مجلة الرسالة/العدد 184/صفحة من طفولتي ترتبط بصفحة من حاضري
→ الخليفة العزيز بالله وزوجه النصرانية وأصهاره | مجلة الرسالة - العدد 184 صفحة من طفولتي ترتبط بصفحة من حاضري [[مؤلف:|]] |
الأدب العامي في الأدبين العربي والإنجليزي ← |
بتاريخ: 11 - 01 - 1937 |
للأستاذ خليل هنداوي
(كان لي أخت فقدتها صغيرة أيام نكبة الحرب العظمى
بالكوليرا. ومازال اسمها يطوي أيامي حتى استقر على
صغيرة لي حلت مكان الأولى؛ فكانت الأخت والبنت؛ وكان
لها اسمها ومقامها)
يا لشد ابتهاجي حين أراها تخطر أمامي ووجهها يتدفق نوراً بالصفاء، وشعرها الأشقر يتموج كالشعلة!
تملأ وحدها مكاناً ويملأ أخواها مكاناً،
وتفعم وحدتي أنساً وقلبي محبة؛
فلا ألمحها إلا ضاحكة، ولا أسمعها إلا مهلهلة!. . .
كأنها ضحكة انطلقت بها الحياة،
أو بسمة انجلت عن معنى الرضا.
أناديها باسمها، فيهزني اسمها لأنه وليد ذكرى أليمة ترتبط بها ذكريات. أراها فأرى فيها صاحبة هذا الاسم أيام كانت تحيا بجانبي وتصل طفولتي بطفولتها، أيام كانت تتعانق أحلامنا وتتلاقى آمالنا
أرى فيها صاحبة هذا الاسم طفلة كما كانت بالملامح التي كانت. ولكن العين التي أرى بها قد اختلفت وزالت عنها معاني الطفولة! ولكني أراها وألمسها وأعانقها فأرى أن سلسلة هذا الزمان الطويل لم تكن خلال ذلك منقطعة، لأنها استطاعت أن تثبت لي اتصال الموت بالحياة، واستطاعت أن تعيد لي الميت باسمه وروحه!
أراها تخطر أمامي واثبة أو متهادية، ويراها من معي بعينه كما أراها، ولكن عين الذكرى تمتد إلى أبعد من هذا الحد، فتراها متصلة بذكريات بعيدة الأمد، تحملها كما تحمل عيناها نور غدها. تراها تحمل إلي شيئاً من طفولتي المطوية، أناديها باسمها فأرى (يسرى) الأولى التي كانت تخاف كثيرا من الدخان كأنما صفاء روحها لا يحتمل أن يرى السواد يغشى السماء الزرقاء والتي كانت لا تجد وسيلة إلى إهداء سلامها إلى أبينا الجندي إلا القمر!
كانت في الخامس من ربيعها يوم زحف الهواء الأصفر بجنوده وويلاته، يغشى المدينة فيأخذ منها جنوداً، ويدخل البيت فلا يرضى إلا بكبشين أو ثلاثة! أو بكل ما تنفس بحياة. كنا نسمع بصفته فنخشى ريحه، ونرتاع من صوته ونحذر أن نلقاه في مكان؛ ولكنه كان يمشي ولا يرى، يدخل ولا يحسه أحد. فأنشب مخالبه في أخي الصغير. فكانت (يسرى) تخشى الدنو منه، ولكنها كانت تسمع من الجارات يقلن لأمه: إنه سليم لأن يديه لم يزرقا. . خافي من زرقة اليدين فهي علامة الموت) وما مر على الصغير ساعات معدودة حتى سقطت (يسرى) التي كانت تحذر وتبالغ في الحذر على صغرها، لأنها تفهم الموت شيئا مروعا. وكانت أمنا تجاهد فينا لا تخشى أن ينشب المرض مخالبه فيها، وما غلبته إلا بقوة اعتقادها وإيمانها. فحنت على سرير (يسرى) وقد رأت أخاها نجا بمعجزة. . . ولكن يسرى تتأمل في يديها فترى أن الزرقة أحاطت بهما فتقول لأمها: (ها إنني أموت، لأن يداي مزرقتان. .) فتواري الأم وجهها لتذرف دمعتها بعيدة عن عينيها! (إنني لن أشفى يا أماه لأنني لا أرى في جسدي إلا الزرقة.) هاتي لي ثياب العيد - وكان العيد بعد أسبوع - من خزانتي، أريد أن ألبسها كلها. هاتي ردائي الأحمر الذي أرسله إلى والدي من القدس.) لبست ثيابها واغتبطت برغم الألم، ثم أخذها ذهول عميق عقبه سكرة الموت، ولبثت حتى حان وقت وقوعها في الداء، فأسلمت روحها ولما يتنفس الفجر! فبكت أمنا بهدوء يشقه بعض شهقات، تحاول ألا نسمع وكنا نياما، وهي تخشى على أخي النكسة، حتى طلع النهار - وأوصت حفار القبور
تتراءى لي هذه الصفحة الأليمة فأراها واضحة السطور على رغم القدم، وأذكر أنني نهضت فوجدتها كتلة زرقاء هامدة لا تنبض بالحياة، فروعني ذلك ولكني لا أذكر كيف بكيت! فمشينا إلى المقبرة وهي على يدي الحفار لا يمشي خلفها إلا ثلاثة: أمها وجدتها وأنا، أعدو خلفهما حافي القدمين، ولكني أرى من وراء ظهر الحفار رأسها الملتف وقدميها الملتفتين. وكيف يمشي أحد معنا والناس لاهون بموتاهم. فوجدنا على باب المقبرة ولداً لا أهل له يوارونه التراب وكان اللحد ضيقاً، فطووا قدميه بالعنف حتى يتسع اللحد له! فمشينا حتى أدركنا لحدها وكان واسعاً، فقالت أمها:
انه كثير السعة وهي صغيرة.
وسدوها اللحد وهالوا على وجهها التراب. وكنت أظن أن وجهها توارى إلى الأبد. فعدنا وأخذ النسوة يعزين والدتي قائلات:
- اشكري الله على نجاة الصبي بهذه الفدية
ولعل هذه التعزية كانت مما تخفف عن الأم لوعتها ولكن مكان الولد لا يسد
(لكلِّ مكانُ لا يسد اختلاله)
بلى ضننت أن وجه يسرى قد توارى إلى الأبد
ولكن هاهي ذي الحياة تتمخض مرة جديدة عن (يسراي) تعيدها إلي ابنة لا أختا؛ تعيدها قطعة من كبدي
لا أحفظ للأولى صورة، ولا أذكر من ملامحها شيئاً، ولكن جدتك - يا يسراي - تقول لي: إنها عادت بملامحها ونضرة وجهها وكأنها هي. وإنها لا ترى فيك إلا ابنتها. . .
فأهلاً بك أختاً وبنتاً!
وأهلاً بك يا شعلة حياتي!
خليل هنداوي
في الأدب المقارن