مجلة الرسالة/العدد 185/بناء العلم
→ من ذكريات المجد! | مجلة الرسالة - العدد 185 بناء العلم [[مؤلف:|]] |
تاريخ العرب الأدبي ← |
بتاريخ: 18 - 01 - 1937 |
للسير جيمس جنز
ترجمة إبراهيم البرسي
إذا ما تجمع لدى الباحثين قدر مناسب من الحقائق في ناحية من نواحي العلمية، فالخطوة التالية تكون محاولة إيجاد قاعدة عامة تربط هذه الحقائق جميعها؛ وقد تتفق هذه القاعدة أولا تتفق مع الاعتبارات المقررة. ولا يكفي أن تفسر هذه القاعدة الحقائق المعروفة، بل لا بد أن تتفق مع كل ما يكشف منها؛ فهي على ذلك لا تكون إلا بمثابة افتراض؛ ويبدأ العالم بأن يقول: (إن التجارب أثبتت هذه الحقائق، وأرى أن افتراضاً معيناً يتفق معها جميعها) ثم يستمر هو وأمثاله في العمر للحصول على بيانات أدق وأوفى مرتبطة بالحقائق الأولى؛ وكثيراً ما يؤدي ذلك إلى الوصول إلى حقائق جديدة. ويمتحن الافتراض الأول بمطابقته للمعلومات الجديدة
أما إذا وجد افتراضان متناقضان، فقد يكون ممكناً أن نتبين الصحيح منهما؛ فإذا أمكننا مثلاً أن نبين أن ظاهرة (س) تحدث إذا كان الفرض الأول صحيحاً، ولا تحدث إذا كان الفرض الثاني صحيحاً، فبأجراء تجربة لمشاهدة ظاهرة (س) يثبت أحد الافتراضين
هذه التجربة كغيرها: هي في الواقع توجيه سؤال للطبيعة وهو: (هل يستقيم الفرض الأول؟. .) وهي تجيب بان ترينا إما ظاهرة مناقضة للفرض أو متفقة معه. ولكنها لا تستطيع مطلقاً أن ترينا ظاهرة تثبت صحة هذا الفرض، لان ظاهرة واحدة تكفي لتهدم فرضاً معيناً بينما لا تكفي ملايين الظواهر لإثباته. ولهذا السبب لا يستطيع العالم أن يجزم بمعرفته أي شيء على وجه التأكيد؛ اللهم إلا الحقائق المباشرة للمشاهدات. وإذا تعدى هذا فلا يستطيع التقدم إلا بافتراضات متعاقبة تحظى الواحدة منها باتفاقها مع حقائق اكثر من سابقتها وتتخلى كل منها لمن تتبعها؛ وفي الواقع لن يأتي وقت لانتقال من الافتراضات إلى التأكيدات
الآن وقد ناقشنا أبسط مثل لاستفسار الطبيعة يجدر بنا أن نشير إلى بعض الصعوبات، فليس من الممكن دائماً أن تضع سؤالاً يكون جوابه (الإيجاب) أو (النفي) فقط، فكثيراً ما تنشأ مسائل أكثر صعوبة عند ما يخدع فرض وهمي من يقوم بتجربة، أو يحاول الحصو على جواب لسؤال غير معقول؛ فإذا أمكنه بطريقة ما أن يجري تجربته فان نتيجتها تكون غير مفهومة كما كان السؤال بالنسبة للطبيعة
ولنضرب لذلك مثلاً، فنتصور عدداً من الرجال مجهزين بأدق الأجهزة، ولكن ينقصهم الإدراك العلمي، فإذا رأوا مثلا (قوس قزح) في السماء ورغبوا في معرفة بعده عنهم، وبدءوا يعتبرونه كمنظر عادي بسيط فكونوا فرقة من المساحين لتعيين بعده، فمن القياسات المأخوذة بأدق الأجهزة تظهر نتيجة واحدة لا خلاف فيها، وهي أن المسافة (ناقص 93 مليون ميل)
