الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 196/الجيش والبحرية

مجلة الرسالة/العدد 196/الجيش والبحرية

بتاريخ: 05 - 04 - 1937


في العصر العباسي الأول

للدكتور حسن إبراهيم حسن

أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب

استمد العباسيون قوتهم من الجيش الذي نما نمواً عظيما على أثر دخول الكثيرين في الإسلام وانضوائهم تحت لوائه، وقد بلغ عدده في عهد الخلفاء العباسيين الأوائل مئات الألوف من الجند، ووصل هذا العدد في العراق وحدها إلى 125. 000 جندي. وكان هؤلاء الجند يكونون الجيش النظامي للدولة تدفع لهم رواتبهم بانتظام. ومن ثم قلت أرزاقهم تبعا لزيادة عددهم. ولما بلغت قوة العباسيين أشدها في بغداد، أصبح الجندي يتقاضى راتباً شهريا قدره عشرون درهما (وكان الدرهم يساوي أربعة قروش تقريبا)، وكانت هناك مع الجنود النظاميين طائفة أخرى من الجند المتطوعة من البدو، وطبقة الزراع وسكان المدن الذين اشتركوا في الحروب مدفوعين بعوامل دينية أو مادية

وكان تقسيم الجند تابعاً لجنسية أفراده: فمنهم الحربية وهم الفرسان الذين كانوا يتسلحون بالرماح؛ وهؤلاء من جند العرب. والمشاة وكانوا من الفرس ولاسيما الخراسانيين (وكان من سياسية الخلفاء أن يحكموا عرب الشمال والجنوب بتركهم يحارب بعضهم بعضا)؛ حتى إذا ما انقضى العصر العباسي الأول دخل في الجيوش العباسية عنصر جديد ما لبث أن غدا له النفوذ، وأصبح أشد خطراً من الخراسانيين، وهو عنصر الأتراك الذين كانوا يكونون القسم الرابع من الجيش العباسي. وما انفكت جموع هؤلاء الأتراك تتدفق سنة بعد سنة على أسواق بغداد حتى استطاعوا أن يصلوا من هذه الأسواق إلى بلاط الخلفاء ثم إلى جيش الخليفة أخيراً؛ وقد خصهم الخليفة برعايته أملا في أن يكونوا بذلك أقوى ساعد للخلافة العباسية. ومن ثم أصبحوا حراس الخلفاء، وسرعان ما أضحوا آفة على أهل بغداد الذين عانوا من جراء عنتهم وجورهم شيئاً كثيراً، وما لبث أن امتد نفوذهم إلى الخلفاء الذين غدوا تحت رحمتهم

وكان أكبر القواد المعروفين في أول عهد هذه الدولة أبو مسلم الخراساني، وكان تحت إمرته جند الشرق الخراسانية؛ وعبد الله ابن علي العباسي على جند المغرب، وأكثره عربي من بلاد الجزيرة والشام. فلما خرج عبد الله بن علي على المنصور وانتصر عليه أبو مسلم بجنده الخراساني كان هذا انتصاراً للفرس على العرب، ومن ثم رجحت كفة الخراسانيين في الجيش؛ بيد أن المنصور خشي شر أبي مسلم وشر جنده، فقضى عليه، ورأى عدم الاعتماد على الخراساني، لأن العصبية العربية كانت لا تزال في قوتها، فاصطنع كثيرين من العرب، وسلمهم قيادة جنده، كما استعان ببعض أهل بيته. فمن أعظمهم عيسى بن موسى الذي انتصر على محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن العلوي وأخيه إبراهيم. وقد ظهر من قواد العرب معن بن زائدة الشيباني، وكان من قواد الأمويين؛ واشتغل مع يزيد بن عمر بن هبيرة أمير العراق وحارب معه في واسط، ولما سلم ابن هبيرة اختفى معن حتى كان يوم الهاشمية الذي ثار فيه الراوندية على المنصور، فقاتل عن الخليفة وهو ملثم، وأوقع برجال هذه الطائفة، ثم كشف للخليفة عن نفسه، فأمنه ووصله بعشرة آلاف درهم، وسماه (أسد الرجال) وولاه اليمن ثم سجستان، فبقي فيها حتى قتله الخوارج بمدينة بست سنة 151هـ. ومن قواد العرب عمر بن العلاء وهو أعظم قواد المنصور، وفيه يقول بشار بن برد:

