مجلة الرسالة/العدد 188/سجين شيلون
→ شاعر الإسلام | مجلة الرسالة - العدد 188 سجين شيلون [[مؤلف:|]] |
الفنون ← |
بتاريخ: 08 - 02 - 1937 |
للشاعر الإنجليزي لورد بيرون
بقلم الأستاذ محمود الخفيف
تتمة ما نشر في العدد الماضي
- 7 -
ذكرت أن أقرب الأخوين إلى مكاني تساقطت نفسه وذوى عوده، وكذلك ذكرت أن قلبه القوي انصدع وانسرقت قوته
عزفت نفسه عن الأكل وعافته، ولم يك ذلك لما كان عليه من قبح ووحشية، فقد ألفنا طعام الصيد ورضنا أنفسنا عليه.
أبدل ما كنا نشربه من لبن تجود به غنمات الجبل، بماء أتوا به من الخندق، وكان الخبز الذي يلقى إلينا على حال أحسسنا معها كأن دموع الموثقين البائسين قد سقته فألانته آلاف السنين، منذ ألقى الإنسان ببني جنسه أول مرة في الأصفاد كما يفعل بضواري الوحوش!
ولكن ما كان ليضيره ذلك أو يضيرنا، لم يكن ذلك ما أذاب قلبه وفت في عضده، فقد كانت روح أخي من ذلك الطراز الذي تتسرب إليه برودة الموت حتى ولو كان في قصر، إذا حيل بينه وبين شعاب الجبال وجوانبه الحادرة. وليت شعري لم أخفي الحقيقة وأؤجل النطق بها. . . لقد لفظ أخي أنفاسه
رأيته يموت ولكن وا حسرتاه لم أستطع أن اسند رأسه، لا ولم استطع أن أمسك بيده وهي تموت ولا بعد أن همدت فيها الحياة، لم أستطع شيئاً من ذلك ولو أني تنزيت في الحديد وحاولت عبثاً أن أفك السلاسل واجعل أصفادي شطرين. لفظ أخي أنفاسه، ففكوا سلاسله وحفروا له لحدا قليل العمق، وقد جعلوه هكذا قريب القرار في مثل تلك الأرض الباردة أرض ذلك القبو
ولقد توسلت إليهم أن يمنوا علي بسلوة لنفسي فيدفنوا جثمانه في بقعة يقع عليها ضوء النهار وهي فكرة سخيفة، ولكنها أوحت إلى نفسي أن قلبه الذي فطر على الحرية لن يجد حتى في ضجعة الموت راحة في مثل ذلك ا وكان أولى بي أن أكفي نفسي عناء هذا التوسل، فما أغنى عني منهم شيئاً، إذ ضحكوا في برود ثم وسدوه وسدوا عليه حيث سجنوه، وهناك رقد ذلك المخلوق الذي أجزلنا له الحب تحت أرض منبسطة لا ينبت فوقها عشب، ترتكز فوقها السلاسل المفرغة والأغلال نصبا ملائما لذلك الاغتيال!
- 8 -
ولكن الآخر، ذلك الفتى الحبيب الذي كان يشبه الزهرة، ذلك الذي أعززناه منذ أن رأت الوجوه عيناه، ذلك الذي كان يحمل صورة أمه في وجه صبوح. ذلك الطفل الذي تحب فيه الطفولة جميعاً، ذلك الذي كان أحب وأعز خيال إلى أبيه الشهير، والذي اصبح في السجن آخر ما بقي لأعنى به، والذي كنت من أجله أجهد أن أبقي على حشاشة نفسي، عسى أن يقلل ذلك من شقاءه وعسى أن تتاح له الحرية يوماً ما؛ أقول حتى ذلك الأخ أيضاً، ذلك الأخ الذي ظل إلى ذلك الوقت محتفظاً بروح ذاتية أو موحاة، غلب على نفسه في النهاية ورأيته يذبل كما تذبل الزهرة على غصنها يوما بعد يوم
يا إلهي! إنه لمما يبعث الرعب في القلوب، أن نرى الروح البشرية تنطلق مولية في أية صورة وفي أي موقف، ولقد رأيتها من قبل تنطلق في دم مسفوح، ورأيتها في البحر الثائر تجاهد الموج المنتفخ القاذف، ورأيت المضاجع المحتضرة مضاجع الذين أسرفوا على أنفسهم يشيع فيها الهذيان من شدة الهول، رأيت ذلك كله وما حوى من صور مرعبة، ولكن رزئي في أخي كان فاجعة.
