الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 191/ثقافة مصر المستقلة

مجلة الرسالة/العدد 191/ثقافة مصر المستقلة

مجلة الرسالة - العدد 191
ثقافة مصر المستقلة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 01 - 03 - 1937


يجب أن تقوم على أسس جديدة

للأستاذ محمد عبد الله عنان

مصر في مفتتح عهد جديد، لا يتناول مركزها السياسي فقط، بل يتناول أيضاً كل شيء في حياتها العامة. ذلك أن التطورات السياسية العميقة تحدث أثرها دائما في سائر نواحي الحياة الاجتماعية والفكرية لأمة من الأمم؛ وقد كان تكوين مصر الاجتماعي في العصر الحديث وليد تطورات وأحداث سياسية خاصة، تختفي اليوم من الأفق ليحل محلها عهد جديد بكل معاني الكلمة؛ وسيحدث العهد الجديد أثره في حياتنا الاجتماعية والفكرية؛ وستتوقف آثاره ونتائجه على مبلغ ما تبديه مصر ذاتها من استعداد وطموح

ومن المعروف أن العوامل المعنوية في تقدم الأمم تسبق العوامل المادية دائما؛ ومصر الآن في مستهل المرحلة الأولى من العهد الجديد أي في طور التكوين المعنوي الذي يلائم هذا العهد. ولما كانت هذه المرحلة من أدق المراحل في حياة الأمم الناهضة، فإنه يجب على مصر أن توليها أفور عناية حتى تستطيع أن تشيد خلالها تكوينها المعنوي الجديد على خير الأسس التي تمهد لها طريق التقدم والنهوض

ولا ريب أن الثقافة القومية هي أقوى دعامة يقوم عليها كيان الأمة المعنوي؛ وقد قطعت مصر بالفعل في هذا الميدان خطواتها الأولى، حتى قبل أن تحقق استقلالها السياسي؛ ولكنها مازالت في مفترق الطرق تنقصها عناصر الاستقرار في توجيه ثقافتها الجديدة. وهذا التردد طبيعي في تكوين الثقافات القومية الناشئة؛ بيد أنه يجب ألا يطول عهده، ويجب أن تحل مكانه عوامل الاستقرار المنشود بسرعة؛ وعندئذ يبدأ بناء الصرح المعنوي الذي يقوم عليه كل شيء في حياة الأمة الجديدة

ومصر تتمتع اليوم بثقافة حسنة، ولكن ينقصها كثير من العناصر القومية الحيوية. ومن الصعب أن نحدد لون هذه الثقافة أو نوعها، فهي اليوم مزيج متباين من ثقافات مختلفة يرجع تكوينه إلى ظروف مصر السياسية والاجتماعية في العصر الأخير. ولقد قيل في مناسبات كثيرة إن مصر تتمتع بنوع من الثقافة اللاتينية وإن هذا النوع من الثقافة، أعني اللاتينية، هو خير ما يلائم عقلية مصر ومشاعرها، كأمة من أمم البحر الأبيض المتوسط الذي تغمر هذه الثقافة ضفافه الشمالية منذ العصور الوسطى، وإن الأمر يتعلق هنا بعوامل جغرافية واجتماعية لا سبيل إلى إنكارها؛ بيد أننا نشك في صواب هذه النظرية؛ والواقع أنه إذا كانت الثقافة اللاتينية أو بعبارة أخرى الثقافة الفرنسية قد غلبت على الثقافة المصرية في القرن التاسع عشر، فإن ذلك يرجع بالأخص إلى حوادث وظروف تاريخية طارئة، أخصها مقدم الحملة الفرنسية إلى مصر، وما بذلت خلالها مقامها القصير بمصر من مجهودات علمية وثقافية محمودة، وما كان من اعتماد محمد علي بعد ذلك على نصح المستشارين والعلماء الفرنسيين في تنظيم ثقافة مصر الجديدة؛ هذه هي الظروف والعوامل الحقيقية التي نشأ فيها لون ثقافتنا اللاتيني، ولا دخل هنا للعوامل الجنسية والجغرافية في هذا التطور الثقافي الطارئ؛ والدليل على ذلك أن طابع ثقافتنا الفرنسي قد ضعف في العصر الأخير، وقوي فيها الطابع السكسوني نظراً لتغلب النفوذ الإنكليزي في شؤون التربية والتعليم، وتسرب العوامل الثقافية الجديدة إلى المجتمع المصري

والآن ومصر في مستهل عهد جديد من تاريخها يمتاز بآفاقه الحرة المستقلة، نرى أنه يجب على مصر أن تعمل، كما تعمل جميع الأمم المستقلة الناهضة على أن تطبع ثقافتها الجديدة بطابع قومي واضح؛ وأول ما يجب عليها في ذلك هو أن تجانب اصطفاء ثقافة أجنبية بعينها، وأن تنظر إلى مختلف الثقافات والحضارات نظرة واحدة تأخذ منها جميعاً ما يصلح لإنشاء ثقافتها الخاصة، وان تنسق ذلك المزيج المستخلص من الثقافات المحدثة وتدعمه بالعناصر القومية التي تسبغ عليه طابعه القومي المنشود

