الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 187/الشتاء

مجلة الرسالة/العدد 187/الشتاء

بتاريخ: 01 - 02 - 1937


للأستاذ أديب عباسي

أحسب أن مقال الأستاذ الكبير (أحمد أمين) في امتداح الشمس وذكر آياتها فينا وأياديها علينا، كان بداعي توارد المعاني والانتقال الطبيعي من موضوع (الضحك) إلى تاليه (الشمس)

فالشمس بما ترسل إلى النفوس في الشتاء من إشراق، وما تشيعه في الوجوه من بشر، وما تبعثه إلى القلوب من حرارة، تعمل عمل الضحك في النفوس والأجسام. ومن هنا ما جوزت لنفسي أن افترض من انتقال الأستاذ بين الموضوعين انتقال توارد لا انتقال عفو

وأنا اعترف بأنني متأثر الأستاذ الكبير، متأثر به في كتابة هذا الفصل. فلولا موضوع الشمس الذي دبجت يراعته الساحرة ما كنت في الأرجح أفكر في موضوع (الشتاء) وأكتب فيه في هذا الفصل الذي يغرى بالاعتكاف والانكماش. ولولا طريقة الأستاذ في امتداح الشمس والتغزل بمحاسنها لكانت لي خطة تباين في الراجح هذه الخطة عند الكتابة في هذا الموضوع لو عينت يوماً أن اكتب فيه

والشتاء - كما لا بد انك تعلم - أقل فصول العام نصيباً من احتفال الشعراء والكتاب له. ومن هنا كان ما قيل فيه مدحاً وهو القليل، وذماً وهو الكثير، أقل لما جاء في الربيع أو الصيف أو الخريف مدحاً وثناء. ولعل ذلك لما يرين على النفوس في هذا الفصل من حرج الشتاء وضيق البرد مما يذود عن الشعراء أقل الشعر والنثر في التغزل بالشتاء ومدح القر. على أنني سأخرج على هذه القاعدة وامتدح الشتاء في فصل الشتاء عينه وإبان اشتداده وسورته غير العادية في هذا العام.

وأول ما نذكره للشتاء وغيومه المقطبة وبروقه الملعلعة ورعوده المقعقعة وغيثه المنهل وسيله الحادر ونهره الهادر، أنه فصل الأحياء والبعث في الطبيعة، وأنه محرك رواقد الأجنة وغوافي النبت، ثم هو مغذي الزرع وباعث الرزق ومحيي الضرع. ولعلة واضحة وسبب مقبول أن أشتق العرب الغيث من الغوث، إذ لولا الشتاء ما نبت نبت ولا تفتح زهر ولا اكتسى دوح ولا فاح عطر ولا غنى جدول ولا انبجس نبع ولا أورق عمود ولا أخضر ربع ولا أحصد زرع يسيل في الترب الماء فينقل أسباب الخصب والنماء إلى البذور المستكنة والأجنة المخبوءة في باطن الأرض، فتصاعد الجواهر المغذية محمولة في مطاويه إلى سوق النبت وأزهاره وأوراقه وبراعمه وتسير في كل مسير، فيأخذ حاجته ونصيبه كفعل الجسم بالدم

ولولا الشتاء لحرمنا الربيع بوشيه وأفوافه وأنواره، والصيف وضلاله الندية، ونسماته الرخية وغلاله الوفية، والخريف وما أنضج من ثمر شهي وفاكهة روية

وللشتاء جماله الرائع القوى: ففيه الغيوم تأخذ كل شكل وتلون كل لون وتسير متلاحقة مطردة، تارة مسرعة وأخرى وئيدة، تشق عباب الجو كالسفين المثقلة. وهي تجتمع في الجو لتفترق، وتفترق لتتجمع، فهي حيناً جميعة وهي حينا الشمل شتيت. وآنا هي مسفة حتى لتدخل من النوافذ وتتطفل على الناس في مخادعهم وأسرتهم، وآونة تسمو وتشيل في كبرياء وأنفة حتى لتكاد تحس بأنها تبغي إلى الشمس سبيلا.

والغيم رمز الأمل القوي والعزم الفتي. فهو أبداً متجدد وهو أبداً يسير، وأبداً يستهدف المرامي البعيدة والآفاق القصية، ولن يصده عنها سهل ولا وعر. وهو كلما وصل أفقاً وبلغ غاية استهدف أفقاً آخر جديداً إلى أن يفنى كفناء الأمل بفناء العمر الذي يضع الحدود ويقيم السدود للآمال والأماني الإنسانية.

وفي الشتاء السيل المنزع والموج المصطفق والنهر الزاخر، وفيه الثلج يكسو الأرض حلة نقية من أديم الشمس هي لولا برودها. وفيه الجليد كالثريات المدلاة حيناً، وحيناً كصفحة السماء، في الزرقة والاستواء، وحيناً آخر تراه. فتخاله هشيماً من البلور النقي الصفيق. وفيه الندى مسلوكا عقوداً من اللؤلؤ في خيوط الزرع وتباشير النبت. وفيه الضباب يضيق الأفق ويقصر أمد الأبصار فترة، فيكون للأبصار كالحمية للأجسام يعطيها فرصة للاستجمام من ألم النظر البعيد! وفي الشتاء البروق الخواطف والرعود القواصف والرياح العواصف. وكل هذا فيه جمال القوة وجمال الروعة، وهما كجمال الهدوء والاعتدال لا زمان لرياضة العواطف وحياة الشعور. وإن يكن في فصول العام ما يرينا عظمة الخالق وجبروته ففصل الأمطار هو أول هذه الفصول. ولا يذكر الناس الله ويخشعون أمام سطوته خشوعاً صادقاً إلا في فصل الشتاء حينما يعود إلى الأذهان ذكر الطوفان الذي أغرق قوم نوح، وحينما يشتد قصف الرعد وهزيمه فتزلزل الأرض زلزالها، وتوشك أن تخرج أثقالها كيوم الحشر.

