مجلة الرسالة/العدد 189/التبعة الأدبية
→ جولات في الأدب الفرنسي الحديث | مجلة الرسالة - العدد 189 التبعة الأدبية [[مؤلف:|]] |
تاريخ العرب الأدبي ← |
بتاريخ: 15 - 02 - 1937 |
للدكتور حسن صادق
سنبين في هذه الكلمة تبعة الشعراء والكتاب التي يحملونها أمام التاريخ وتثقل على أسمائهم وشهرتم عند مؤرخي الأدب وتطوره، إذا أنتجت أعمالهم الأدبية حالة من الاضطراب العقلي والقلق النفسي بين شباب الأجيال المتعاقبة
وقد يقول قائل إن من ينسب إلى مصنفي الكتب مثل هذه التبعة الخطيرة، إنما يجعل للأدب قيمة أكبر وأعظم من قيمة الدور الحقيقي الذي يقوم به في حياة الأفراد والشعوب. ولكننا نجيب على هذا الاعتراض بأن الطريق الوحيدة التي نملكها لحفظ كنز الإنسانية الأدبي ونقله من جيل إلى جيل، من فجر العصور التاريخية إلى اليوم، هي الكتب؛ وكل ما نعرفه عن العصور الماضية البعيدة لم نصل إليه إلا بأعمال الكتاب. وفضلاً عن ذلك فإن الدراسة المضنية التي يقوم بها الأساتذة أثناء الأعوام الطوال في معهد العلم المختلفة، ليست إلا شرحاً وتفسيراً لأعمال مكتوبة
وينتج عن ذلك أن الحضارة والأدب أمران متعاونان لا ينفصلان، وأن أحدهما بغير الآخر لن يكون إلا التكرار المستمر لوقائع ومذاهب ونظريات بعينها، بدون أية مقارنة ممكنة بين الماضي والحاضر. وما دام هذا هو اعتبار مهمة الكتابة فأن من السهل تصور التعبئة الهائلة الملقاة على عاتق الذين يدونون أفكارهم وينشرونها بين الناس
إن الروح السائد بيننا الآن، قد كونه الشعراء والكتاب والمؤرخون والفلاسفة الذين يتحدثون إلينا بوساطة كتبهم منذ آلاف السنين؛ وسيتأثر من غير شك روح الأجيال القادمة بما نكتب اليوم أو ببعضه على الأقل، ومن أجل ذلك يشعر الإنسان بشيء من الانفعال المستبهم كلما نشر كتاب جديد، لأنه يجهل مبلغ الخير أو الشر الذي ينتجه الكتاب خلال سير الإنسانية.
وليست أنواع الكتب جميعاً متساوية فيما تنتج من الأثر، ولكن أعظمها سلطاناً على النفس وأشدها خطراً وأقواها بأساً هي الكتب التي مصدرها الخيال، أو ما يصح أن يطلق عليها الكتب الشعرية
وفي الحق أنى الكتب الغزيرة المادة التي تدل على التبحر وتتطلب الجدال والمناقشة، أو التي تثبت آراء وأفكاراً وأسس تفندها وتهدمها، سواء أكان موضوعها التأريخ أم الفلسفة أم الدين، تجد أمامها كتباً أخرى كتبت في الموضوعات نفسها للقضاء على الأثر الذي أنتجه النوع الأول من الكتب؛ وبهذه الطريقة نجد تصحيحاً لشر هذه، في الخير الذي تنشره تلك. وجمهرة الناس الذين لهم حق الخيار في الأخذ بما يرون لهم من الآراء، يستطيعون الوصول إلى الحقيقة بفضل جهودهم العقلية الخاصة. وبهذه المناسبة أذكر كلمة حكيمة للكاتب الفرنسي أناتول فرانس، فقد دخلت عليه في صباح أحد الأيام سيدة، فراعها كثرة ما رأت عنده من الكتب والمجلدات، وقالت له في دهشة شديدة: أقرأت يا سيدي الأستاذ هذه الكتب جميعاً؟ فقال نعم، ومن أجل هذا لا أعرف شيئاً. فازداد عجبها من هذا الجواب الغريب وسألته الإفصاح فقال: كل كتاب من هذه الكتب ينقض الآخر ويهدمه. ولهذا السبب لا يخرج القارئ منها جميعاً إلا بفائدة واحدة، هي أن يتعلم كيف يفكر
ولنفرض - كما هو الواقع - أن مؤخراً نشر كتاباً لحمته الهوى وسداه الحقد على شعب أو ملك أو زعيم ما، ففي هذه الحال يكتب مؤرخ آخر في الموضوع نفسه كتاباً يدافع به عن الشعب أو الملك أو الزعيم الذي حمل عليه المؤرخ الأول، ثم يقوم مؤرخ ثالث بجمع الوثائق والأدلة الصحيحة ويثبت الوقائع والآراء في دقة تاريخية، وهكذا. فإن كان المؤرخ الأول قد قصد إلى الشر، فان نجاحه لا يكون إلا في حدود ضعيفة وقتية لا تلبث أن تزول. وكذلك الحال في ميدان الفلسفة، فإذاً دعاك حكيم إلى الركود وعدم الاكتراث مثلاً، أظهر لك حكيم آخر بالمنطق ضرورة الإرادة والعزم والحركة.
