مجلة الرسالة/العدد 183/القصص
→ الفنون | مجلة الرسالة - العدد 183 القصص [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 04 - 01 - 1937 |
البنتُ سرُّ أمها
(لشولتو دوجلاس) و (فوجان بيسكو)
ترجمة محمد عبد الفتاح محمد
مالت السيدة (بولا بار فيلد) في مقعدها الوثير إلى الوراء فبان جيدها العاجي الأبيض ينم عن أنوثة ناضجة وفتنة ساحرة
وأخذت ترنو إلى سقف الغرفة بعينين ساجيتين وقد غربت عن بالها لفافة التبغ التي استوت بين أصابع يدها البضة الجميلة المستندة على ذراع المقعد
كانت تحلق في أجواء الخيال تبحث عن حيلة تحوك خيوطها وهي التي قد بلغت السابعة والثلاثين من عمرها - ولم تجنح إلى تدبير الحيل واستنباط الوسائل. لأن وسامة محيياها كانت أحبولة كافية لجر المغنم ونيل المقصد. . إلا أن توالي الأعوام لم يدع من فتنة وجهها شركا يقوى على اصطياد الفرائس. . بل رأت أن شحذ الفكر وتدبير الحيل خير عون لها ألان على نيل ما تصبو إليه النفس وما يتمناه الفؤاد. . بعد أن الفت أن نجاحها عن طريق لحاظها الفتاكة قد تعثر في كثير من المواقف
كانت تقنع إبان حياتها المدرسية بالبنسات لشراء الحلوى راضية بعطف معلميها ومعلماتها. غير أن الثناء الذي كان ينصب على جمالها انصباباً والمديح الذي كان ينهال على فتنتها انهيالاً. حولا وجهها إلى أصدقائها الشبان فأنصتت لهم وهم يترنمون بهزج الهوى في أذنيها ويرتلون أية الحب على مسمعيها. . مالت إليهم بكليتها. وتقبلت منهم الهدايا على اختلاف صنوفها
ولتلك الخطة الزرية عثراتها وأخطاؤها. فما بلغت الثامنة عشرة من سنيها حتى تزوجت من رجل فقير أهاب بها قلبها القُلَّبُ أنها تحبه وتهواه
وكان زوجها هذا رجلاً هادئ الطبع، وديعاً جميلاً، خاملاً مغموراً، لا يهمه من دنياه سوى أن يملأ بطنه ليعيش. لذلك أخذت هي تدبر أمور الحياة لها وله ولابنتهما التي خرجت مبكرة إلى عالم الوجود بعد الزيجة بتسعة أَهِلة ولم تحس بأي إحساس من الحزن عندما قضى بعلها نحبه بعد ثلاث سنين من زواجهما. بل انبسطت أساريرها، وسرت لزوال تلك العقبة الكؤود التي كانت تقف حائلاً بينها وبين أمالها وأمانيها
كذلك لم تكن بالمرأة التي ترى أن الشرف في الحياة هو العمل على تحصيل القوت من سبله المشروعة، بل كانت من النساء اللواتي يسلكن أي سبيل للوصول إلى الحياة الرغدة الهانئة؛ ولا غضاضة في أن تهب جسدها متعة لمن يشاء مادام يجر عليها ذلك ما ترغب من أطايب العيش ولذائذه. ولذا عهدت بطفلتها إلى مرضع، ثم إلى مربية، ومن ثم إلى مدرسة داخلية، واتبعت أهواءها وما تمليه عليها رغباتها ومطامعها. راحت تخبط في ذلك العالم العابث الصاخب مع من يقع في يدها من الرجال