لم يصحب موته هول مما أسلفت، وإنما أسلم روحه مستيقنا غير معجل، وتساقطت نفسه ومضى هادئا وادعا، أكثر نعومه في نحوله، وابرز جمالا في ضعفه؛ ذهب غير دامع المقلتين ولكنه عطوف رؤوف، حزين على من خلفهم وراءه؛ سار للموت وفي وجنتيه نضرة بدت كأنها تهزأ بالقبر! ولقد ذهبت صبغتها في رقة وهدوء كما يتلاشى في السماء قوس الغمام؛ سار وفي عينيه بريق يكاد ومضه يضيء ذلك القبو
مات لم أسمع له غمغمة ولا أنة تحسر على هذا الذي انتابه قبل أوانه. لم أسمع سوى كلمات قليلة عن حياة هي خير وأبقى، وإشارة طفيفة إلى الأمل أراد بها أن يثيره في نفسي إذ قد غرقت في السكون، وأحسست بفقدان روحي في ذلك القفر الذي عظم عندي عن كل قفر.
وأخيرا توانت وتضاءلت تلك التنهدات التي كان يحاول كتمانها، تلك التنهدات المنبعثة من هزال نفسه المتلاشية
أصخت بسمعي، ولكني لم اسمع شيئاً، فصرخت إذ ذهب الهلع بلبي، فعدت في وحشية المذعور ثم أدركت أني صرخت عبثاً؛ ولكن هلعي ما كان لينهنه بزجر، لذلك عاودت الصراخ واحسبني سمعت صوتا، وإذ ذاك فصمت سلسلتي في وثبة قوية وأسرعت إليه ولكنني لم أجده!
وما فعلت سوى أن رحت أحدق في تلك البقعة القاتمة، وما أحسست سوى أني مازلت حيا وأن رئتي تتنفسان ذلك الهواء الرطب اللعين هواء القبو.
وهكذا انكسرت تلك الحلقة التي كانت تصلني باللانهاية، والتي كانت تربطني بتلك السلالة المضمحلة التي انحدرت منها؛ انكسرت في ذلك المكان المهلك تلك الحلقة الوحيدة آخر الحلقات واعزها جميعا لدي. وبات أخواي أحدهما تحت الأرض والآخر فوقها وكلاهما لا ينبض فيه عرق
أخذت بيدي تلك اليد التي تدلت هامدة، ولكن يدي وا حسرتاه كانت مثلها في برودتها. ولم أعد أجد في نفسي القوة لأن أتحرك أو أناضل، ولكني على الرغم من ذلك أحسست أني ما زلت حيا، وتملكني ذلك الشعور المضطرم الذي لا يقر، ذلك الشعور الذي يكون مبعثه إدراكنا أن الشيء الذي أوليناه محبتنا لن يعود أبداً إلى ما كان عليه. وليت شعري لم عجزت عن أن أضع حدا لتلك الحياة؟ لم يعد يربطني بالأرض أمل. ولكن ظلت لي فيها عقيدتي وهي التي حالت دون أن اقتل نفسي.
- 9 -
أما ما كان من أمري بعد ذلك، فلست أتبينه تماماً. لا أذكر سوى أنني فقدت شعوري أولا بالضوء ثم بالهواء، وأخيراً بالظلمة نفسها. لم أعد أفكر في شئ أو أحس شيئاً، ووقفت حجراً بين الأحجار. كنت كالصخرة الجرداء يغشاها الضباب، إذ لم يكن حولي سوى الفراغ والكآبة والظلام. لم يعد ثمة ليل ولا نهار؛ حتى ولا ذلك النور البغيض نور القبو الذي كان ينفر منه بصري الكليل، لم يبقى إلا الفراغ الذي فني فيه الكون كله فلا أحس سواه، والوجود الذي لا يرتبط بمكان في معناه!
