مجلة الرسالة/العدد 191/في الصحراء
→ بين تلستوي وماكس نوردو | مجلة الرسالة - العدد 191 في الصحراء [[مؤلف:|]] |
عمر بن الخطاب ← |
بتاريخ: 01 - 03 - 1937 |
للأستاذ عبد النعم خلاف
عشقتها منذ أن عاش جسمي بين يديها أربعا وعشرين ساعة في الخريف الماضي كذرة من رمالها في وهج ظهيرتها، وأفياء آكامها، وطَفَل أصائلها، وأشباح دياجيها، ورهبوت عوالمها. . . ومنذ أن لمست يدا قوية من طبيعتها تمتد إلى قلبي فتضربه بشعلها وتعصره برهبتها، وتحمله في أجوائها مع الهبوات، وتسقيه من آلها وسرابها أمواجاً تظمئ ولا تروي، وتتلف ولا تسعف، لأنها أحلام الأرض الظامئة والأكباد الحرَّى. .
واستقبلت العودة إليها في ظرف موات استقبال المتطلع إلى عالم مسحور ناطق بالصمت محيِ بالموت، مثير بالهدوء، منظر بالشوك، مُروٍ بالجفاف مؤنس بالوحشة، يضج القلب فيه ضجيج الدنيا وإن صمت هو صمت الآخرة، ويحوم الفكر فيه حول العقدتين: الأزل والأبد، فتختلط الحواس ويتداخل فعلها فتسمع العين وترى الأذن وتلمس الأضواء والألوان!
سلام عليك أيتها الذرات المتشابهة الراقدة على مهاد الأزل حالمةً بالنقلة على جناح الرياح إلى عوالم الأنهار والأزهار والحيوان. . سأمانة من طول الرقاد على بساط الديموم، تمثلين العقم والبساطة والصورة الأولى للأجسام. . . تنظرين إلى الذرات العليا المضيئة الدائرة في فضاء ربي والراقدة أيضاً على صدر الفراغ. . تحلم بالقرار كما تحلمين أنت بالانطلاق والفرار. .
في قلبي ذرة صغيرة معربدة لذاعة وددت لو استحالت إلى جمودك! إذن لأراحت واستراحت من روح الحياة. . إنها ذرة تحلم بالرياح كما تحلمين. فهي ثائرة تريد الانطلاق من ضيق المكان. . وهي دائبة عن ذلك حتى يفنى الزيت من السراج، وتخمد الوَقْدة التي وضعت شرارتها يد الله في ذراتي الأولى!
نحن ركب مسيرون لا سائرون أيتها الذرات. . مسيرون بعواصف خفية فهي أهول، مكبوتة فهي أعنف، متنافرة فهي أسرع في تحطيمنا ونقض بنائنا. فلا إرادة ولا خيرة في النقلة وإنما هي رياح من نوع آخر، وما أكثر جنود ربي!
سألتُ: كم مضى من دهرك أيتها الديموم. . .؟ فأجابت: طفلة أنا لا أعي دورات الفلك، ولا أشيخ على الدوام. . . وإنما تقاس الأزمان وتعرف الأعمار بجفافٍ في ورقة، أو تجعيدةٍ على وجه. وأنا كما تراني علامة ابتداء. . .
وسألت: لمن خُلِق ليلك والنهار، وشمسك والقمر؟ ومن يسمع تناوح رياحك وعزيفها على شعاف جبالك، وصفيرها في كهوفك؟ ومن يسمر مع نجومك، ويشهد تقاتل عناصر الطبيعة على صدرك؟ لمن وشائع الغيوم على صفحات سمائك، وألوان جددك وظرابك وآكامك؟ وأين كل ما صبته الشمس والكواكب على أديمك من أضواء وألوان؟ أللعابرين فيك كالنسمات والطائرين عليك كالخطرات؟! أكل هذه الأكوان للشياه والبعران والرعيان؟! ويح الجمال من غير عيون تجتليه، والجلال من غير قلوب تستوحيه، والسطور من غير قارئ!
فأجابت: سري وسحري أن أكون آبدةً عقيماً متفردة لأني أرض الخفاء والمجهول والجن. . . الجن الذين ملأوا آفاقي بتهاويلهم كما ملأتم دياركم بالشواخص والأجرام. . . وقد خلقت لهم، وإن منهم قلوب الشعراء والمتأملين، السائرة مع الأضواء والظلمات ترقبها في الشفق والغسق، الخافقة مع الهبوات والنسمات ترصد فعلها في المدر والوبر والدوح والورق، النائمة في حضن جبل أو على ذراعي موجة أو في عين نجم، أو في عش، أو على زهرة منضورة نقطها الندى، أو في ناي راعٍ، أو في قبر مهدم متفرد!
يا أم الفطرة! أريد أن أقبض قبضة من ذراتك البسيطة التركيب، البريئة من الدنس، المطهرة من الرجس، فأحصب بها وجوه المصانع وناطحات السحاب لعل أحجارها تذكر المهد الأول فترعى ذممه، وتوشج رحمه، وتزيح عنها دخان البارود لترى السماء وتسمع خبرها. . .
يا أم الفطرة ودينها، انبهامُك ترك عقل (محمد) في حيرة غداة شب عن الطوق يرعى. ومجالي الفتنة والروعة فيك نادته إلى العزلة في شعفة من شعفات جبالك يسأل الدنيا عن سرها وأزلها وأبدها ومللها ونحلها حتى حدثته السماء خبرها، ولم ينزل خبر السماء إلا فيك أو على حَوافيك، لأنك القدس والمطهر، تسجد الطبيعة فيك بالإصباح والإمساء، والنجوم والجبال والشجر والدواب. . . وإن أهل الأرض مدينون لك بالظل الذي يجدون برده على قلوبهم وامتداده على أرواحهم؛ ولقد نشرت (كتابك) على الدنيا مرة فطبعت كلماته على الآفاق كلها؛ ولكن ركاما من الغيوم يكاد يخفيها، فأرسلي رياحك الحارة تذيب الركام وتجلو كلمات النبوة. . تريد الأرض موجة جديدة منك أيتها الصحراء، فاهتزي! ضَحِكَت بالقَتاد والأشواك ... ضِحكةً خِلتُها بشاشةَ باكِ
أرسلتها في الصمت هَمْساً ولكن ... رَنَّ في مسمعي صداها الحاكي
فَرْحةً بالربيع دَبَّ على الأر ... ض وليدا يثيرِها لِحراك
فرَشت في طريقه الشوكَ والحَم ... ض ووشّت رمالها بالأراك
عجزت أن تجارَي الخَصبَ بالحب (م) ... وفَرش الرُّبى ونفح الزواكي
فأنالت جُهدَ المقلِّ، وما يُطْ ... لَبُ من عاجز بلوغُ السماك
القاهرة
عبد المنعم خلاف