشام مرة أخرى. ولكنه ما لبث أن اضطر إلى العودة إلى قسطنطينية ليتأهب لرد خصومه البلغار الذين هددوه بالغزو من الشمال:
وهكذا لبثت الشام مدى حين ميدان النضال بين الدولتين الفاطمية والبيزنطية. كانت السياسة البيزنطية ترى في قيام الدولة الفاطمية وتوطدها بمصر والشام خطرا جديداً عليها، وتحاول أن تغالب هذا الخطر ما استطاعت؛ وكانت الدولة الفاطمية من جانبها تعمل لتوطيد حدودها الشمالية ورد الخطر البيزنطي عنها، ولم تكن تجيش في ذلك بأكثر من نزعة دفاعية، بينما كانت الدولة البيزنطية تجيش في عهدها الجديد بنزعة إلى الفتح والتوسع. وكانت الخلافة الفاطمية تتوق إلى اتقاء الأحداث والحروب الخارجية لتتفرغ إلى تنظيم شؤونها الداخلية؛ فلما هزمت الجيوش الفاطمية جيوش الإمبراطور في الشام واستطاعت بذلك أن تثبت تفوقها العسكري، انتهز مدبر الدولة برجوان هذه الفرصة ليعقد الهدنة مع الدولة البيزنطية، فبعث إلى الإمبراطور يقترح عقد الصلح والمهادنة، فاستجاب باسيل الثاني لدعوته، وانفذ سفارة إلى بلاط القاهرة؛ واحتفى البلاط الفاطمي بالسفير البيزنطي احتفاء عظيما وزين الديوان الخلافي لاستقباله زينة تنوه الرواية بفخامتها وروعتها؛ وانتدب برجوان اريسطيس بطريرك بيت المقدس وخال الأميرة ست الملك ابنة العزيز بالله وأخت الحاكم بأمر الله للسير مع السفير البيزنطي وتقرير شروط الهدنة مع القيصر وعقد أواصر الصداقة بين الدولتين؛ فسار اريسطيس إلى قسطنطنية، وقام بالمهمة؛ وعقدت بين مصر والدولة البيزنطية معاهدة سلم وصداقة لمدة عشر سنين؛ وأقام اريسطيس في عاصمة بيزنطية أربعة أعوام حتى توفي؛ ولم تحدد لنا الرواية تاريخ هذه السفارة ولكن المرجح أنها وقعت في أواخر سنة 389 أو أوائل سنة 390 (سنة 1000م)
وشغلت الدولة البيزنطية مدى حين بشؤونها الداخلية وحروبها في البلقان وأرمينية. وقنعت من الشام بإنطاكية، وهدأ النضال بين الدولتين حيناً، وتحسنت العلائق بينهما؛ ولكن سياسة الحاكم بأمر الله إزاء النصارى، واشتداده في مطاردتهم، وما اتخذه من الإجراءات العنيفة لهدم الكنائس والأديار، ولاسيما كنسية القيامة (القبر المقدس) ببيت المقدس أثارت حفيظة السياسة البيزنطية، وحفيظة الكنيسة الشرقية التي كانت تعتبر نفسها حامية النصرانية في المشرق؛ بيد أن الدولة البيزنطية لم تستطع يومئذ أن تتدخل في سير الحوادث. وكانت الأميرة ست الملك أخت الحاكم تخشى عواقب هذه السياسة العنيفة وتجاهد في تلطيفها، وكان لها حسبما تؤكد الرواية أكبر يد في تدبير مصرع أخيها وإنقاذ الخلافة الفاطمية من عواقب هذه السياسة الخطرة. فلما انتهت المأساة بذهاب الحاكم، وقام ولده الظاهر في عرش الخلافة بتدبير ست الملك ورعايتها، عادت الخلافة الفاطمية في الحال إلى تسامحها المأثور نحو النصارى، وردت إليهم حرياتهم وحقوقهم، وسمح لهم بتجديد ما درس من كنائسهم، ولاسيما كنيسة القيامة، وألفت ست الملك الفرصة سانحة لتجديد الصداقة والمهادنة مع الدولة البيزنطية، فبعثت نيقفور بطريرك بيت المقدس سفيرا إلى باسيل الثاني ليعمل على عقد أواصر التفاهم والصداقة بين الدولتين سنة 414هـ (1024م) ويطلعه على ما اتخذه بلاط القاهرة من الإجراءات لتحرير النصارى ورفع الإرهاق عنهم وحمايتهم في أموالهم وأنفسهم؛ ولكن الأميرة ست الملك توفيت قبل أن يستطيع السفير تأدية مهمته، ورده بلاط قسطنطينية بلطف، فعاد أدراجه، ولم يمض قليل حتى توفي باسيل الثاني (1025م).
