الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 186/من الشعر المنثور

مجلة الرسالة/العدد 186/من الشعر المنثور

بتاريخ: 25 - 01 - 1937


أحبك أيها الشتاء!

للأستاذ خليل هنداوي

(ألف أدباؤنا أن يكرهوا الشتاء لأنه فصل قاتم الأحشاء، يفرون

من جوه الثقيل ولا يدعون شعره بنفذ إلى قلوبهم، ولكني

أراني تدفعني إلى لقاء الشتاء دوافع لا أستطيع لها دفعاً، وقد

اترك القطر الذي لا تظهر فيه آثار الشتاء كثيراً إلى قطري

الذي تتجلى فيه)

(خ. هـ)

احبك أيها الشتاء!

احب غيومك المتناطحة في الأعالي، تغشى السماء فتحجب زرقتها عن العيون، وتسطو على النور فتتركه قاتم الأحشاء

احب خيوطك المتواصلة التي لا تنقطع، كأنها أغنية السماء للغبراء

احب طيورك السوداء النازحة، هائمة بين الأشجار الجرداء، أو محلقة في الأجواء

احب أشجارك العارية لأنها خلعت ثياباً قديمة وطرحت أوراقاً ذاوية، تاركة لغيرها حق النماء

احب عصافيرك التي تتوارى في الغيوم المدلهمة وقد صرفها التأمل عن الغناء

احب هامات الجبال المكتسية بالثلوج، وبطونها التي في كل منحدر منها ساقية تغني، وفي كل منبطح جدول له خرير

احب رائحة الأرض التي تنم عن كنوز تنطوي عليها فأفعم نفسي بشذاها، وأملأ قلبي من طيب ثراها

احبك حيثما كنت أيها الشتاء! احبك وأنت تزجي إلى مدينتي الغيوم السوداء

تطرح على غامرها وعامرها شباكاً من خيوطك المتواصلة

فما يبالي العاملون بك، ولا يفر الساعون منك؛ يمشون سراعاً تحت شباكك إلى العمل الذي يناديهم!

احب هذه الحجب القاتمة التي يطرحونها على أبدانهم يتقون بها برد الشتاء

انهم يريدون إن يصافحوك تحت هذه السرابيل ولا يريدون منك فراراً

احبك وأنت تغشى مدينتي لأنني أرى قلبها ينبض ويخفق بهؤلاء المتزاحمين صفوفا متراصة في كل شارع؛ تدوي أصواتهم في قلبك وقد كانت هامدة، وتعلو حركتهم في جوك وقد كانت خامدة

احب أنفاسك المتراكمة على المدينة حابسة أنفاسها فيها. . . أتروح هذه الأنفاس فلا أجد إلا نفساً واحداً، وأنت لو ميزت هذا النفس لرأيت انه خليط من أنفاس متباينة؛

أنفاس زفرت من صدور عاملين بائسين؛ وأنفاس خرجت من رجال ونسوة مرحين

كلها صدتها أنفاسك تحت غيومك، فردتها إلى المدينة نفساً واحداً، أكاد - إذا تروحته - أن أقول: هذا نفس عاشقة تترنح! وهذه زفرة بائس يتروح!

ولكني لا أجدها إلا نفساً واحداً متمازجاً! يعبق في جو المدينة، وينسل إلى دور المدينة

فنهارك الحائل متحرك، وليلك الحالك متحرك

هذه الحركة هي أبرز مظاهرك وخير ظواهرك، تشأ وتنمو في حضنك أيها الشتاء!

احب حركتك التي تدل على ثورة الأرض والسماء فيك، فكل شئ فيهما وبينهما ثائر يتحرك!

توحي غيومك المتناطحة معنى الحركة، وتهدي عواصفك الثائرة ورياحك الجائرة إلى الحركة، وتعلن في كل مكان نزلت فيه الحركة. . .

أقم ما شئت يا شتاء!

ولتدلهم - ما شاءت - غيومك!

فإنني أحببت كل اضطرابك، وأنست باصطخابك يا علامة النفس الحية الثائرة!

خليل هنداوي