الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 194/هكذا قال زرادشت

مجلة الرسالة/العدد 194/هكذا قال زرادشت

مجلة الرسالة - العدد 194
هكذا قال زرادشت
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 22 - 03 - 1937

13 - هكذا قال زرادشت

للفيلسوف الألماني فردريك نيتشة

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

لسعة الأفعى

واستسلم زارا للكرى يوما تحت شجرة التين، وكان الحر شديداً فستر وجهه بساعده فأتت أفعى ولسعته في عنقه فصرخ متألماً وانتفض محدقاً بالأفعى فعرفت عينيه تململت لتنصرف، فقال لها زارا: - (لا تذهبي قبل أن أقدم لك شكري، لأنك نبهتني في الزمن المناسب لأقوم بسفر بعيد)

فأجابت الأفعى وفي صوتها غنة الأسى: - بل سفرك قريب فزعافي قاتل

وابتسم زارا وقال: وهل لزعاف الأفعى أن يقتل تنيناً؟ خذي سمك، إنني أعيده إليك فلست من الغنى على ما يسمح لك بتقديمه هدية لي.

وسارعت الأفعى إلى الالتفاف حول عنق زارا تلحس جرحه.

وقص زارا هذه الحادثة يوماً على أتباعه فقالوا له: وما هو المغزى الأدبي لهذه القصة، فأجاب: - إن أهل الصلاح والعدل يدعونني هداما للمبادئ الأدبية فقصتي لا تتفق وهذه المبادئ.

إذا كان لكم عدو فلا تقابلوا شره بالخير لأنه يستصغر بذلك نفسه، بل أكدوا له أنه أحسن بعمله إليكم، والأجدر بكم ألا تحتقروا أحدا، تظاهروا بالغضب. وإذا وجهت اللعنة إليكم، فلا يسرني أن تمنحوا البركة، إن ما يسرني هو ألا تأبوا اللعن أنتم أيضا، وإذا ما أنزلت بكم مظلمة كبيرة فبادلوا المعتدي مثلها وأرفقوها بخمس مظالم صغرى، لأنه ما من مشهد أشد قبحا من مشهد من لا يخضع إلا للظلم.

إن اقتسام المظالم بالتساوي إنما هو مساواة بالحق، فهل كنتم تعرفون هذا من قبل؟ من يقدر على إرهاق الناس بظلمه فعليه أن يحتمل هو الظلم أيضا.

لئن ينتقم الإنسان قليلا، فذلك أدنى إلى المعروف وليس من الإنسانية أن يترفع المظلوم عن الانتقام. إنني لأنفر من اقتصاصكم إذا لم يكن عبارة عن حق تؤدونه للمعتدي، وإن من يسند الخطأ إلى نفسه لأنبل ممن يعلنون في كل آن أن الحق في جانبهم، وأخص من هؤلاء من كانوا حقيقة على صواب. إن أغنياء الروح لا يفعلون هذا.

أنني أكره عدالتكم الباردة، فان في عيون قضاتكم ازورار الجلاد ولمعان سيفه. فأين العدالة تلمح في عينيها الصفاء. أوجدوا لي الحب الذي لا يكتفي بحمل كل أنواع العقاب، بل يحمل أيضا جميع الخطايا.

أوجدوا لي العدل الذي يبرئ الجميع ليحكم على الإنسان الذي يدين.

أتريدون أن أذهب إلى أبعد مما قلت فأعلن لكم أن الكذب نفسه يصبح محبة للإنسانية في نفس من يتوق إلى إقامة العدل.

ولكن هل بوسعي أن أقيم العدل بكل إخلاص. وكيف يمكنني أن أتوصل إلى إعطاء كل ذي حق حقه. أذن، لاكتفين بأن أعطي أصحاب الحق حقي الخاص.

وأخيراً، حاذروا ظلم المنفرد، إذ ليس بوسعه أن ينسى وأن يبادل الظالمين ظلما، وما المنفرد إلا بئر عميقة يسهل على من يشاء أن يلقي فيه حجراً. ولكن من يقدر أن يستخرج هذا الحجر إذا بلغ قعر البئر السحيق؟

احترسوا من إهانة الفرد، وإذا أنتم حقرتموه فأجهزوا عليه بقتله.

هكذا تكلم زارا. . .

الفصل الثاني

الطفل حامل المرآة

ورجع زارا إلى الجبال، إلى عزلة كهفه ليحتجب عن الناس كالزراع ألقى بذوره في أثلام أرضه وبات يتوقع نبتها، ولكنه ما لبث أن حنْت جوارحه إلى أحبابه إذ كان عليه أن يمنحهم بعد كثيرا من الهبات وأصعب ما يلقى الحب اضطراره إلى قبض يده إجابة لداعي محبته وتفاديا للمنة في عطائه.

ومرت على المنفرد الشهور والأعوام وحكمته تزداد نموا فتزيده ألما باتساع آفاقها.