والشتاء في أول عوامل التعمير والبناء في صرح الاجتماع، فلولا الشتاء لما كان الموقد، ولولا الموقد لما كانت الأسرة أو لتأخر نشوءها أمد طويلاً، ولولا الأسرة ما كانت قبيلة، ولولا القبيلة ما كانت دولة ولا مملكة. فأنت ترى أنه لولا الشتاء وضرورة اجتماع الأفراد حول النار للاصطلاء وطلب الدفء، لظل نشوء الأسرة رهناً بحوادث وظروف أخرى طارئة قد تقع وقد لا تقع.

وفي الشتاء يقل الأجرام قلة ملحوظة، وذلك أن الناس يقلون من الغدو والرواح ويعتكفون في بيوتهم مما لا يهيئ للصوص فرصاً عديدة للسلب والنهب. وفيه كذلك يسمو مستوى الحياة العائلية. فالأب يرى بنيه وزوجه، يخالطهم ويباسطهم ويقيم بينهم وقتاً أطول، فلا الزوجة ساهرة مسهدة، ترقب دامعة العين والقلب أوبة الزوج من إحدى زوراته الليلية، ولا البنون يلتمسون حنو الأب وعطفه عليهم ورعايته لهم وانتباهه إليهم فلا يجدونها، ولا العاشق المفتون ييسر له كل اليسر أن يتسور على الناس الدور ليسطو على الأعراض ويلغ فيها ويفسد

وفي الشتاء تقل الضوضاء ولا يقطع على الناس في الليل وأطراف النهار هدوءهم لغط الباعة وهرجهم وصراخهم وضجيجهم في الشوارع والأزقة وأمام الدور والمدارس والمستشفيات وفي كل محل تجوس خلاله أقدامهم

هذا ويعلم الشتاء الناس الحذر والحيطة، فلا يجدي معه أن تهمل لباسك أو تهمل أمور بيتك أو تهمل استشارة الطبيب أو تغامر في الأدلاج والسير فإنه على خلاف بقية الفصول، سريع حاسم في عمله، ولا يدع لك فرصة للمطل والمراوغة وترك التبعات المفروضة عليك نحوك ونحو بنيك وذويك.

ويعلمنا الشتاء بتقلبه واختلاف وجوهه وقوة تنبيهه دراسة الطبيعة وحسن الاستدلال بالأمائر والإشارات على حال الجو من دفء أو قر أو إمطار أو انحباس وخلافها. والبدوي أسرع الناس استدلالاً وأسوغهم معرفة وأصدقهم فراسة بشؤون الجو، لأن للشتاء عنده من المعاني غير ما له عند الحضري وساكن المدينة

ومن أنعم الشتاء على الناس وفضله العميم انه يحجب عن الأبصار كثيراً من مشاهد القبح والتشويه المغثية مما تقذى به العيون، وأنه يحجب كذلك الكثير من مظاهر الفتنة والجمال والإغراء

وقد تقول محتجاً ومعارضاً: نستطيع أن نفهم ونسيغ أن يكون من فضل الشتاء على الناس وخيره العميم أنه يحجب عنهم مظاهر القبح فيمن حرموا الجمال بما لابد أنهم مخبؤه من أجسامهم الشوهاء المضطربة بما يلففون به أنفسهم من أردية وأكسية ثقيلة، حتى لا يكاد يبدو الاضطراب والتشويه. قد تقول: إننا نستطيع أن نُسيغ هذا ونفهمه، ولكن كيف نفهم أن يكون إخفاء الحسن والجمال والفتنة من أنعم الشتاء عندنا وفضله العميم علينا؟

وأجيب: إنك بلا ريب تحمد للشتاء أن يخفي عنك الفرو الغزير حول العنق فتنة الجيد العاجي، وما يصله بأعلى الصدر من نحر يطل عليك إطلالة الفجر. وتحمد للشتاء أن يخفي عنك بالمعطف الثقيل والدثار الكثيف والصوف الخشن الصدر الناهد البض، والترائب المصقولة والأعضاء المملوءة والرداء الشف يخفي شيئاً ويبدي أشياء فتكون الفتنة - وايم الله - أشد من فتنة العرى الكامل!! وتحمد للشتاء أنه يخفي عن عينك ضمور الخصر وهيف القد والساقين لفرط انسجامها لا تدري أهمها إلى الربالة والامتلاء، أم هما إلى الدقة والنحافة. ستحمد للشتاء كل أولئك لأنك تحب أن يثوب إليك رشدك والعازب من لبك، وتحب أن تنقطع شيئاً آهاتك وتغيب حيناً مثيرات الحرمان والحسرة في فؤادك.

أفبعد هذا لا نصوغ للشتاء عقود المدح والثناء. ونردد قول الشاعر: (سلام الله يا مطر عليك). سواء (أعنى الشاعر مطر السماء أم عنى اسما من الأسماء؟!

بلى، سلام وألف سلام يا شتاء!

أديب عباسي