وظاهر أن من السخف بمكان أن تقاس مسافة بالسالب، وأسخف منه هذا التقدير الكبير لها، إذ أن القوس قد يظهر بيننا وبين جبل معين مثلا وبعده لا يداني هذه المسافة بحال. أما إذا غير وضع السؤال بان قلنا (ما المسافة التي يبعدها مصدر الضوء الذي نراه في القوس أمامنا؟) رأينا الجواب (ناقص 93 مليون ميل) محملا بالمعاني. فالعلامة السالبة تدلنا على أن مصدر الضوء لا يقع أمامنا بل خلفنا، ومن بعده نستنتج أن هذا المصدر ليس إلا الشمس بعينها
وفي الواقع أن وضع سؤال معقول أصعب كثيراً من الحصول على جواب لسؤال غير معقول، ولنضرب مثلا ينقلنا من هذا التعميم وصعوبته بالفلك والنظرية النسبية:
جمع الإغريق والمصريون عدداً كبيرا من الحقائق المتعلقة بالحركة الظاهرية للشمس والقمر والكواكب. وحوالي عام 150 من الميلاد حاول (بطليموس) عالم الإسكندرية وضع فرض يفسر هذه الحركات جميعها؛ وقد تصور الأرض مركزا لهذه المجموعة تدور الشمس والقمر والكواكب حولها، مخالفا بذلك ارسطاطاليس وأتباع فيثاغورس، فالشمس والقمر يتحرك كل منهما في دائرة، بينما الكواكب تتحرك في مسارات معقدة. ولم تكشف حقائق جديدة لاختبار هذا الفرض حتى وضع (كوبرنيكس) في سنة 1543 فرضا آخر اتضح أنه يفسر الحقائق السالفة الذكر بطريقة أبسط، فاعتبر الشمس - لا الأرض - مركزا للمجموعة الشمسية بينما الأرض والقمر والكواكب تسير في دوائر حولها، ولكن لازالت حركة الكواكب معقدة بعض الشيء بالحركة في دوائر ثانوية
وعلى ذلك ظهر افتراضان في المحيط العلمي؛ وقد حاول (كوبرنيكس) الفصل بينهما. فإذا كان فرض (بطليموس) صحيحا فان كوكب (الزهرة) لا يرى أقل من نصف دائرة ضوئية. ومن الناحية الأخرى إذا دار هذا الكوكب حول الشمس وجب أن نرى له أوجها كأوجه القمر. وقد مكننا التلسكوب الذي استكشف في سنة 1609 من توجيه سؤالنا إلى الطبيعة لتفصل بين الفرضين. وبمجرد أن رأى (جاليلو) كوكب الزهرة يظهر على شكل قوس دقيق تأكد أن فرض بطليموس لا يستقيم
ولم يثبت هذا بالطبع فرض (كوبرنيكس) ولكن تجمعت حقائق جديدة على جانب كبير من الدقة جعلت الشك يحوم حول هذا الفرض. ونخص بالذكر من بين هذه الحقائق ما لاحظه (كبلر) من أن حركة المريخ التي درسها في شيء من التفصيل لا تتفق مع فرض (كوبرنيكس). وقد جعله هذا يعرض فرضا جديدا، وهو أن الكواكب لا تدور حول الشمس في دوائر ودوائر صغيرة حول محيطها، ولكن في إقطاع ناقصة تكون الشمس بؤرتها المشتركة وقد ظل هذا الفرض متفقاً مع كل الحقائق الفلكية لمدة طويلة
