الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 185/القلب المسكين

مجلة الرسالة/العدد 185/القلب المسكين

بتاريخ: 18 - 01 - 1937


تتمة

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

قال صاحب القلب المسكين: ووقفت المحامية وكأنها بين الحراس تزدحم عليها من كل ناحية، وقد ظهرت للموجودين ظهور الجمال للحب، ونقلتهم في الزمن إلى مثل الساعة المصورة التي ينتظر فيه الأطفال سماع القصة العجيبة؛ ساعة فيها كل صور اللذة للقلب

وكانت تدافع بكلامها ووجهها يدافع عن كلامها، فلو نطقت غيا أو رشداً فلهذا صواب ولهذا صواب، لان أحد الصوابين منظور بالأعين

كان صوت النائب العام كلاماً يسمع ويفهم؛ أما صوت المحامية الجميلة فكان يسمع ويفهم ويحس ويذاق، تلقيه هي من ناحية ما يدرك، وتتلقاه النفس من ناحية ما يعشق، فهو متصل بحقيقتين من معناه ومعناها، وهو كله حلاوة لأنه من فمها الحلو

وبدأت فتناولت من أشيائها مرآة صغيرة فنظرت فيها

- النائب العام: ما هذا يا أستاذة؟

- المحامية: إنكم تزعمون أن هذه الجريمة تأليف عيني، فأنا أسأل عيني قبل أن أتكلم

- النائب: نعم يا سيدتي؛ ولكني أرجو إلا تدخلي القضية في سر المرآة وأخواتها. . . أن النيابة تخشى على اتهامها إذا تكحلت لغة الدفاع

فضحكت المحامية ضحكة كانت أول البلاغة المؤثرة. . .

- النائب: من الوقار القانوني أن تكون المحامية الفاتنة غير فتانة ولا جذابة أمام المحكمة

- المحامية: تريد أن تجعلها عجوزاً بأمر النيابة. . .؟ (ضحك)

- النائب: جمال حسناء، في ظرف غانية، في شمائل راقصة، في حماسة عاشقة، في ذكاء محامية، في قدرة حب. هذا كثير

- المحامية: يا حضرات المستشارين. لم تكن المرآة هفوة من طبيعة المرأة، ولكنها الكلمة الأولى في الدفاع. كلمة كان الجواب عنها من النائب العام أنه أقر بتأثير الجمال وخطره، حتى لقد خشي على اتهامه إذا تكحلت له لغتي

- القضاة يتبسمو - النائب: لم أزد على أن طلبت الوقار القانوني. الوقار. نعم الوقار، فان المحامية أمام المحكمة، هي متكلم لا متكلمة

- المحامية: متكلم بلحية مقدرة منع من ظهورها التعذر. . . (ضحك)

كلا يا حضرة النائب؛ إن لهذه القضية قانوناً آخر تنتزع منه شواهد وأدلة؛ قانون سحر المرأة للرجل، فلو اقتضاني الدفاع أن أرقص لرقصت، أو أغني لغنيت، أو أثبت سحر الجمال لأثبته أول شيء في النائب العام. . .

- الرئيس: يا أستاذة؟

- المحامية: لم أجاوز القانون، فالنائب في جريمتنا هو خصم القضية، وهو أيضاً خصم الطبيعة النسوية

- النائب: لو حدث من هذا شيء لكان إيحاء لعواطف المحكمة. . . فأنا أحتج

- المحامية: احتج ما شئت، ففي قضايا الحب يكون العدل عدلين، إذ كان الاضطرار قد حكم بقانونه قبل أن تحكم أنت بقانونك

- النائب: هذه العقدة ليست عقدة في منديل يا سيدتي، بل هي عقدة في القانون

- المحامية: وهذه القضية ليست قضية إخلاء دار يا سيدي، بل هي قضية إخلاء قلب

- الرئيس: الموضوع، الموضوع

- المحامية: يا حضرات المستشارين. إذا انتفى القصد الجنائي وجبت البراءة. هذا مبدأ لا خلاف عليه؛ فما هو الفعل الوجودي في جريمة قلبي المسكين؟

