مجلة الرسالة/العدد 190/من الأدب التركي
→ في الأدب المقارن | مجلة الرسالة - العدد 190 من الأدب التركي [[مؤلف:|]] |
تعليق على مقال ← |
بتاريخ: 22 - 02 - 1937 |
أبناء المجرم
القاضي الشاعر:
فؤاد بك خلوصي أحد رؤساء محكمة النقض والإبرام في الجمهورية التركية الآن وهو مولود في طرابلس الشام، رجل فذ من رجال القانون وشاعر من أرق الشعراء عاطفة وأروعهم بيانا. ولهذا القاضي الشاعر ديوان باللغة التركية وقفت فيه عند قصيدة ممتعة من خالد الشعر يصف فيها تنفيذ حكم الإعدام على مجرم يترك في الحياة أرملة وأطفالا، وقد كان الشاعر أحد قضاة المحكمة العسكرية التي حكمت بإعدام المجرم في ثورة البلقان، فاخترت تعريب هذه الأبيات لما فيها من حكمة وعواطف، ولعرضها مشكلة كبرى من مشاكل العدل الإنساني تجاه سر الحياة
ف. ف
وكانت من شهر ديسمبر أواخر أيامه القارصة، وكان آخر الليل؛ سواد يربط على صقيع وديجور أربد ملفع بالجمود
في كل خطوة أوحال متحجرة بالجليد وزمهرير يسفع الوجوه فيلفحها كالسعير.
تجهم وجه السماء كجمرة تطفئ، وشرارها بقية كواكب الليل، حكمها الملال فأطبقت على أنوارها وتراجعت إلى الأفول
وساد الآفاق ارتعاش صامت، ونعق البوم مقلقلاً سكون الظلمة العميق
أمامك ووراءك حلك الظلام، وفوق رأسك سماء متألمة واجمة، فإلى أين مسيرك يا فؤاد، مضطرباً معقود اللسان؟ إلى أين تتجه في آخر هذا الليل، أيها الرجل؟
هو قاتل أنزل القضاء عليه الحكم بالرفع إلى المشنقة، وأمام قصر الجند المجلل بالرهبة بين المعاقل الحصينة ركزت يد الانتقام بل يد العدل آلة الإعدام، وهناك سينزل القصاص بمن أردى أحد الجنود شهيدا
هبوا من رقادكم أيها الشجعان وأسرعوا إلى المشهد، ذلك حكم الأمة عادلاً وهي تنتظر تنفيذه في المجرم المهين! أيتها الرقة الحديدية سارعي لإطلاق رصاصك على الجاني.
ولكن لا، إنما رصاص بنادقك شريف يضيع في هذا الخائن. اتركوا للحبل فريسته، إن للموت المعلق قلادة القنب وقساوة الجلاد
أيها القضاة المقسمون بوجدانكم! أفما أنتم الحاكمون بالإعدام إجابة لاختيار مجرد فيكم، فعلى مَ ارتعاشكم، وما هذا السهم النافذ الآن إلا سهمكم الذي شددتم له القوس وسددتم له المرمى. .؟
لن أنسى ما حييت ما أرى
بين لجج الظلمات المطبقة على كل منظور، كان نور المشعل واحد تجهمت أشعته على صفحة الأوحال لتزيد في روعة المشهد، وكان هنالك جذعان من الأشجار مرتكزان على الأرض وفوقهما عارضة أفقية تدلى منها حبل تجسم الموت فيه وارتجف الروع برجفانه
أفما تعجب لهذا الانقلاب فيك؟ علام حزنك واضطرابك وأنت الشاجب والقاضي؟ لقد عددت هذا الجاني عدواً للإنسانية ورآه وجدانك مستحقاً للإعدام، وما يجديك افتكارك الآن شيئاً. اثبت أو تردد، اضطرب أو تجلد، لك ما تشاء، فمشيئتك عبث وقولك لن يسمع، ارجع إلى الوراء وقف إلى جانب، اهرب وتوار عن الأنظار، إن يد الجلاد هي التي تقبض الآن على زمام الأقدار
- ما أسمك وما أسم أبيك؟
- فلان وأبي فلان على قيد الحياة
سئل هل له أولاد، فترجم المترجم: إن له طفلين
وشعرت إذ ذاك أن اللجة قد فغرت فاها تحت رجلي
ارتفع الأنين من صدري فاختنق، وربط الروع بشهقة الألم على أنفاسي، وانتصبت أمامي الضحية المقربة لليتم طفلين متشحين السواد، وصرخ من فوف المشنقة: عفوك أيها الإله! وخمدت أنفاسه
وغشت عيني ظلمة خفقت من ورائها الأشياء. نفدت قولي وامتنع الاستجلاء عليّ، فتلاشى أمام ناظري القاتل والمقتول وانتصب مكانهما خيال عيالٍ باكية مصدوعة القلوب دامية الصدور
ذلك أب يبكي أرملة ويتيمين يجولون تائهين بالفقر والمسكنة في فيافي المستقبل الأدكن.
ويلاه ما جنت هذه العيال لتقتسم الجزاء مع الجاني؟ معضلة، من يسبر غورها؟ ومسألة، من يحل عقدتها؟
لو أن هذا المشهد أحلام لبدده انفلاق الصباح وانعتق القلب من روعه وآلامه، ولكن هي الحقيقة الهائلة، ليتها كانت طيفا أو خيالا. . .
فؤاد خلوصي