والمعروف أن الثقافات القومية تعتمد دائماً على أمور جوهرية منها إذكاء الروح والتقاليد الوطنية، وتقوية اللغة القومية، وتدعيم المثل الأخلاقية، والعناية بالتاريخ القومي، وتقديم الشؤون والدراسات القومية على غيرها. ولا مرية في أن ثقافتنا الحالية ضعيفة في معظم هذه النواحي، فهي بعيدة أولا عن ذينك التخصيص والاستيعاب اللذين تأخذ بهما جميع الثقافات المستقلة في الدراسات القومية، بل يلاحظ بحق إن ثقافتنا الحالية تعتمد على المعلومات والدراسات السطحية العامة، فتقتبس القليل السطحي من كل شيء، ولا تتجه إلى التخصص والإتقان في شيء؛ وهذا عيب جوهري يجب تداركه بأسرع ما يستطاع، ثم إن ثقافتنا لا تكفي بصورتها الحالية لتغذية الروح الوطني الناشئ، لأن أنظمتها وبرامجها الحالية وضعت في جو خانق من الريب والحجر على العواطف والأماني الوطنية، فوجب أن تبحث من جديد في ظل العهد الجديد، وأن تفسح مجالا لكل ما يعاون في تنمية الروح الوطني؛ ومن جهة أخرى فقد لبثت اللغة القومية، أعني اللغة العربية، عصراً ضحية هذه السياسة القديمة، ولولا أنها استطاعت أن تقاوم ضغط الأجنبي بكل ما فيها من حيوية، وأن تشق لنفسها طريقها المستقل خارج المعاهد الحكومية في الآفاق الحرة، لما استطاعت أن تنهض كما تنهض اليوم؛ بيد أنه لا يزال علينا أن نحررها من شوائب المؤثرات والمنافسات الأجنبية التي تعرقل نهضتها، والتي هي من بقايا عهد طويت صفحته، فاللغة العربية يجب أن تتبوأ مقامها الأول في كل معاهدنا ودراساتنا كلغة أصلية لا تنافسها في هذا المقام أية لغة، ويجب أن تكون لغة التربية والتعليم في كل مراحل الدراسة، إلا ما اقتضته مصلحة الدراسة ذاتها؛ ويجب أن يختفي من معالم حياتنا العامة ذلك المزيج المؤلم من لغات أجنبية يستعمل بلا ضرورة في كثير من دوائرنا ومصالحنا الحكومية، بل وفي بعض بيئات مجتمعنا الرفيع، فقد حان الوقت الذي يجب أن تختفي فيه هذه الآثار الأخيرة التي ترمز إلى سيادة فكرية أو اتفاقية أجنبية لا وجود لها اليوم

أما عن دراسة التاريخ القومي التي هي اليوم من دعامات الروح الوطني في جميع الأمم المستقلة، فمن الأسف أنها انتهت في العصر الراحل إلى حالة يرثى لها؛ ومازال التاريخ القومي يغمط حقه من جميع النواحي، ومازلنا نتلقى عن تاريخ الأمم والحضارات والشخصيات الأجنبية أضعاف ما نتلقى عن تاريخنا وتاريخ شخصياتنا وحضارتنا، ولم يكن ذلك غريبا في عهد السيادة الأجنبية لأنها تعرف بخبرتها في طبائع الشعوب ومشاعرها أن الأمم ذات التواريخ الحافلة المجيدة، تهتز في عصور الضعف والانحلال لذكرياتها القديمة، وتستمد منها الوحي والقوة في مغالبة الخطوب وشحذ الشعور الوطني؛ وقد كانت أساليب التربية القديمة ترمي إلى محاربة ذلك الشعور وإضعافه، وكان التاريخ القومي من العناصر الثقافية التي قضي عليها بالمسخ والمحو تقريباً؛ أما اليوم فإن الاستقلال الوليد في أشد حاجة لأن نحيطه بسياج من تاريخنا القومي، وان توطد دعائمه بما يبعثه إلى نفوسنا استعراض هذا التراث الحافل من اعتزاز وطموح إلى استئناف تاريخنا المجيد، وربط مستقبلنا بماضينا، وهذا عنصر في تغذية الشعور القومي تعرفه الأمم المستقلة وتعنى به اشد عناية

وأخيراً يجب ألا ننسى ما للناحية الخلقية في تكوين الثقافة القومية من أهمية خاصة. ولسنا بحاجة لأن ندلل على أن المثل الأخلاقية الرفيعة يجب أن تكون غاية الغايات في كل ثقافة عظيمة؛ فإذا كان الماضي قد طوى بسيئاته ومثالبه المعنوية فمن ألزم واجباتنا في العهد الجديد أن نعمل على إخراج جيل جديد يتمتع بالجرأة والصراحة واستقلال الرأي وسلامة التفكير والتقدير؛ فهذه القوى المعنوية والأخلاقية ضرورية لحماية الاستقلال القومي ضرورة الجيوش ذاتها

والخلاصة أن ثقافتنا الجديدة يجب أن تكون وليدة ثورة حقيقية، سواء في نظمها أو روحها أو مادتها؛ يجب إلا تكون ثقافتنا المستقبلة كما كانت في الماضي، معتركا لتنافس الثقافات والمؤثرات الأجنبية المختلفة. بل يجب أن تكون ثقافة مصرية خالصة، حرة من كل تيار غير مرغوب فيه؛ ويجب أن تكون ثقافاتنا غزيرة عميقة في نفس الوقت، تأخذ بالتخصص في جميع الدراسات والشؤون الجوهرية، ولا تخلو مع ذلك من التعميم النافع؛ وأخيراً يجب قبل كل شيء أن يتبوأ الطابع القومي مقامه الأول في صوغ ثقافتنا وفي توجيهها.

محمد عبد الله عنان