مجلة الرسالة/العدد 184/تاريخ العرب الأدبي
→ هكذا قال زرادشت | مجلة الرسالة - العدد 184 تاريخ العرب الأدبي [[مؤلف:|]] |
من ديوان البغضاء: ← |
بتاريخ: 11 - 01 - 1937 |
للأستاذ رينولد نيكلسون
ترجمة حسن محمد حبشي
الفصل الثاني
وخلف النعمان ولده المنذر وكان أميرا عاقلا شجاعا. ويستدل على سطوة اللخميين إذ ذاك من الحادثة التي حدثت عقب موت يزدجرد الأول، وذلك ذلك أن المنذر تدخل في النزاع القائم حول انتخاب خليفته، وأيد اختيار بهرام جور الذي عارض توليته رجال الدين في فارس. وفي الحرب التي أندلع لهيبها بعد قليل بين الفرس والروم برهن المنذر على أنه تابع مخلص، ولكن الروم كبدوه خسائر فادحة عام 421م. وفي أوائل القرن السادس الميلادي اعتلى العرش أمير يسمى المنذر الثالث الذي دعاه العرب أبن ماء السماء، وطالت مدة حكمه وازدهرت، وان كانت قد تلبدت سماؤها بغيوم حادثة يستحيل فهمها دون الرجوع إلى التاريخ العام لهذه الفترة؛ ذلك أنه حوالي 480م امتد نفوذ قبيلته كندة التي يظهر أمراءها كانوا خاضعين لتبابعة اليمن خضوع اللخميين لملوك فارس، وشمل نفوذها جزءا كبيرا من وسط بلاد العرب وشمالها. وكان اليد العاملة في بسط هذا النفوذ حجر (آكل المرار) أحد أجداد امرئ القيس، ولكن ما لبث أن تفكك هذا عندما مات حجر، ولكن عاد الشمل فالتم مرة ثانية لمدة وجيزة حوالي سنة 500م على يد حفيده الحارث بن عمرو، وصار منافسا خطيرا لإمارتي الحيرة وغسان؛ على حين كانت تعاليم مزدك الاشتراكية قد اتسع نطاق دعوته وتغلغلت بين العامة في فارس حتى انتهى الأمر بان أعتنقها الملك قباذ نفسه. ومن المؤكد انه قد حدث بين عامي 505 و 529م أن اجتاح الحارث بن عمرو الكندي العراق وأقصى المنذر عن مملكته. وليس من البعيد أن يكون سقوط الأخير - كما يؤكد كثير من المؤرخين - راجعا إلى عدائه للتعليم المزدكية التي أثارت سخط مولاه. وعلى كل حال - وأيا كانت الأسباب - فان الحارث قد أقصى المنذر وقتاما؛ وبالرغم من انه عاد إلى عرشه بعد فترة قصيرة قبل تولية انوشروان الذي قتل كثيرين من اتباع مزدك (528م) فان النسيان لم يسحب ذيوله على ما لحقه من إهانة وقسوة، وإن حياة امرئ القيس وقصائده لتحمل طابع الكراهية الموروثة التي تأصلت جذورها بين لخم وكندة. ولقد أدت أعمال المنذر ضد الروم إلى نشاط كبير، فقد دخل سورية ووصل إلى إنطاكية، وراى جستنيان نفسه مضطرا لان يكل أمر الدفاع والذب عن هذه الأقاليم إلى الحارث بن جبلة الغساني (الحارث الأعرج) الذي وجد فيه المنذر قوة تفوق قوته. ومنذ ذلك الحين اخذ كل من ملوك الحيرة وغسان في الإغارة على إقليم الآخر وتخريبه؛ وفي إحدى الغزوات اسر المنذر ابن الحارث، وسرعان ما ضحى به لأفروديت الإلهة العربية العزى، ولما استرد الإقليم ثانية سنة 554م فوجئ في معمعان القتال وذبح في موقعة تدعى (يوم حليمة). ومجمل القول أن اللخميين كانوا وثنيين ليس لهم حظ من الرقي والحضارة، تلك التي يستحقها تماما النذر الثالث. وقد روى الأغاني أنه كان له نديمان من بني أسد هما خالد بن المضلل وعمرو بن مسعد، فأغضباه في بعض المنطق، فأمر بحفر حفرتين وأن يجعلا في تابوتين ويدفنا فيهما ففعلوا ذلك بهما، حتى إذا اصبح سأل عنهما فأخبر بهلاكهما فندم على ذلك وأغتم؛ ثم ركب المنذر حتى نظر إليهما