ولكن الخلافة الفاطمية آثرت أن تمضي في سياستها الودية نحو الدولة البيزنطية؛ ومع أن الجيوش البيزنطية اشتبكت في الأعوام التالية في عدة معارك وحروب محلية في حلب وإنطاكية مع الأمراء العرب المحليين، وهزمت أمامهم غير مرة، فإن حكومة القاهرة لم تشأ أن تتدخل في تلك المعارك ولا أن تنتهز تلك الفرصة لمحاربة البيزنطيين؛ ووقعت المفاوضات بين الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله والإمبراطور رومانوس الثالث لعقد معاهدة صداقة بين الدولتين، واشترط الإمبراطور لعقدها أن يتولى إعادة تعمير كنيسة القيامة وأن يعمر النصارى ما شاءوا من كنائسهم الدراسة، وان يقيم بطريركا من قبله لبيت المقدس، وأن تمتنع حكومة القاهرة من التعرض لشؤون حلب أو مصايرها باعتبارها داخلة في حماية الإمبراطور وتؤدي له الجزية، وأن تمتنع عن نجدة صاحب صقلية المسلم إذا هاجمته الجيوش البيزنطية؛ ولكن الظاهر رفض التخلي عن حلب باعتبارها عاصمة إسلامية جليلة؛ وطالت المفاوضات بين الفريقين، وانتهت بعقد معاهدة صداقة بينهما، سمح فيها للإمبراطور أن يتولى تعمير القبر المقدس، وللنصارى أن يعمروا كنائسهم وأن يعود منهم من أسلم كرها إلى دينه؛ وأن يطلق الإمبراطور سراح الأسرى المسلمين لديه، وأن يعيد مسجد قسطنطينية كما كان ويسمح فيه بالآذان وبالخطبة للظاهر؛ بيد أن الكنيسة الشهيرة لم يجدد بناؤها إلى بعد ذلك بنحو عشرة أعوام في عهد المستنصر بالله
وفي عهد الخليفة المستنصر بالله ولد الظاهر اضطربت شئون الخلافة الفاطمية، واضطربت العلائق بين مصر وبيزنطية، وعانت مصر في أوائل هذا العهد أروع مصائب الغلاء والقحط والوباء مدى أعوام ثمانية تعرف بالشدة العظمى (446 - 544هـ) وأرسل المستنصر بالله إلى الإمبراطور قسطنطين التاسع أن يمده بالغلال والأقوات، وتم الاتفاق بينهما على شروط هذه المعاونة، ولكن الإمبراطور توفي قبل تنفيذ الاتفاق، فخلفته الإمبراطورة تيودورا، واشترطت لتنفيذ شروطا جديدة أباها المستنصر، واضطربت علائق الدولتين، واشتبك الفريقان في عدة معارك شديدة في البر والبحر؛ وفي سنة 447هـ (1055م) أرسل المستنصر سفيراً إلى تبودورا هو القاضي أبو عبد الله القضاعي ليحاول تسوية العلائق واستئناف الصداقة؛ ولكن السياسة البيزنطية آثرت جانب السلاجقة ورأت أن تتفاهم معهم، وأخفق سعي السفير المصري؛ وكانت فورة السلاجقة قد اضطرمت قبل ذلك بالمشرق، وأخذت تنذر باجتياح الشام، وتطورت حوادث الشام في الوقت نفسه تطورا سيئا، واستولى الزعماء العرب على قواعده وثغوره، فانتزعت حلب من يد الخلافة الفاطمية نهائيا، وكادت دمشق وفلسطين تخرج عن قبضتها، وتضعضعت قوى الدولة في الداخلة والخارج؛ ثم كانت وثبة السلاجقة نحو المشرق واستيلاؤهم على فلسطين ودمشق؛ وأعقبت ذلك فورة من الغرب كانت أخطر ما عرفت الأمم الإسلامية: تلك هي ثورة الحروب الصليبية التي اضطرمت منذ أواخر القرن الحادي عشر، وسرعان ما ظفرت بانتزاع الشام وفلسطين من قبضة الإسلام؛ وحلت المملكة اللاتينية في بيت المقدس مدى حين، وقامت الإمارات النصرانية في الشام حاجزا بين الدولة الفاطمية والدولة البيزنطية، وتحول مجرى العلائق الدبلوماسية بين الإسلام والنصرانية، وافتتح بينهما عهد طويل من النضال المضطرم؛ وانحدرت الدولة الفاطمية إلى مرحلة الانحلال الأخير، كما انحدرت الدولة البيزنطية خصيمتها ومنافستها القديمة إلى مرحلة مماثلة من الضعف والانحلال
محمد عبد الله عنان