مجلة الرسالة/العدد 185/هكذا قال زرادشت
→ تاريخ العرب الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 185 هكذا قال زرادشت [[مؤلف:|]] |
إلى شباب الوادي ← |
بتاريخ: 18 - 01 - 1937 |
9 - هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
أفيحلو لكم، أيها الاخوة، أن يخنقكم ما يتبخر من أشواق هؤلاء المسوخ؟ حطموا النوافذ واقفزوا منها لتنجوا بأنفسكم
حاذروا هذه الأبخرة الخانقة وابتعدوا عن عبادة الأصنام فإنها دين الدخلاء على الحياة. حاذروا هذه الأبخرة واعرضوا عن هذه الضحايا البشرية
لم يزل حتى الآن مجال تسعى في رحبه النفوس الكبيرة نحو الحرية في الحياة، ولم تخل الأرض من أماكن يلجا إليها المنعزل منفرداً أو مزدوجاً حيث تهب نسمات البحر الهادئة. فان الحياة الحرة لم تزل تفتح أبوابها لكبار النفوس؛ والحق أن من يملك القليل لا يناله إلا اليسير من تحكم المتسلطين. فطوبى لصغار الفقراء!
لا يظهر الإنسان الأصيل في الحياة إلا حيث تنتهي حدود الحكومات، فهنالك يتعالى نشيد الضرورة بنغماته المحررة من كل مطاوعة وتقييد
هنالك عند آخر حدود الحكومات، قفوا وتطلعوا، يا إخوتي، أفما ترون تحت قوس قزح المعبر الذي يجتازه الإنسان الكامل؟
هكذا تكلم زارا
حشرات المجتمع
سارع إلى عزلتك، يا صديقي، فقد أورثك الصداع صخب عظماء الرجال، وآلمتك وخزات صغارهم. إن جلال الصمت يسود الغاب والصخور أمامك، فعد كما كنت شبيها بالدوحة التي تحب، الدوحة الوارفة الظل المشرفة على البحر مصغية في صمتها إلى هديره
على أطراف حقول العزلة تبدأ حدود الميادين حيث يصخب كبار الممثلين ويطن الذباب المسموم. لا قيمة لخير الأشياء في العالم إن لم يكن لها من يمثلها، والشعب يدعو ممثليه رجالاً عظاماً. فالشعب يسيء فهم العظمة المبدعة، فيبتدع من نفسه المعاني التي يجمل بها ممثليه والقائمين بالأدوار الكبرى على مسرح الحياة إن العالم يدور دورته الخفية حول موجدي السنن الجديدة. وحول لاعبي الأدوار على مسرح الحياة يدور الشعب وتدور الأمجاد، وعلى هذه الوتيرة يسير العالم
إن للاعب الأدوار ذكاءه، ولكنه لا يدرك حقيقة هذا الذكاء لانصباب عقيدته إلى كل طريقة توصله لخير النتائج والى كل أمر يدفع بالناس إلى وضع ثقتهم به
غداً سيعتنق هذا الرجل عقيدة جديدة، وبعد غد سيستبدل بها أجد منها. ففكرته تشبه الشعب تذبذباً وتوقداً وتقلباً
إن ممثل الشعب يرى بالتحطيم برهانه، وبإيقاد النار حجته، وبإراقة الدماء افضل حجة وأقوى دليل. إنه ليعتبر هباء كل حقيقة لا تسمها إلا الآذان المرهفة، فهو عبد الآلهة الصاخبة في الحياة
إن ميدان الجماهير يغص بالغوغاء المهرجين، والشعب يفاخر بعظماء رجاله فهم أسياد الساعة في نظره. ولكن الساعة تتطلب الإسراع من هؤلاء الأسياد، فلذلك يزحمونك، ياأخي، طالبين منك إعلان رفضك أو قبولك، والويل لك إذا وقفت حائراً (بين) (نعم) وبين (لا)
وإذا كنت عاشقاً للحقيقة فلا يغرنك أصحاب العقول الرعناء المتصلبة، وما كانت الحقيقة لتستند يوماً إلى ذراع أحد هؤلاء المتصلبين
دع المشاغبين وارجع إلى مقرك، فما ميدان الجماهير إلا معترك يهدد سلامتك بين خنوع (نعم) وتمرد (لا). إن تجمع المياه في الينابيع لا يتم إلا ببطء، وقد تمر أزمان قبل أن تدرك المجاري ما استقر في أغوارها
لا تقوم عظمة إلا بعيداً عن ميدان الجماهير وبعيداً عن الأمجاد، وقد انتحى الأماكن القصية عنها من أبدعوا السنن الجديدة في كل زمان
اهرب، يا صديقي، إلى عزلتك. لقد طالت إقامتك قرب الصعاليك والأدنياء، لا تقف حيث يصيبك انتقامهم الدساس وقد اصبح كل همهم أن ينتقموا منك. لا ترفع يدك عليهم فان عددهم لا يحصى، وما قدر عليك أن تكون صياد للحشرات. انهم لصغار أدنياء ولكنهم كثرة. ولكم أسقطت قطرات المطر وطفيليات الأعشاب من صروح شامخات. ما أنت بالصخرة الصلدة، ولشد ما فعلت بك القطرات، ولسوف يتوالى ارتشاقها عليك فتصدعك وتحطمك تحطيما
