مجلة الرسالة/العدد 191/النفس وخلودها عند ابن سينا
→ أترانا فراشتين؟ | مجلة الرسالة - العدد 191 النفس وخلودها عند ابن سينا [[مؤلف:|]] |
تاريخ العرب الأدبي ← |
بتاريخ: 01 - 03 - 1937 |
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
- 3 -
لم يقف ابن سينا عندما تقدم في إثبات وجود النفس ومغايرتها للبدن، بل افترض فرضاً آخر هو من أبدع حججه وأكثرها ذيوعاً، ونعني به فرض الرجل المعلق في الفضاء. فلو تصورنا أن شخصاً ولد مكتمل القوى العقلية والجسمية، ثم غطى وجهه بحيث لا يرى شيئاً مما حوله، وعلق في الهواء أو بالأولى في الخلاء كي لا يحس بأي احتكاك أو اصطدام أو مقاومة، ووضعت أعضاؤه وضعاً يحول دون تماسها أو تلاقيها، فإنه لا يشك بالرغم من كل هذا في أنه موجود وأنه كان يعز عليه إثبات وجود أي جزء من أجزاء جسمه، بل قد لا تكون لديه فكرة ما عن الجسم والوجود الذي تصوره مجردا عن المكان والطول والعرض والعمق، وإذا فرض أنه تخيل في هذه اللحظة يداً أو رجلا فلا يضنها يده ولا رجله، وعلى هذا إثباته أنه موجود لم ينتج قط عن الحواس ولا عن طريق الجسم بأسره؛ ولابد له من مصدر آخر مغاير للجسم تمام المغايرة وهو النفس. يقول ابن سينا: (يجب أن يتوهم الواحد منا كأنه خلق دفعة وخلق كاملا، ولكنه حجب بصره عن مشاهدة الخارجات، وخلق يهوى في هواء أو خلاء هوياً لا يصدمه فيه قوام الهواء صدما ما يحوج إلى أن يحس، وفرق بين أعضائه فلم تتلاق ولم تتماس، ثم يتأمل أنه هل يثبت وجود ذاته فلا يشك في إثباته لذاته موجوداً، ولا يثبت مع ذلك طرفا من أعضائه ولا باطنا من أحشائه ولا قلبا ولا دماغا ولا شيئا من الأشياء من خارج، بل كان يثبت ذاته ولا يثبت لها طولا ولا عرضا ولا عمقا. ولو أنه أمكنه في تلك الحال أن يتخيل يداً أو عضواً آخر لم يتخيله جزءاً من ذاته ولا شرطا في ذاته؛ وأنت تعلم أن المثبت غير الذي لم يثبت، والمقر به غير الذي لم يقر به، فإذن للذات التي أثبت وجودها خاصية لها على أنها هو بعينه غير جسمه وأعضائه التي لم يثبت)، وواضح أن هذه البرهنة قائمة على أن الإدراكات المتميزة تستلزم حقائق متميزة تصدرعنها، وان الإنسان قد يستطيع أن يتجرد من كل شيء اللهم إ نفسه التي هي عماد شخصيته وأساس ذاته وماهيته. وإذا كانت الحقائق الكونية كلها تصل إلينا بالواسطة فهناك حقيقة واحدة ندركها إدراكا مباشراً ولا نستطيع أن نشك فيها لحظة، لأن عملها يشهد دائما بوجودها. وما أصدق سقراط حين قال: اعرف نفسك بنفسك. ولئن كنا نستدل على وجود جسم ما بالحيز الذي يشغله فالتفكير الذي هو خاصة النفس الملازمة لها دليل قاطع على وجودها
وقد سبق إلى هذا المعنى أغسطين فيلسوف المسيحية في القرن الخامس الميلادي وسلك في البرهنة على وجود النفس سبيلا تشبه من بعض الوجوه السبيل الآنفة الذكر، فذهب إلى أن الجسم والنفس حقيقتان متميزتان تمام التميز، ففي حين أن الأول يشغل حيزاً وله طول وعرض وعمق لا حيز للثانية مطلقا، وخاصيتها الوحيدة هي التفكير؛ ومن أجل هذا كان شعورنا بها وإدراكنا لها إدراكا مباشراً، فإن الفكر لا يحتاج إلى واسطة في فهم ذاته، ومادامت النفس تفكر فهي موجودة، لأن تفكيرها يساوي وجودها تمام المساواة. وقد يستطيع الإنسان أن يتجرد عن جسمه وعن العالم الخارجي في كل مظاهره، وأن ينكر الحقائق على اختلافها وأن يشك في كل شيء إلا نفسه التي هي مصدر شكه ومبعث تفكيره فإنه لا يجد إلى الشك فيها سبيلا