- النائب: أوله حب راقصة؟

- المحامية: آه دائماً هذا الوصف. هبوها في معناها غير جديرة بان يعرفها لأنه رجل تقي، فليست في حسنها جديرة بان يحبها لأنه رجل شاعر؛ احكموا يا حضرات القضاة. هذه راقصة ترتزق وترتفق، ومعنى ذلك إنها رهن بأسبابها، ومعنى هذا إنها خاضعة للكلمة التي تدفع. . . فلماذا لم ينلها وهي متعرضة له، وكلاهما من صاحبه على النهاية، وفي أخر أوصاف الشوق؟ أليس هذا حقيقياً بإعجابكم القانوني كما هو جدير بإعجاب الدين والعقل؟ وأن لم يكن هذا الحب شهوة فكر، فما الذي يحول دونها وما يمنعه أن يتزوجها. . .؟ - القضاة يتبسمون

- النائب: نسيت المحامية إنها محامية وانتقلت إلى شخصيتها الواقفة على النهاية وفي أخر أوصاف الشوق. . . فأرجو أن ترجع إلى الموضوع، موضوع الراقصة

- المحامية: آه دائماً الراقصة. من هي هذه المسكينة الأسيرة في أيدي الجوع والحاجة والاضطرار؟ أليست مجموعة فضائل مقهورة؟ أليست هي الجائعة التي لا تجد من الفاجرين إلا لحم الميتة؟ نعم إنها زلت. إنها سقطت. ولكن بماذا؟ بالفقر لا غير؛ فقر الضمير والذمة في رجل فاسد خدعها وتركها؛ وفقر العدل والرحمة في اجتماع فاسد خذلها وأهملها. يا للرحمة لليتيمة من الأهل، وأهلها موجودون! والمنقطعة من الناس، والناس حولها!

تقولون: يجب ولا يجب، ثم تدعون الحياة الظالمة تعكس ما شاءت فتجعل ما لا ينبغي هو الذي ينبغي، وتقلب ما يجب إلى ما لا يجب. فإذا ضاع من يضيع في هذا الاختلاط، قلتم له: شانك بنفسك ونفضتم أيديكم منه فأضعتموه مرة أخرى. ويحكم يا قوم! غيروا اتجاه الأسباب في هذا الاجتماع الفاسد تخرج لكم مسببات أخرى غير فاسدة

تأتي المرأة من أعمال الرجل لا من أعمال نفسها، فهي تابعة وتظهر كأنها متبوعة؛ وذلك هو ظلم الطبيعة للمسكينة؛ ومن كونها تظهر كأنها متبوعة، يظلمها الاجتماع ظلماً آخر فيأخذها وحدها بالجريمة، ويقال سافلة وساقطة وما جاءت إلا من سافل وساقط

لماذا أوجبت الشريعة الرجم بالحجارة على الفاسق المحصن؟ أهي تريد القتل والتعذيب والمثلة؟ كلا فان القتل ممكن بغير هذا وبأشد من هذا. ولكنها الحكمة السامية العجيبة: أن هذا الفاسق هدم بيتا فهو يرجم بحجارته

ما أجلك وأسماك يا شريعة الطبيعة؛ كل الأحجار يجب أن تنتقم لحجر دار الأسرة إذا انهدم

تستسقطون المسكينة ولو ذكرتم آلامها لوجدتم في ألسنتكم كلمات الإصلاح والرحمة لا كلمات الذم والعار. إنها تسعى برذيلتها إلى الرزق؛ فهل معنى هذا إلا إنها تسعى إلى الرزق بأقوى قوتها. نعم أن ذلك معنى الفجور؛ ولكن أليس هو نفسه معنى القوت أيها الناس؟

- الرئيس وهو يمسح عينيه: الموضوع الموضوع.

- المحامية: ما هو الفعل الوجودي في جريمة قلبي المسكين؟ ما هو الواقع من جريمة يضرب صاحبها المثل بنفسه للشباب في تسامي غريزته عن معناها إلى أطهر وأجمل من معناها؟ لبئس القانون إن كان القانون يعاقب على أمر قد صار إلى عمل ديني من أعمال الفضيلة

- النائب: ألا يخجل من شعوره بأنه يحب راقصة؟

- المحامية: ومم يخجل؟ أمن جمال شعوره أمن فن شعوره؟ أيخجل من عظمة في سمو في كمال؟ أيخجل البطل من أعمال الحرب وهي نفسها أعمال النصر والمجد؟

أتأذنون يا حضرات المستشارين أن أصف لكم جمال صاحبته وأن أظهر شيئاً من سر فنها الذي هو سر البيان في فنه؟

- النائب: إنها تتماجن علينا يا حضرات المستشارين، فالذي يحاكم على السكر لا يدخل المحكمة ومعه الزجاجة. . .