فمهما تكن قوة أصحاب المذاهب والمفكرين، فليس لهم علينا إلا سلطان نسبي، لأننا نظل سادة أنفسنا في قبول مبادئهم ومذاهبهم أو رفضها، ونجد في كتابات أخرى السلاح الذي ندفع به عن أنفسنا هجمات هؤلاء
أما حالنا مع الشاعر فعلى النقيض من ذلك، لأنه السيد المطلق في الميدان الذي اختاره لنفسه. والشاعر هنا هو الذي يخلق من عبقريته الخاصة عالكماً من الحوادث والانفعالات والصور ينفث فيه كل حيوية الأشياء الحقيقية، وإذن فالشاعر هو الروائي أو المؤلف التمثيلي، أو الموسيقار، أو مبتكر الحكايات الخرافية أو مصنف الملاحم أو مبتدع الكلام الموزون المقفى
وبفضل هذه الموهبة، موهبة خلق عالم مستقل، يكون الشاعر فخماً عظيماً أو خطراً مخيفاً.
إنه لا يبحث ولا يناقش ولا يبرهن، ولكنه يبتدع ويخترع. فهو لا يقنعنا، ولكنه يستهوينا ويفتننا كما تفتننا المناظر الطبيعية الجميلة واصطفاق الأشجار في سكون الغابة وخرير الماء في الغدير، أي أن الشاعر يغزونا دون أن نستطيع الدفاع عن أنفسنا وصد غارته عنا. وهو بعبقريته يجعلنا عاجزين عن أن نحذر سلطانه، وفرض علينا أريج أزهاره وظلال غاباته والتحليق في أفقه، فنحن في الواقع سجناء سحره، وأين نجد ملجأ للخلاص من الصور والأخيلة التي يطبعها فينا؟ أنلجأ إلى شاعر آخر؟ كلا لأن هذا يكون تعباً ضائعاً لا طائل تحته. فكل شاعر منهم له ميدان حر مستقل خالص، وليس من المعقول أن يفند الإنسان ملحمة بأخرى ولا درامة بأخرى ولا نشيداً بأغنية. ومن هنا نرى الخير أو الشر الذي يستطيع الشاعر عمله. فهو يستطيع أن يغرس فينا بذور البطولة أو جراثيم الجبن؛ وفي وسعه أن يقودنا إلى الخير أو يدفعنا إلى الشر على الرغم منا
والشاعر الكبير الجدير بهذا اللقب هو الذي يشعر بالرحمة العميقة، ويحتقر المتاع المادي، ويستعذب الآلام في سبيل المجد المستقبل. ويلهمنا حب الحياة ويحثنا على إعزاز الإرادة وقهر الهوى، ويدفعنا إلى ضروب التضحية المجيدة، أي يدفعنا إلى البطولة مهما اختلفت البلاد والجنس والذين والفلسفة. وهذه صفات مشتركة بين الشاعر والبطل
وكلامنا هنا عن الشاعر العبقري؛ أما الشاعر الذي يعوزه الابتكار والأسلوب والعبقرية فلا قيمة له ولا أثر يخشى منه. ومثل هذا ربما يحصل على نجاح وقتي، ولكن شهرته لا تطول ونفوذه لا يمتد ولا يثمر
والشاعر العبقري نوعان: الأول هو الذي أوتي المقدرة على استهواء الناس بخصوبة ذهنه ورقة خياله وقوة ألفاظه وإحكام نسجه، ثم يستسلم فيما يكتب لضعف الهوى ويتغنى بالحياة السهلة الرخوة ويندفع في الملذات الحقيرة المبتذلة ويؤثر بهذا فيمن يسحرهم ويدعوهم إلى الضعف والجبن والأثرة والاشتهاء والشراهة. والثاني هو الذي يحملنا نحو مثل أعلى من القوة والنور والبطولة ولا يورطنا في اضطراب الذهن ورعشة الأعصاب والحواس
حسن صادق