وقد حاول (نيوتن) بعد هذا بنصف قرن أن يجمع هذه الحقائق وغيرها تحت فرض أوسع، فتصور أن كل جسم في الكون يجذب غيره بقوة الجاذبية، وهذه تتغير عكسيا مع مربع المسافة بين الجسمين؛ وفرض أن الكواكب تتحرك تحت تأثير هذه القوى فقط، ثم بين أن هذا الفرض يفسر سير الكواكب في إقطاع ناقصة، وكذلك يفسر كمية كبيرة من الحقائق والظواهر منها حركة القمر حول الأرض وحركة كرة الكريكيت في قطع مكافئ عند قذفها. حتى المد والجزر فسره هذا الفرض وأخيراً وجد أنه يفسر حركة المذنبات هذه التي كانت تعتبر دلائل مخيفة ومجهولة تخشى لأنها علامة الشر أو الغضب السماوي أصبحت لا ترى إلا ككتل جامدة ترسم مسارها حول الشمس تحت تأثير نفس القوى التي تعمل في الكواكب
ثم استمرت بعد ذلك الحقائق والبيانات تترى وكلها متفقة مع نظرية نيوتن حتى منتصف القرن التاسع عشر حيث وجد الفلكي (لفرييه) شذوذاً في حركة عطارد، فان فرض نيوتن يتطلب أن يعيد الكوكب مساره دائماً حول الشمس في نفس القطع الناقص كما تدور لعب الأطفال الآلية في نفس المسار مرات مستمرة، بينما وجد (لفرييه) أن كوكب عطارد يتحرك في قطع ناقص ولكن هذا القطع نفسه متحرك في الفراغ ويتم دورته في نحو ثلاثة ملايين من السنين، فكأنما المسار الذي تجري فيه هذه اللعبة موضوع على مائدة متحركة تدور حول محورها ببطء بينما تجري هي بسرعة في مسارها
وبمضي الزمن عرض (أينشتين) فرضاً جديداً هو النظرية النسبية، وهذه لم تفسر الظواهر التي فسرتها نظرية الجاذبية لنيوتن فحسب، بل وضحت حركة (عطارد) توضيحاً دقيقاً وفسرت كذلك عدداً كبيراً من الحقائق العلمية الأخرى
وقد أمكن عمل تجارب ومشاهدات فاصلة بين النظريتين: النظرية الحديثة (لأنشتين) والنظرية القديمة لنيوتن، وفي كل هذه التجارب والمشاهدات قضت الطبيعة على نظرية الجاذبية وعززت النظرية النسبية؛ وقد أجريت تجارب أخرى لتفصل في النظريات السائدة في هذا العصر كالنظرية القائلة بان الضوء ينتقل كموجات في الأثير الذي يملأ كل شيء، وأن القوى الكهربائية والمغناطيسية تنتقل كضغط وشد في هذا الأثير، وفي هذه أيضاً انحازت الطبيعة للنظرة النسبية. وقد أصبحت النظرية النسبية الآن تفسر مجموعة هائلة من الظواهر الطبيعية ولم تظهر بعد حقيقة واحدة لا تتفق معها.
إن الغرض العام للعلم هو أن يسير إلى مثل هذه النظريات ويصل إليها. ولا نستطيع مطلقا أن نعتبر نظرية ما نهائية أو حقيقة مطلقة، إذ من المحتمل أن تظهر حقيقة جديدة في وقت ما ترغمنا على هذه النظرية؛ وقد يحدث ذلك للنظرية النسبية ولو أنه بعيد الاحتمال. وإذا ما حدث ذلك برغم استبعاده فان الوقت الذي أنفق في تكوينها لم يضع سدى، بل سيكون تدرجا إلى نظرية أوسع وأكمل تتفق مع عدد أكبر من الظواهر الطبيعية. من ذلك يظهر العلم للرجل العادي متغيرا دائم التغير دائراً حول نفسه مخالفا لنظرياته الأولى، ولكن العالم يراه دائم التقدم ويرقى من نظرية إلى أخرى، تحظى كل نظرية منها باتفاقها مع حقائق تزيد على التي أزاحتها، ورائده الوصول إلى هدفه الأسمى وهو النظرية التي تفسر ظواهر الطبيعة كاملة
إبراهيم البرلسي