- الرئيس: لا حاجة إلى هذا النوع من ترجمة الكلام إلى أعمال يا حضرة الأستاذة

- المحامية: كثيراً ما تكون الألفاظ مترجمة خطأ بنيات المتكلمين بها أو المصغين إليها؛ فكلمة الحب مثلاً قد تنتهي إلى فكر من الأفكار حاملة معنى الفجور، وهي بعينها تبلغ إلى فكر آخر حاملة إلى سموه من سموها. وعلى نحو من هذا يختلف معنى كلمة الحجاب عند الشرقيين والأوربيين؛ فالأصل في مدنية هؤلاء إباحة المعاني الخفيفة من العفة. . وإكرام المرأة إكرام مغازلة. . . يقولون أن رقم الواحد غير رقم العشرة فيضعونه في حياة المرأة، فما أسرع ما يجيء (الصفر) فإذا هو العشرة بعينها. . .

أما الشرقيون فالأصل في مدنيتهم التزام العفة وإقرار المرأة في حقيقتها. لا جرم كان الحجاب هنا وهناك بالمعنيين المتناقضين: الاستبداد والعدل، والقسوة والرحمة، و. . .

- النائب: وامرأة البيت وامرأة الشارع. . .

- المحامية: وبصر القانون وعمي القانون

- الرئيس: وحسن الأدب وسوء الأدب. . . . الموضوع الموضوع

- المحامية: لا والذي شرفكم بشرف الحكم يا حضرات المستشارين ما يرى القلب المسكين إلا في حبيبته إلا تعبير الجمال، فهو يفهمها فهم التعبير ككل موضوعات الفن. وما بينه وبينها إلا أن حقيقة الجمال تعرفت إليه فيها. أئن أحس الشاعر سراً من أسرار الطبيعة، في منظر من مناظرها، قلتم أجرم وأثم؟

هذا قلب ذو أفكار، وسبيله أن يعان على ما يتحقق به من هذا الفن. قد تقولون: أن في الطبيعة جمالاً غير جمال المرأة فليأخذ من الطبيعة وليعط منها. ولكن ما الذي يحي الطبيعة إلا أخذها من القلب؟ وما هي طريقة أخذها من القلب إلا بالحب؟ وقد تقولون: إنه يتألم ويتعذب، ولكن سلوه. أهو يتألم بإدراكه الألم في الحب؛ أو بإدراكه قسوة الحقيقة، وأسرار التعقيد في الخير والشر؟

إن شعراء القلوب لا يكونون دائماً إلا في أحد الطرفين: هم أكبر من الهم، وفرح أكثر من الفرح. فإذا عشقوا تجاوزوا موضع الوسط الذي لا يكون الحب المعتدل إلا فيه؛ ومن هذا فليس لهم آلام معتدلة ولا أفراح معتدلة

هذا قلب مختار من القدرة الموحية إليه، فالتي يحبها لا تكون إلا مختارة من هذه القدرة اختيار ملك الوحي. وهما بهذا قوتان في يد الجمال لإبداع أثر عظيم ملء قدرتين كلتاهما عظيمة

فان قلتم إن حب هذا القلب جريمة على نفسه، قالت الحقيقة الفنية: بل امتناع هذه الجريمة جريمة

إن خمسين وخمسين تأتي منهما مائة؛ فهذا بديهي؛ ولكنه ليس أبين ولا أظهر ولا أوضح من قولنا: إن هذا العاشق وهذه المعشوقة يأتي منهما فن

قال صاحب القلب المسكين: وانصرف القضاة إلى غرفتهم ليتداولوا الرأي فيما يحكمون به، وأومأت لي المحامية الجميلة تدعوني إليها، فنهضت أقوم فإذا أنا جالس وقد انتبهت من النوم

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي