مجلة الرسالة/العدد 190/على هامش الرتب والنياشين
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 190 على هامش الرتب والنياشين [[مؤلف:|]] |
في الحب أيضا ← |
بتاريخ: 22 - 02 - 1937 |
شكر المنعم واجب
قال لي صديقي وهو أبيٌّ وفي نزيه: ألا يوحي إليك إنعام العرش وإكرام الوزارة كلمة في الرسالة؟ فأجبته جوابا أملس لا يتماسك عليه إيجاب ولا سلب؛ لأن نفسي قلما تنفعل لما يشغل الناس من ضحكات القلوب في هذه الحياة. فقال في لهجة حادة جازمة: إذا لم تكتب أنت كتبت أنا، لأن الأمر بالنسبة إليك يستغرق الفكر طويلا ويستوجب الشكر جهرة
انصرفت عن صديقي ومضيت في طريقي أقاول نفسي في اقتراحه، وأداول عقلي على رأيه. فانثالت على خاطري معانٍ لا أدري أين كانت
لا جرم أن الأمر بالإضافة إلي يستغرق كما قال صديقي الفكر طويلا ويستوجب الشكر علانية، ولا ريب أن واجب الشكر على هذا العطف السامي لا يسقط عني بتسجيله في دفتر التشريف بقصر المُلك ودار الرياسة، فإني لم ألق همي إلى هذا الأنعام، ولم أضع نفسي في طريق هذا الوسام، ولم أكن ذا منصب فأقدّم على حسب ما قضيت به من زمن أو أمضيت فيه من كفاية، ولا صاحب مال فأكرم على قدر ما أنفقت منه في مشروع الدفاع أو في سبيل الخير؛ ولست بالكاتب السياسي الذي يكافأ على عظم جهاده وكرم تضحيته، ولا بالأديب الصالوني الذي يقرب للطف مدخله وحسن مصانعته؛ وإنما أنا رجل لا أحسن بطبعي تكاليف المجتمع: أعيش في زاوية مظلمة من زوايا الحياة، وأدور في دائرة ضيقة من دوائر الوجود، لا أتعرض لأقطاب السياسة، ولا أتعلق بأصحاب النفوذ، ولا أخرج عن هذا النطاق الصوفي الذي ضربته عليّ مواهبي، وحصرت فيه رغائبي وواجبي؛ فأنا كما أجدني في شعوري هوى خالصاً من أهواء الطبيعة: أمجد الوادي لأنه الوطن، وأقدس الملك لأنه الدولة، واحب الوفد لأنه الشعب، وأوثر الخير لأنه الجمال، وأعشق الأدب لأنه الحياة. فإذا نفذت مع ذلك عين الوزارة إليّ، وبسطت جناح برها عليّ. دل ذلك على يقظة تخترق كل حجاب، وعدالة تشمل كل فرد، ونزاهة تفند كل اعتراض
ولا يمكن أن تكون الوزارة قد قصدت بهذا التكريم شخصي الضارع، وإنما قصدت به ولا ريب تكريم الأدب المستقل في جندي من جنوده، وتشجيع الجهاد الثقافي في ناحية من نواحيه. فأما عسيُّ أن أشكر هذه اللفتة الكريمة بلسان الأدب لأنها إلى الأدب، (الرسالة) لأنها متصلة بهذا السبب
كان العهد بالسلطان المطلق أن يكون إنعامه على رأي ابن المقفع أشبه بشجرة الكرم تعلق بأقرب الشجر لا بأكرمه، فلما غلبت الديمقراطية على طبيعة الملك، وقبضت الأمم على أزمة الحكم، تهيأ لكل فرد أن ينال نصيبه المقدور من الكرامة القومية العامة، والسيادة الوطنية المشتركة، وتسنى للنبوغ المستور، والذكاء المغمور، والعبقريات الفقيرة، أن تطاول في المجد شرف الولادة، وتنافس في الجاه سلطان الثروة
وهذا الذي تفعله الحكومة من اقتراحها الألقاب المميزة والأوسمة المشرفة لأبناء الأمة، ظاهره يخالف طبيعتها الشعبية، ولكن باطنه يوافق المنطق ولا يعدو الإنصاف. فإن المساواة روح الدستور وجوهر العدالة، فإما أن تلغى هذه الألقاب فيصبح الناس سواسية أمام المجتمع، كما هم سواسية أمام القانون؛ وإما أن تبتذل هذه المميزات حتى تتدانى الطبقات ويقصر هذا الفرق المهين بين (الباشا) و (الفلاح)
لقد كانوا بالأمس يعيرون الوفد أنه حزب الرعاع وقائد السوقة، فما بالهم اليوم وقد ورث أمجاد الوطن يعيبونه أن يرفع عن حزبه أو شعبه معرة هذه الإهانة؟
زعموا أن الديموقراطية العاملة حين ثارت في فرنسا على الأرستقراطية العاطلة، أوحت إلى العمال العراة الجياع أن يقتحموا قصور السراة والنبلاء، فلبسوا وشيهم، وتقلدوا حليهم، وغرقوا في مقاعدهم المنجدة، وطعموا على موائدهم المنضدة، فشعروا في ساعة واحدة باسترداد ما فقدوه في الحقب الطوال من اللذة والعزة والكرامة والعظمة؛ فلم لا يكون ذلك من هذا؟
عفواً! لقد كدت أخرج عن موضوع الشكر وما قضيت منه لبانة وما نقعت به غلة. وليس الشكر باباً من أبواب الملق ولا ضربا من ضروب التنبيه كما يظن، ولا هو قيد النعم الموجودة، وصيد النعم المفقودة كما يقال، وإنما هو للصنيعة كالاعتراف للاقتراف والتسبيح للعقيدة، يخفف عبء المنة عن الضمير ويكفكف سورة الإيمان عن القلب!
ولئن كان يخجلك في رأي نفسك من التكريم أن تسعى إليه، لقد يخجلك في رأي غيرك إلا تشكره وقد سعى إليك
على أن الأدب نفسه سجل عصره بما فيه من محاسن ومساوئ؛ فهو يضمن الذكر والشكر لمعضده، كما يضمن المجد والخلود لموجده. والأدب كان ولن يزال لغة التاريخ، ولسان النهضة، وقبس الروح، وومضة الإلهام، ورائد الإنسانية إلى المثل الأعلى؛ فلا يمكن أن يكون رجاله في عهد الذين اشتهرت زعامتهم به، وقامت دعايتهم عليه، أضعف ركناً واقل شأناً من رجال الأعمال وأصحاب الأموال وعبيد الأرض
ولولا خلال سنها الشعر ما درى ... بناة المعالي كيف تبنى المكارم
أحمد حسن الزيات