وهنا نتساءل: هل تأثر ابن سينا بأغسطين أم الأمر مجرد توافق خواطر؟ لم يثبت مطلقا أن مؤلفات الأخير نقلت إلى العربية، ولا نجد أية وسيلة سمحت لابن سينا بالأخذ عنه، ويرجح الأستاذ جلسن أنهما معا صدرا عن أصل إسكندري ولاسيما وهما شديدا التعلق بأفلوطين وتعاليمه، بيد أنا لم نقف على شيء مما وصل إلينا يشهد بأن رجال مدرسة الإسكندرية حاولوا البرهنة على وجود النفس على النحو السابق. ولسنا ندري ما المانع أن يكون برهان الرجل المعلق في الفضاء من ابتكار ابن سينا واختراعه، خصوصا وهو قد عودنا صوراً فرضية أخرى كثيرة كحديث حي بن يقظان ورسالة الطير التي تدل على خيال خصب ومهارة في التصوير. وعلى فرض أنه عالة على من قبله في بعض عناصر برهانه، فليس هناك شك في أن الصورة الجذابة التي صوره بها من بنات فكره وإنتاجه الشخصي، ويخيل إلينا أنه كان مغتبطا بفنه معجبا بتصويره، ولا أدل على هذا من أنه أبرزه مرتين في كتاب الشفاء وعاد إليه مرة ثالثة في إشاراته وهذا التصوير هو الذي ميز برهنته من برهنة أغسطين وان كانتا تلتقيان في الغاية والمرمى. وهو الذي استلفت أنظار فلاسفة القرون الوسطى المسيحيين واستولى على نفوسهم، فأعاده الكثيرون منهم بنصه أحياناً، وخاصة أتباع أغسطين مثل غليوم الأقرني وحنا الروشيني، وكأن هؤلاء ازدادوا تعلقاً بالفيلسوف العربي حين رأوه يقترب من أستاذهم اللاتيني.
ولا نظننا في حاجة إلى أن نشير إلى أن كتاب الشفاء ترجم إلى اللاتينية. وكان للجزء المتعلق بالنفس منه أكبر الأثر في رجال الفلسفة المسيحية، ولم يكد دومينقوس جندسالينوس يترجمه في القرن الثاني عشر الميلادي حتى اقبلوا عليه يتدارسونه ويأخذون عنه مختلف الآراء، ولا يرون على أنفسهم غضاضة في أن يعزوا البرهان الذي نتحدث عنه إلى صاحبه ومبتكره ابن سينا
ويظهر أنهم استمروا يرددونه فيما بينهم إلى عصر النهضة وإلى أن جاء ديكارت فنادى بمبدئه المشهور الذي ينطوي على أفكار أغسطين وسينويه، ففي بحثه عن الحقيقة عاهد نفسه على أن يرفض كل ما يتطرق له الشك، لأن حواسنا في حال اليقظة تخدعنا وتنقل إلينا العالم الخارجي نقلا مشوها، ومخيلتنا أثناء النوم تغدق علينا صوراً وأوهاماً لا أساس لها. وأخذ يشك في كل شيء إلى أن انتهى به شكه إلى حقيقة ثابتة هي أنه يفكر؛ ومادام يفكر فهو موجود، وفي مقدور الشكاك واللاأدريين أن يهدموا الحقائق على اختلافها إلا هذه الحقيقة التي تحمل معها برهانها.
يقول ديكارت: (قد أستطيع أن أفترض أن لا جسم لي وأن لا عالم ولا مكان أحل فيه، ولكني لا أستطيع لهذا أن أفترض أني غير موجود، بل على العكس ينتج قطعاً وفي وضوح من شكي في حقيقة الأشياء أني موجود. . . فقد عرفت إذن أني جوهر ذاته وطبيعته التفكير، ولا يحتاج في وجوده إلى مكان ولا يخضع لشيء مادي، وعلى هذه الصورة الأنا أو النفس التي هي أساس ما أنا عليه متميزة تمام التميز من الجسم، بل هي أيسر معرفة منه، حتى في حال انعدامه لا تنقطع هي عن أن توجد مع كل خصائصها).
هذا هو الكوجيتو الديكارتي القائل: (أنا أفكر فأنا إذن موجود). وهذه هي البرهنة عليه. ولا يجد القارئ صعوبة في إدراك وجوه الشبه بين هذه البرهنة والبرهنتين السابقتين الأغسطينية والسينوية، وقديماً لاحظ أرنولد أن ديكارت يحاكي أغسطين تمام المحاكاة في إثباته وجود النفس وتميزها من البدن ولم يبق مجال للشك في أن أبا الفلسفة الحديثة قرأ مؤلفات أغسطين وخاصة ما اتصل منها بالنفس وخلودها وحديثاً استطاع المسيو ليون بلنشيه أن يبين في سعة وتفصيل جديرين بالإطراء الأفكار التي سبقت الكوجيتو الديكارتي ومهدت له، غير أنه فاته أن يشير إلى الصلة بينه وبين برهان الرجل المعلق في الفضاء. وقد حاول أخيراً المستشرق الإيطالي فورلاني أن يتلافى هذا النقص، فكتب في مجلة فصلا عنوانه (ابن سينا والكوجيتو الديكارتي). وفيه يعرض برهان الفيلسوف العربي وترجمته اللاتينية القديمة، ثم يقارنه بما جاء به ديكارت موجها عنايته الكبيرة إلى بيان أثر الحواس والمخيلة لديهما، وينتهي بعد كل هذا إلى النتيجة الآتية: وهي أنه يستبعد أن يكون ديكارت قرأ ابن سينا رأسا لقلة المطبوعات وعدم تداول مؤلفاته في الأيدي، ويرجح أن يكون قرأه عن طريق غليوم الأقرني
ولكنا نلاحظ أن ترجمة كتاب الشفاء اللاتينية، أعيد طبعها في فينيس ثلاث مرات بين سنة 1496 وسنة 1546. فتكون آخر طبعة منها ظهرت قبل ميلاد ديكارت بخمسين سنة فقط. ونحنن نعلم كيف أثيرت مشكلة النفس وخلودها لعهده، فمن المحتمل أن يكون الباحثون قد لجأوا إلى كل المصادر الممكنة لحلها. وابن سينا من أطول الناس حديثا فيها وأكثرهم غراما بها. وقد أبان رينان من قبل مقدار تعلق السربونيين ورجال الدين في باريس بالفلسفة الإسلامية بوجه عام ومناقشتهم لها وردهم عليها وبحثهم عن أصولها ومصادرها، فلا يمكن أن تكون قد فاتتهم مطبوعات فينيس المتقدمة وفي مكتبة باريس الأهلية أكثر من نسخة من هذه المطبوعات، ويغلب على الظن أنها وصلت السربون منذ ذلك التاريخ: وإذا كان أرنولد قد أشار إلى أغسطين فقط ليبين أن ديكارت عالة على من قبله. فلعل ذلك راجع إلى أنه تخير شخصية معروفة من العالم المسيحي المحيط به
على أن ديكارت لم ينتبه إلى ابن سينا بواسطة غيوم الأقرني فقط، بل يغلب على ظننا أنه اهتدى إليه أيضاً في ثنايا مؤلفات روجير بيكون التي قرأها وتأثر بها في نواح مختلفة. ومهما يكن فسواء أقرأ ديكارت ابن سينا مباشرة أم عن طريق غير مباشر فكل الدلائل قائمة على أن برهان الرجل المعلق في الفضاء جدير بأن يعد بين الأفكار التي سبقت الكوجيتو الديكارتي ومهدت له. وإذا كان ديكارت مديناً لأغسطين بشيء في صوغه وتصويره فهو مدين بدرجة لا تقل عن هذا لابن سينا كذلك، خصوصاً وإلى الأخير يرجع الفضل في بعث أفكار أغسطين من مرقدها وتوجيه اللاتينيين من جديد نحوها توجيهاً نشيطاً في الأربعة قرون السابقة لديكارت. وهو مع زميله ابن رشد قد أثارا في العالم الغربي منذ القرن الثاني عشر مشكلة العقل والنفس ونظرية المعرفة بوجه عام إثارة امتد صداها إلى عصر النهضة.
وغني عن البيان أنه لا يعيب الكوجيتو مطلقاً أن يكون بعض الباحثين قد اهتدى إليه من قبل عن طريق آخر، فإن اتفاق الآراء على أمر من الأمور يزيده قوة فوق قوته ويقيناً إلى يقينه. وليس ثمة داع لأن نجهد أنفسنا، كما صنع هملان وغيره في أن نثبت بأي ثمن أن ديكارت مبدعه الأول، فإن هذه محاولة فاشلة ولا تتفق مع روح البحث العلمي الحديث. ولا يعيب ديكارت نفسه أن يكون قد سبق إليه في صورة غير الصورة التي أظهره فيها، وثوب غير الثوب الذي البسه إياه، فإن الفكرة الواحدة تتشكل بأشكال مختلفة تبعاً للمذاهب الفلسفية التي تبدو فيها
يتبع
إبراهيم مدكور