فأمر ببناء الغريين عليهما فبنيا وجعل لنفسه يومين في السنة يجلس فيهما عندهما يسمى أحدهما يوم نعيم يعطي فيه أول طالع عليه مائة من الإبل سودا، والأخر يوم بؤس يعطي فيه أول طالع عليه راس ظربان اسود، ثم يأمر به فيذبح ويطلى بدمه الغريان، ويقال أن عبيد بن الأبرص كان أول من اشرف عليه يوم بؤسه فقتله؛ وظل على هذا الحال حتى مر به رجل من طي يقال له حنظلة، فلما رأى نفسه مقتولا قال له: (أجلني سنة ارجع فيها إلى أهلي، ثم أصير إليك فانفذ في حكمك) فقال: (من يكفلك حتى تعود) فنظر في وجوه جلسائه فعرف فيهم شريك بن عمرو الذي قام وقال للملك: (أبيت اللعن يدي بيده ودمي بدمه إن لم يعد إلى اجله) فلما كان العام القابل جلس في مجلسه ينتظر حنظلة أن يأتيه فإبطا عليه، فأمر الملك بشريك ليقتله، فلم يشعر إلا براكب قد طلع عليهم فتأملوه فإذا هو حنظلة متكفنا متحنطا معه نادبته تندبه، فلما رآه المنذر عجب من وفائهما وكرمهما فأطلقهما وابطل تلك السنة
وقد خلفه على العرش ابنه عمرو الذي يعرفه شعراء العربية المعاصرون والمؤرخون باسم عمرو بن هند؛ وفي عهده أصبحت الحيرة مركزا أدبيا زاهرا، وقد وفد على بابه كثيرون من شعراء عصره، وسترى في الفصل التالي علاقاته مع طرفة وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة. ولقد كان عمرو هذا رجلا شرس الطباع مستبدا طاغية ضاق به العرب ذرعا كما نرى ذلك من قول الدهان العجلي:
أبا القلبُ أن يهْوي السدير وأهله ... وإن قيل عيشٌ بالسدير غريرُ
فما انذروا الحيّ الذي نزلوا به ... وإني لِمَن لم يأتهِ لنذيرُ
به البقّ والحمىًّ وأسْد خفيةَّ ... وعمرو بن هند يعتدي ويجور
ولقي عمرو مصرعه على يد كبير التغالبة عمرو بن كلثوم، ثأرا لكرامة أمه ليلى التي خدشت عنده
ونكتفي بالإشارة إلى اسمي قابوس والمنذر الرابع ابني هند اللذين ولي كل منهما العرش فترة قصيرة، ونكون بذلك قد وصلنا إلى أخر ملك لخمي للحيرة ألا وهو النعمان الثالث ابن المنذر الرابع ويكنى بأبي قابوس وقد حكم من سنة 585 إلى 607م؛ كما نشا في أحضان أسرة مسيحية شريفة في الحيرة قامت بتربيته وتعليمه، وكان كبيرها زيد بن حماد أبا الشاعر عدي ابن زيد، وعدي هذا ذو شخصية جذابة كما كانت وقائعه قوية الصلة بحوادث النعمان؛ وكان كل من جده وأبيه ذا ثقافة ليست بالقليلة، وشغلا مراكز سامية أيام المنذر الثالث وخلفائه، وقد استطاع زيد بواسطة دهقان يدعى (فاروخ ماهان) من اجتذاب عطف كسرى انوشروان بان صار كاتب ديوانه، وذلك منصب لا يرقاه إلا أبناء الأشراف. وحينما اشتد ساعد عدي أرسله أبوه ليتلقى المعارف مع ابن الدهقان فأجاد الفارسية كتابة وقراءة، كما أتقن العربية اتقانا تاما، وقرض الشعر، وتعلم ركوب الخيل، ولعب الكرة، كما أن جماله الشخصي وذكاءه وذلاقة لسانه وحضور بديهته كل أولئك حببه إلى انوشروان فقربه أليه واتخذه كاتبا له ومترجما في ديوانه؛ ولم يكن قد كتب بالعربية قط من قبل في الديوان الملكي، وحباه الملك عطفه، وبعث به إلى القسطنطينية في سفارة خاصة حيث استقبل اجل استقبال؛ وعند أوبته أوحى القيصر - جريا على سنة متبعة - إلى جميع الموظفين القائمين بحراسة الطريق بمد الخيل في محطات البريد بما يلزمها حتى يرى المبعوث الفارس عظمة واتساع الإمبراطورية البيزنطية
(يتبع)
(حسن حبشي)