لقد أرهقتك هذه الحشرات السامة فخدشت جلدك وأسالت منه الدماء، وأنت تتحصن بكبرك لتكظم غيظك، وهي تود لو إنها تمتص كل دمك معتبرة أن من حقها أن تفعل لان دمها الضعيف يطلب دماً ليتقوى، فهي لا ترى جناحاً عليها إذ تنشب حمتها في جلدك. إن هذه الجروح الصغيرة لتذهب بالألم إلى مدى بعيد في حسك المرهف، فتتدفق صديداً يرتعيه الدود. أراك تتعالى عن أن تمد يدك لقتل هذه الحشرات الجائعة، فحاذر أن يجول سم استبدادها في دمك
إن هؤلاء المشاغبين يدورون حولك بطنين الذباب، فهم يرفعون أناشيدهم تزلفا إليك ليتحكموا في جلدك ودمك. انهم يتوسلون إليك ويداهنونك كما يداهنون الآلهة والشياطين، فيحتالون عليك بالملاطفة والثناء، وما يحتال غير الجبناء
انهم يفكرون بك كثيراً في سرهم فيلقون الشكوك عليك، وكل من يفكر الناس به كثيراً تحوم حوله الشبهات
انهم يعاقبونك على كل فضيلة فيك ولا يغتفرون لك من صميم فؤاد هم إلا ما ترتكب من أخطاء. انك لكريم وعادل، لذلك تقول في قلبك: (إن هؤلاء الناس أبرياء وقد ضاقت عليهم الحياة) ولكن نفوسهم الضيقة تقول في نجواها: (إن كل حياة عظيمة إنما هي حياة مجرمة) ويشعر هؤلاء الناس بأنك تحتقرهم عندما تشملهم بعطفك، فيبادلونك عطفك بالسيئات. انك لتصدعهم بفضيلتك الصامتة فلا يفرحون إلا عندما يتناهى تواضعك فيستحيل غروراً. إن الناس يطمحون بالطبع إلى الهاب كل عاطفة تبدو لهم، فأحذر الصعاليك لأنهم يحسون بصغارهم أمامك فيتحمسون حتى ينقلب إحساسهم كرها وانتقاماً
أفما شعرت انهم يخرسون عندما تطلع عليهم، فتبارحهم قواهم كما يبرح الدخان النار إذا همدت
اجل ياصديقي، ما انت إلا تبكيت في ضمائر أبناء جلدتك لأنهم ليسوا أهلا لك، فهم لذلك يكرهونك ويودون امتصاص دمك
إن أبناء جلدتك لن يبرحوا كالحشرات المسمومة لان العظمة فيك ستزيد أبداً في كرههم لك
إلى عزلتك، يا صديقي، إلى الأعالي حيث تهب رصينات الرياح، فانك لم تخلق لتكون صياداً للحشرات
هكذا تكلم زارا. . .
العفة
احب الغاب، فما تسهل حياة المدن علي وقد كثر فيها عبيد الشهوات الثائرات
لخير أن يقع الرجل بين براثن سفاح من أن تحدق به أشواق امرأة جامحة ملتهبة
إنك إذا ما تفرست في رجال المدن، لتشهد لك نظراتهم بأنهم لا يرون في الأرض شيئاً يفضل مضاجعة امرأة. . .
في أغوار أرواحهم ترسب الأقذار، وأشقاهم من تمرغ عقله بأقذاره
ليتك حيوان اكتملت حيوانيته على الاقل، ولكن أين منك طهارة الحيوان؟ ما أنا بالمشير عليك بقتل حواسك؛ إن ما أوجبه إنما هو طهارة هذه الحواس
ما أنا بالمشير عليك بالعفة، لأنها إذا كانت فضيلة في البعض فإنها لتكاد تكون رذيلة في الآخرين. ولعل هؤلاء يمسكون عن التمتع، غير أن شبقهم يتجلى في كل حركة من حركاتهم
إن كلاب الشهوة تتبع هؤلاء الممسكين حتى إلى ذرى فضيلتهم فتنفذ إلى أعماق تفكيرهم الصارم لتشوش عليه في سكينته؛ ولكلاب الشهوة من مرونة الزلفى ما تتوسل به إلى نيل قطعة من الدماغ المفكر إذا منعت قطعة اللحم عنها
إنكم تحبون المآسي وكل ما يفطر القلوب، أما أنا فلا أثق بكلاب شهواتكم لأن نظراتكم الرصينة تمتلئ شهوات عندما تقع على المتألمين؛ وقد تنكر الشبق فيكم فدعوتموه إشفاقاً وأني لأضرب لكم مثلا على هذا: حالة العدد الوفير ممن أرادوا طرد الشياطين فدخلوا هم في الخنازير بدلاً منها
إذا ما ثقلت العفة على أحد منكم فعليه أن يعرض عنها كيلا تنبسط أمامه سبيلاً إلى الجحيم، جحيم أقذار النفس ونيرانها
لعلكم ترون بذاءة في كلامي، أما أنا فأرى البذاءة حيث لا ترونها انتم
ليست البذاءة في قذارة الحقيقة، بل هي في تدنيها وإسفافها، وطالب المعرفة يأنف من الانحدار إلى مهاويها إن من الناس من دخلت العفة قلوبهم فلانت هذه القلوب لها. أولئك هم الضاحكون وفي ابتسامهم ما ليس في ابتسامكم من إخلاص. انهم يهزءون بالعفة ويتساءلون عما يمكن أن تكون أفليست العفة غروراً؟ أفليست هي التي جاءت إلينا ولم نذهب نحن إليها؟ لقد فتحنا قلبنا لها فاستقرت ضيفاً ثقيلاً فيه، فليبق هذا الضيف نازلاً فينا ما طاب له المقيل
هكذا تكلم زارا. . .
(يتبع)
فليكس فارس