ولما أتمت ابنتها الثانية عشرة ألحقتها بمدرسة خارجية، ثم بأخرى، ومضت لا تعنى بتتبع أخبارها، ولا تهتم لترسم خطواتها؛ فكان لهذا ابلغ الأثر في إفساد الفتاة وإتلافها إلى أن بلغت الثامنة عشرة فبدت جميلة فاتنة. . . ففكرت أن تسلخها من دور العلم وأن تبقيها في المنزل، إلا إنها الفتها منافساً خطراً وأليفاً ينقص من قيمتها في سوق الجمال
ولا ننكر إنها كانت تنظر إلى ابنتها كمجرد طفلة، ولكن عندما تكون المرأة في السابعة والثلاثين، وترى نفسها تبدو كأنها في السابعة والعشرين، لا ترضى بأية حال أن تكون لها ابنة حسناء فاتنة في الثامنة عشرة
وكانت الابنة حقاً فاتنة، ولم تكن تلك الحقيقة لتغيب عن المرأة. . . غير إنها كانت تبدو دائماً دمثة الأخلاق مهذبة. . . ولم تبدر منها طوال حياتها أية بادرة تؤخذ عليها، بل كانت تعامل أمها بما كانت تتلقنه من ضروب الأدب وحسن الأخلاق
وفتح الباب آنئذ ودخلت الفتاة تقول لامها في صوت ثابت رزين مشوب باحترام شديد:
- لقد أفرغت حقيبتي يا أماه. . . هل آخذ (بوجو) إلى الحديقة لنتنزه قليلا؟
يا للجمال الرائع! ويا للحسن الخلاب! كانت طويلة القامة في مهابة وجلال، ناضجة الأنوثة، مستكملة لكل معاني الجاذبية
وجابهت المرأة الحقيقة المرة، وصدمتها الرؤيا الحقيقية القاسية. . . روعتها تلك المنافسة الخطرة. . . رأت من غير جهد جاذبية قوية وجمالاً باهراً، فأحست بنيران الغيرة تضطرم بين ضلوعها، وكرهت فيها. . . في ابنتها ذلك الجمال المغري الذي اكسبه رداؤها المدرسي البسيط روعة وجلالا
ورنت إليها وأخذت تحدث نفسها قائلة: (إنها ساحرة. . . تانك العينان الزرقاوان الصافيتان، وتلك الأهداب الوطف الناعسة. لقد كنت وأنا في مثل سنها أبدو كما تبدو، مغرية فاتنة، بذلك الشعر الذهبي المتهدل في إهمال حبيب على جبينها الأبيض المشرق، وبهاتين الشفتين الحمراوين اللتين تغريان بالقبل. إنها بهذا الحسن الفتاك، وبهذا الجمال الغلاب، تبدو كإحدى ربات الجمال القديمات)
وأخذت كل من الأم وبنتها تنظر إلى الأخرى في صمت وسكون. . . في حين كانت تنتاب المرأة شتى العوامل والأفكار وهي تتفرس في ابنتها البريئة. . الطاهرة. . والفاتنة أيضاً
وكانت الفتاة مازالت في وقفتها تنتظر رد أمها على سؤالها ولكن تجاهلت المرآة ذلك وقالت كأنها تنتزع الكلام من حلقها انتزاعا
- سوف لا تذهبين إلى المدرسة بعد ألان يا عزيزتي. فماذا اعتزمت أن تفعلي بنفسك بعد ذلك؟
- لست. . . لست ادري بالضبط. . . وأظن انه يجدر بي أن. . أن أبقى هنا بجوارك. . أني احب ذلك من قرارة نفسي. وعلى كل. سأتبع ما تشيرين به عليّ
- أضنك سئمت المدرسة؟ إذ قد تركتك فيها زمنا طويلاً
- لقد كانت جد سعيدة والله يا أماه. . . وقد ارتبطت بأواصر الصداقة مع كثيرات
ودق جرس التليفون، فرفعت المرأة السماعة، ثم قالت تحدث مخاطبها:
- أهذا آنت يا (فريدي؟) لقد ضننت أنك لن تعود إلا في الغد. . . ماذا؟. . . اجل. . . ساكون على أهبة الاستعداد في تمام السابعة لتناول العشاء معا. . . إلى اللقاء يا حبيبي. . .