وأفاق يوماً (من نومه قبل انفلاق الفجر واستغرق في تفكيره وهو ممدد على فراشه وتساءل قائلا: - لماذا أرعبني هذا الحلم الذي استفقت منه مذعوراً؟ رأيت كأن ولدا (يحمل مرآة) اقترب مني وهو يقول:

- أنظر في هذه المرآة يا زارا

وما نظرت إلى المرآة حتى صرخت وخفق قلبي خفوقا (شديدا). لأن ما أنعكس لي في المرآة لم يكن وجهي بل وجها تقطبت أساريره بضحكة شيطان ساخر

والحق ما يفوتني تعبير هذا الحلم وإدراك ما نبهت إليه فان تعاليمي مشرفة على خطر، والزوان يريد أن ينتحل صفات الحنطة. لقد استأسد أعدائي فشوهوا تعاليمي حتى أصبح أتباعي يخجلون مما وهبتهم.

لقد فقدت صحبي وآن لي أن أفتش عمن فقدت

وانتفض زارا لا كمن استولى الذعر عليه بل كمأخوذ برؤى وكشاعر هزه شيطانه. فوجم نسره وأفعاه وحدقا بوجهه وقد لاحت بوادر السعادة عليه كتباشير الفجر. فقال لهما:

- ماذا حدث لي؟ أفما تريان إنني تغيرت؟ أفما تحسان أن الغبطة قد نزلت عليَّ كأنها عصفات الرياح؟

لقد جنَّ شعوري بهذه السعادة فلن يسلم بياني من اختلال هذا الشعور، إن سعادتي لم تزل في حداثتها فتذرعا بالصبر معي عليها

لقد أوجعتني سعادتي فليكن سعادتي كل من أرهقتهم الأوجاع

إن في وسعي الآن أن أنحدر إلى مقر صحبي والى مقر أعدائي فقد أصبح زارا قادراً على استطراد القول والإحسان إلى من يحب

لقد آن لحبي أن يتدفق كالذي يندفع من الأعالي إلى الأعماق، ويتجه من الشرق إلى المغرب.

إن نفسي تندفع مرغية مزبدة في الوديان متملصة من الجبال الصامتة تصخب فوقها عواصف الآلام. ولطالما تعللت بالصبر وعلقت أبصاري على بعيد الآفاق، لقد أرهقتني العزلة فما أطيق السكوت بعد

أصبحت وكأنني باجمعي فمٌ أو هدير جدول يتحدر من شامخات الصخور. أريد أن أقذف بكلماتي إلى الأغوار. فيجري نهر حبي في المفاوز البعيدة، ولن يضل هذا النهر سبيله إلى مصبه في البحار

إن في داخلي بحيرة وحيدة قانعة بنفسها، غير أن نهر محبتي يجتذبها في مسيره ليقطع معها السيول ويترامى وإياها في لجة البحر

إنني أتبع مسالك لم أعرفها من قبل وألهمت بيانا (جديدا) بعد أن أتعبتني اللهجات القديمة التي ترهق كل المبدعين وقد امتنع على فكري أن يقتفي رواشم النعال المقطعة

ما من لغة إلا وأراها بطيئة تقصر عن مجاراة بياني

سأقفز إلى صهوتك أيتها العاصفة فألهبك أنت أيضاً بسوط سخريتي

أريد أن أقطع أجواء البحار كهتفة مسرة وحبور إلى أن أستقر على الجزائر السعيدة حيث يقيم أحبائي، وبينهم أعدائي أيضاً، لشد ما أحب الآن جميع من يتسنى لي أن اوجه إليهم الكلام. وسيكون لهؤلاء الأعداء أيضاً قسطهم في إيجاد غبطتي

عندما أتحفز لاعتلاء أشد جيادي جموحاً لا أجد لي معيناً أصدق من رمحي متكأً أرتفع عليه

هو رمحي أهدد به أعدائي، ولكم يستحقون ثنائي إذا ما تمكنت من طرح هذا الرمح من يدي:

لقد طال اصطبار غيومي بين قهقهة الرعود ٍوقد آن لي أن أرشق الأعماق بقذائف برَدَى.

إن صدري سيتعاظم بانتفاخه حتى يزفر بالعاصفة الهائلة على الشامخات وهكذا سأفرَّج عنه

فان سعادتي وحريتي سيندفعان اندفاع العواصف ولكنني أتمنى لو يحسب أعدائي أن ما يزمجر فوق رؤوسهم إنما هو الشر لا روح سعادة وحرية

وأنتم أيضاً أيها الصحاب سيتولاكم الرعب عندما تنزل عليكم حكمتي الكاسرة ولعلكم تولون هاربين منها كما يهرب الأعداء

ليت لي أن أستدعيكم إليَّ بحنين شبّابة الرعاة، وليت تتعلم لبؤة حكمتي أن تزأر بنبرات العطف والحنان، فلطالما وردنا سويا من مناهل العرفان. ولكن حكمتي الوحشية تمخضة بآخر صغارها في الجبال السحيقة بين الجلامد الجرداء، وهي الآن تطوف بجنونها الصحاري القاحلة مفتشة على المروج الناضرة

إنها لشيخة وحشية هذه الحكمة التي تقصد إنزال أعز ما لديها في مروج قلوبكم الناضرة

هكذا تكلم زارا.

(يتبع)

فليكس فارس