لم يعد ثمة سماء ولا أرض، ولم يعد ثمة ثبوت ولا تحول ولا زمن ولا خير ولا شر، لم يكن هناك سوى السكون، والتنفس الذي لا يبعث حركة فلا هو إلى الحياة ولا هو إلى الموت.
كنت في بحر من الخمود الراكد تغشاه الظلمة، لا تدرك له نهاية، ولا يسمع فيه صوت، ولا تحس فيه حركة!
- 10 -
طافت بعقلي بغتة بارقة من النور؛ كانت غناء حلوا تغنى به طائر، غناء انقطع ولكنه ما لبث أن عاد؛ ولقد كان أجمل سجع سمعته الآذان! طربت له أذناي حتى دارت عيناي تتبعان هذه المباغتة السارة، في تلك اللحظة لم تستطيعا أن تريا إني حليف الشقاء، ولكن حواسي عادت في خطا كئيبة إلى طريقها التي الفتها، ورأيت جدران القبو وأرضه تدور فتلتف حولي في بطئ كما كانت من قبل، ورأيت ذلك البصيص المنبعث من الشمس يزحف كما كان يزحف من قبل؛ بيد أني رأيت ذلك الطائر في تلك الكوة التي دخل منها الشعاع يقف مشغوفاً أليفاً كما لو كان فوق شجرة، بل اكثر ألفة مما لو كان هنالك. كان طائراً جميلاً ذا جناحين أزرقين وغناء جم المعاني؛ ولقد خيل إلي إنه تغنى بتلك المعاني جميعاً من أجلي! وما وقعت عيناي من قبل على طائر مثله ولن تريا بعد شبيهاً له أبداً. وبدا لي كأنما كان يعوزه إلف كما كان يعوزني إلف، ولكنه لم يصل إلى نصف ما كنت فيه من وجد ووحشة. وكذلك بدا لي إنما قد جاء ليهبني حبه، على حين لم يبق لي من يهبني ثانية مثل ذلك الحب. ولقد جعلتني هذه البشرية المنبعثة من حافة القبو أشعر ثانية وأفكر ولست أدري أكان أطلق سراحه حديثاً أم أنه كسر قفصه وجاء ليطل عليّ قفصي! ولكني أيها الطائر الجميل وقد عرفت معنى الأسر لن أستطيع أن أريده لك!
وليت شعري لعله زائر من الفردوس تنكر في جناحين! ذلك إني كنت أفكر أحياناً أنه ربما كان روح أخي هبطت إلي. ولتغفر لي السماء تلك الفكرة، تلك اللحظة التي جعلتني أذرف الدمع وجعلتني ابتسم ولكنه في النهاية ولى بعيداً عني، وإذن فقد كان من بني الفناء؛ عرفت ذلك حق المعرفة. وإلا فما كان ليذرني هكذا في وحدة أحسستها ضعفين: وحدة كنت فيها كما يكون الجسد في أكفانه، أو كما يكون السحاب المنعزل: ذلك السحاب الفريد الذي يتراءى في اليوم الضاحي حينما تكون نواحي القبة صافية كلها فيبدو في الجو كعبوس لا موجب لظهوره والسموات طلقة والأرض في بهجة
- 11 -
طرأ على حالي نوعاً من التغير إذ أصبح آسري ذوي رحمة؛ ولست أدري ماذا جعلهم كذلك وقد ألفوا مناظر الشقاء، ولكن ذلك ما حدث. بقيت سلسلتي المكسورة منفصمة الحلقات. وكانت الحرية عندي أن أتجول في صومعتي من جانب إلى جانب، وأن أقطعها طولاً وعرضاً، وأن أطأ أرجاءها جميعاً، وأدور حول كل عمود، ثم أعود إلى حيث بدأت، لا أتجنب وأنا أطأ الأرض بقدمي إلا ذينك القبرين العاريين: قبري أخوي. ذلك أني كنت إذا ظننت أن وطأة على غير قصد مني قد أهانت مضجعهما الخافض، ينبعث نفسي لاهثاً كثيفاً، وينقلب فؤادي المتحطم ضريراً عليلاً.