ثم وضعت السماعة مكانها وعادت إلى مقعدها تفكر، وغرقت فيه وهي لا تزال في تفكيرها؛ غير أنها بعد لحظة ضربت بيدها فجأة على ذراع المقعد، ثم رنت إلى ابنتها وهي تقول:
- تعالي واجلسي يا عزيزتي. . . إن لي حديثاً معك فجلست الفتاة قبالتها وتفرست فيها أمها فترة طويلة وهي صامتة؛ ثم خرجت من صمتها أخيراً وآخذت تسرد عليها تاريخ حياتها في شي من الإسهاب. . . مالت إلى الخلف في مقعدها وقصت عليها تلك الأسباب التي دفعت به إلى هذه الطريق الوعرة التي تنساب فيها، وتلك الحياة الشائكة التي تحياها
وعندما انتهت من قصتها خيم على الغرفة صمت رهيب أطرقت أثناءه الابنة وأخذت تنظر إلى الفرش الثمينة التي ازدانت بها أرض الغرفة
غير أن الأم استأنفت تقول:
- وها أنت ترينني وقد بلغت السابعة والثلاثين من عمري، فإذا كنت ترغبين في حياة رغدة هانئة فدعيني اشق لنفسي الطريق التي أراها أجدى لنا وانفع
فرفعت الفتاة رأسها في سرعة وقد شع من عينيها الزرقاوين بريق غريب لم تستطع الأم أن تدرك معناه
فترددت المرأة طويلاً قبل أن تتابع الحديث. وساءلت نفسها. . ترى هل أدركت ابنتها معنى ما قصته عليها. . إنها تجلس أمامها هادئة رزينة، في تأدب واحترام كطالبة صغيرة ساذجة واستطردت قائلة:
- والآن، هل فهمت ما أرمي إليه؟ وهل تفقهين ما أبغي إذا قلت لك إنه يتحتم عليك الخروج من الميدان ردحاً من الزمن؟ فهناك رجل جديد. رجل غني واسع الثراء. . . وإني أحوك حوله شباكي هذه المرة. لا لشيء سوى أن اقترن به. إني أعمل يا ابنتي كي أوفر لك، ولي أيضاً أسباب السعادة والهناءة. وسوف يأتي هنا هذا المساء. فيجب ألا تظهري أمامه. . . وليس ذلك لأنك تظهرين حقيقة عمري فحسب، بل لأني أيضاً لا أستطيع الثبات بجمالي أمام سحرك؛ وليس هناك من الرجال من يقوى على رؤيتنا معاً - أنا وأنت - في غرفة واحدة دون أن يفتنه حسنك
فهبت الفتاة واقفة بغتة وهي تقول صارخة:
- أمي!!
واختفت دلائل الطهارة والبراءة والأدب الجم والحياء الشديد، اختفت كل تلك الدلائل وحل محلها بريق غريب في العينين الزرقاوين. تبدلت بضحكة ثائرة صاخبة تحشرجت في حنجرتها المتهدجة الحنون
ألقت بنفسها على حجر أمها ثم طوقت عنقها بذراعيها واستطردت تقول:
- أمي. . . أمي العزيزة. . كم. . كم أنا سعيدة! كم أنا فرحة هانئة؛ إنك طيبة القلب جداً؛ لطالما أعجبت بك إعجاباً شديداً؛ إنك حياتي يا أمي؛ إني احبك حباً هائلاً؛ وساكون لك أكبر عون على نجاح خطتك. . . هيا أعطيني (شلنين) لأذهب إلى (السينما) وسأبقى خارج الدار حتى يرحل عنها رَجُلُكِ. . ومن ثم ننظر في باقي الأمر عندما يسفر الصبح. . ويا حبذا لو أمكنك بسلاح جمالك وقوة سحرك أن تجعليه يهبني سيارة صغيرة ذات مقعدين. . . سيارة سباق زرقاء بجوانب حمراء. . يا لسعادتنا! يا لطالعنا المجدود!
فلهثت الأم وهي تقول:
- ابنتي!!
فقالت الفتاة العصرية الساحرة:
- ماذا علينا لو فعلنا ذلك ما دمنا نود رغد العيش؟. يا ترى هل سنشرب (الجن) و (الفيرموت) الإيطالي!؟
محمد عبد الفتاح محمد
بالمساحة والمناجم