فقل للخليفة إن جَئته ... نصيحا ولا خير في المتهم

إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبه لها عمرا ثم نم

فتى لا ينام على دمنة ... ولا يشرب الماء إلا بدم

وقد وجهه المنصور سنة 141هـ لإخضاع أهل طبرستان، وكانوا قد خرجوا عليه، فنازلهم ابن العلاء طويلا، وفتح بلادهم من جديد، ولم يزل ممتعا بعطف المنصور، وابنه المهدي حتى مات في خلافة المهدي

أما الآلات الحربية التي كانت تجهز بها الجنود، فلم تكن تختلف كثيراً عن الآلات البيزنطية، فكان من أسلحتهم القسي والسهام والرماح والسيوف والفؤوس الحربية (البلط)

وكانت ملابس الجند تشمل تلك الملابس القديمة الملائمة لهم والتي كانت في نفس الوقت ذات منظر يدل على ذوق سليم: خوذة، ودرع، ومنطقة، وغيان. وكانوا يعنون عناية خاصة بالسيوف التي كانوا يصنعونها بطريقة فنية، ويحلونها بالفضة. وكانت السروج مماثلة في شكلها للسروج الإغريقية التي هي من نوع السروج الشرقية تماماً.

وكان عرض الجيش جزءا من تدريب الجند في أوائل عهد الدولة العباسية وبخاصة في عهد المنصور الذي اهتم اهتماماً كبيراً بالمسائل الحربية. وكان يحب أن يعرض جنده وهو جالس على عرشه لابساً خوذته ودرعه، فكانت تصف الجيوش أمامه في ثلاثة أقسام: عرب الشمال (مضر)، وعرب الجنوب (اليمن) والخراسانيون. ومما ذكره المسعودي في كتابه مروج الذهب عن حصار جند المأمون بغداد نتبين وصف الآلات الحربية التي كان يستعملها العباسيون في ذلك العصر. وهاك ما ذكره المسعودي بنصه: (ونصب هرثمة بن أعين على بغداد المنجنيقات ونزل في رقة كلواذا والجزيرة، فتأذى الناس به، وصمد نحوه خلق من العيارين وأهل السجون، وكانوا يقاتلون عراة في أوساطهم السامين والميازر. وقد اتخذوا لرءوسهم دواخل من الخوص سموها الخوذ، ودرقاً من الخوص والبواري، قد قرنت وحشيت بالحصا والرمل. على كل عشرة عريف، وعلى كل عشرة عرفاء نقيب، وعلى كل عشرة نقباء قائد، وعلى كل عشرة قواد أمير، ولكل ذي مرتبة من المركوب على مقدار ما تحت يده. فالعريف له أناس مركبهم غير ما ذكرنا من المقاتلة، وكذلك النقيب والقائد والأمير، وناس عراة قد جعل في أعناقهم الجلاجل والصوف الأحمر والأصفر، ومقاود قد اتخذت، ولجم من مكاس ومَذاب، فيأتي العريف وقد أركب واحداً وقدامه عشرة من المقاتلة، ويأتي النقيب والقائد الأمير، فتقف النظارة ينظرون إلى حربهم مع أصحاب الخيول المعدة، والجواشن والدروع والتجافيف والرماح والدرق التبتية)

ولما ولي المتوكل الخلافة، أمر كل الجنود بتغيير زيهم القديم، وألبسهم أكسية رمادية، وأمرهم ألا يجعلوا السيوف على أعناقهم، بل يضعوها في مناطقهم حول وسطهم.

ومن أي جهة بحثنا في الجيش فإننا نصادف ما يماثلها في العصر الحديث؛ من ذلك نظام الجاسوسية عند العباسيين، فقد كانوا يستخدمون في ذلك كلا الجنسين من الرجال والنساء الذين كانوا يرحلون إلى البلاد المجاورة متنكرين في أزياء التجار والأطباء وغيرهم، لجمع الأخبار ونقلها إلى دولتهم. ولم تكن الجاسوسية العربية أكثر نشاطا ولا أعم انتشارا في بلد من البلاد منها في الدولة البيزنطية التي كانت لا تزال تنافس الدولة العربية، والتي كان أهلها في الماضي أساتذة العرب في الفنون الحربية ولكي يحمي العرب أنفسهم من غارات الإغريق أقاموا الحصون على تخوم دولتهم وهي الثغور؛ وهذا ضرب من الفنون الحربية التي تدل على نشاط العرب وولعهم بالحروب ونبوغهم الذي كان غريزيا فيهم. وكان حد سورية المقابل لآسيا الصغرى مصدرا للخطر بالنسبة إلى العرب؛ وقد تحاربت القوتان المتنافستان مدة طويلة، فكانت كفة النصر ترجح مرة في جانب العرب وأخرى في جانب الإغريق. لذلك كانت هذه الثغور وهي طرسوس، وأذنة، والمصيصة، ومرعش، ومَلطِية، تقع طورا في أيدي العرب، وطورا في أيدي الروم.