- 12 -
تسلقت الحائط ولكني ما أردت الهروب. فقد غال الردى كل من كانوا يحبونني من البشر، ومن ثم صارت الأرض كلها عندي سجناً أكثر سعة مما أنا فيه، لم يكن لي ولد ولا والد ولا ذو قربى، ولا شريك فيما ألاقي من شقاء.
ذكرت ذلك فاغتبطت به لأن فكري في هؤلاء قد أورثني الجنون، ولكني كنت أتطلع إلى تسلق الجدار حتى النوافذ التي تعترضها القضبان. كما كنت أتطلع إلى أن أصوب بصري مرة أخرى في هيام إلى تلك الجبال الشاهقة
- 13 -
رأيتها لما تزل على ما كنت عليه فلم تنل منها يد التغيير كما نالت مني في الأغلال؛ ورأيت الثلج الذي يكلل هاماتها منذ آلاف السنين كما رأيت البحيرة الواسعة الطويلة اسفل منها، ونهر الرون الأزرق في أشد فيضه وسمعت جارف السيل يتلاطم ويندفق فوق الصخر المتشقق والجذوع المتحطمة؛ وأخذت عيناي المدينة النائية البيضاء المنازل، كما لمحت القلاع التي تفوقها ابيضاضاً تجري مسرعة؛ ثم وقع بصري على جزيرة صغيرة تراءت حتى لي أنا باسمة، ولم يلح سواها أمام نظري؛ جزيرة صغيرة خضراء ظهرت كأنما لا يزيد عرضها على ذلك إلا قليلا، قامت فيها ثلاث شجرات باسقات، وكانت تهب عليها نسمات الجبل وتجري بجوارها المياه، كما كانت تنمو فوقها زهرات جميلة اللون عاطرة الأنفاس.
ورأيت فيما رأيت السمك يسبح إلى جدران السجن؛ ولقد بدا للعين مرحا: وحداته وجماعاته؛ وأبصرت النسر يركب متن الريح الهائجة، ويخيل إلي إني لم أره من قبل في مثل تلك السرعة. وعندئذ اخضلّت عيناي بدمع جديد وتبلبل خاطري، وودت لو أني لم انطلق من تلك السلاسل، ولما نزلت أحسست كأن الظلمة في مأواي الكدر تقع عليّ كأنها حمل ثقيل: كانت كأنها القبر ينطبق عليّ من جهدنا في خلاصه، وأحس بصري وقد انقلب إلى هكذا محزوناً كأنه يطلب راحة كراحة القبر.
- 14 -
ولست ادري كم لبثت بعدها في ذلك القبو، ربما كانت شهوراً أو أعواماً أو أياماً. لم أحص لها عدداً ولم ألق إليها بالاً ولم يك ثمة من أمل يرفع عيني ويمسح عنهما القذى المحزن. وأخيراً اقبل الرجال ليطلقوني من الأسر، فلم أعن أن أعرف ما سبب هذا ولا حفلت أين اذهب، فلقد تساوى في النهاية عندي الفكاك والقيد. وتعلمت أن أصالح على اليأس نفسي. ولذلك حين اقبلوا يطلقونني وحين ألقيت جميع السلاسل جانباً، أحسست أن تلك الجدران السميكة قد صارت لي معتكفاً وأصبحت علي وقفاً؛ وكأني شعرت نصف شعور ساعتئذ إنهم أتوا ينتزعونني من وطنٍ ثان. لقد اتصلت بيني وبين العناكب أسباب الصداقة، وكنت أراقب عملها الدائب، كما كنت أرى الجرذان في نور القمر. وليت شعري ماذا يدعوني أن أحس أنني دون هؤلاء جميعاً؟ لقد صرنا آلاّفا جمعتهم وحدة المكان
وكنت أنا فيهم ملك الجميع، ولي الحول أن اقتل أنى شئت! ولكنا تعلمنا أن نعيش معاً هادئين، وذلك لعمري من عجيب الأمور! في ذلك السجن توثقت الألفة بيني وبين الأغلال ذاتها. وهكذا ينتهي بنا طول الاعتياد إلى ما نصير إليه فهأنذا الذي لاقيت ما لاقيت قد تنهدت حينما عادت حريتي إلي!
الخفيف