ولما استولى المنصور على المدن الرومية الواقعة على حدود سورية المقابلة لأسيا الصغرى مثل طرسوس وأذنة ومرعش وملطية حصنها وأحكم بناءها من جديد وأطلق عليها اسم الثغور

ولما ولي هرون الرشيد الخلافة أنشأ ولاية جديدة سميت ولاية الثغور، جعل لها نظاما عسكريا خاصا وأقام فيها المعاقل، كما أمدها بحاميات دائمة؛ ومنح الجند علاوة على أرزاقهم أرضا قاموا بتعميرها، وزراعتها هم وأسراتهم، فازدهرت هذه الثغور على الرغم من الحروب المتواصلة، وأصبحت أحوالها في يسر ورخاء إلى أيام الواثق، ثم أخذت بعد ذلك في الأفول، وطالما كان العلماء والشعراء الذين يؤثرون الهدوء يلجئون إلى هذه الثغور والتفرغ للبحث والدرس.

وهناك ناحية أخرى تدل على قوة المسلمين في ذلك الوقت هي الأساطيل الحربية. ولم يكن العرب يعنون بالحروب البحرية في صدر الإسلام لبداوتهم وعدم ممارستهم ركوب البحر. وكان أول من ركبه أبو العلا الحضرمي والي البحرين في عهد عمر، فقد توجه لغزو بلاد الفرس في اثني عشر ألفا من المسلمين دون إذن الخليفة، وعادوا إلى البصرة محملين بالغنائم بعد أن فقدوا سفنهم التي عبروا بها إلى بلاد فارس. ولما علم بذلك عمر - وكان يكون ركوب البحر - غضب علي أبي العلاء وعزله. ولما فتحت الشام ألح معاوية على عمر في ركوب البحر كي يغزو بلاد الروم لقربها منه، فيكتب إليه يردعه عن ركوب البحر

ولما ولي عثمان الخلافة ألح عليه معاوية في غزو بلاد الروم، فأذن له على ألا يحمل الناس على ركوب البحر، فاستعمل على البحر عبد الله بن قيس فغزوا خمسين غزوة بين شاتية وصائفة، كما غزا عبد الله بن سعد أبي سرح والي مصر من قبل عثمان البحر، فحارب سنة 34هـ قسطنطين بن هرقل وانتصر عليه في موقعة ذات الصواري. وفي هذه السنة أيضا فتح العرب جزيرة قبرص، كما جردوا حملة لغزو البلاد البيزنطية. ومنذ ذلك الوقت أخذت الحملات البحرية تترى على تلك البلاد

ولما ولي معاوية الخلافة عني بإنشاء السفن الحربية، وفي عهده غزا عقبة بن عامر جزيرة رودس. وفي 53هـ غزا الروم البرلس في عهد ولاية مسلمة بن مخلد (47 - 62هـ)، وقتلوا عددا كبيرا من المسلمين وعلى رأسهم وردان مولى عمرو بن العاص؛ ومن ثم اهتم أمراء مصر ببناء السفن، فأنشئت لأول مرة سنة 54 هجرية دار لبنائها في جزيرة الروضة

أما أن العرب كانوا مدينين في الأصل للبيزنطيين في هذه الناحية من الفنون الحربية فهذا أمر لا سبيل إلى إنكاره؛ إلا أن العرب الذين فطروا على الشجاعة وحب المغامرة وإن تتلمذوا للبيزنطيين في تلك الناحية فترة من الزمن، فانهم قد أصبحوا أساتذة أوروبا في هذه الفنون. يدلنا على ذلك هذه الاصطلاحات البحرية المستعملة في أوربة إلى اليوم، والتي لا تزال محتفظة بعربيتها. وكان أثر العرب في شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط بوجه خاص ابعد مدى من غيرهم من شعوب أهل أوروبا. ويقول فون كريمر: (ومما يوضح لنا أن الأسطول العربي القديم كان نموذجا لأساطيل الأقطار المسيحية أن كثيراً من المصطلحات العربية البحرية لا تزال شائعة على ألسن البحارة في جنوب أوربا نذكر منها كلمة المأخوذة عن لفظ (جبل) العربي وكلمة وبالإيطالية المأخوذة عن لفظة (دار الصناعة) وكذا المأخوذة من لفظ (غراب) العربية، والمأخوذة عن لفظة (أمير البحر)

حسن إبراهيم حسن