مجلة الرسالة/العدد 181/هكذا قال زرادشت
→ تاريخ العرب الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 181 هكذا قال زرادشت [[مؤلف:|]] |
مشرقيات ← |
بتاريخ: 21 - 12 - 1936 |
6 - هكذا قال زرادشت
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس
الملذات والشهوات
إذا كان لك فضيلة يا أخي، وكانت هذه الفضيلة خاصة بك فأنك لا تشارك فيها أحداً سواك. ولا ريب في أنك تريد أن تدعوها باسمها وتداعبها لتتسلى بها، ولكنك بهذا أشركت بها الناس بما أطلقت عليها من تعريف، فأصبحت أنت وفضيلتك مندغمين في القطيع
خير لك يا أخي أن تقول: إن ما تلذ به روحي وتتعذب به يتعالى عن الإيضاح، ويجل عن أن يسمى، وهذا العجز عن إدراكه يخلق المجاعة في أحشائي
لتكن فضيلتك أسمى من أن تستخف بالأشياء عند تحديدها، وإذا ما اقتحمت هذا التحديد، فلا تستحي من أن تتلفّظ به تمتمةً، فقل وأنت تتمتم:
- إن هذا هو خيري الذي أحب، إن هذا ما يثير إعجابي، فأنا لا أريد الخير إلا على هذه الصورة. لا أريد هذه الأشياء تبعاً لإرادة ربّ من الأرباب ولا عملاً بوصية أو ضرورة بشرية، فأنا لا أريد أن يكون لي دليل يهديني إلى عوالم عليا وجنات خلود. . .
قل: ما أحب سوى فضيلة هذه الأرض، لأن ما فيها من الحكمة قليل، وأقل منه ما فيها من صواب متفق عليه. إن هذا الطير قد بنى عشه على مقربة مني، لذلك أحببته وعطفت عليه، وها هو ذا الآن يحتضن عندي بيضه الذهبي
على هذه الوتيرة تكلّم وأنت تتمتم ممتدحاً فضيلتك
لقد كان لك فيما مضى شهوات كنت تحسبها شروراً، أما الآن فليس فيك إلا الفضائل، وقد نشأت هذه الفضائل من شهواتك نفسها، لأنك وضعت في هذه الشهوات أسمى مقاصدك فتحولت فيك إلى فضائل وملذات هي منك ولك، ولسوف ترى جميع شهواتك تستحيل إلى فضائل، ولسوف ترى كل شيطان فيك يستحيل ملاكاً حتى ولو كنت ممن يستسلمون للغيظ والشهوات وكنت من فئة الحاقدين المتعصبين
لقد كانت الكلاب المفترسة تسكن دهاليزك من قبل، فها هي ذي الآن أطيار مغرّدة.
استقطرت بلسماً من سمومك وحلبت ناقة الأوصاب، وأنت الآن تكرع لذيذ دَرِّها
لن يخلق شرٌّ منك بعد الآن؛ غير أن هنالك شراً قد ينشأ من تخاصم فضائلك. فأصغ إليّ، يا أخي! إنك إذا شعرت بسعادة فما يكون ذلك إلا لفضيلة مستقرة فيك وهي تسهِّل اجتياز الصراط عليك
إنها لمزية أن تكون للإنسان فضائل عديدة، غير أن تعدّد الفضائل يرمى بالإنسان إلى أشقى الحظوظ. وكم من مجاهدٍ أرهقه النزال في ساحات الفضائل فتوارى لينتحر في الصحراء
إذا كنت ترى المعارك والحروب شروراً، فاعلم يا أخي أنها شرور لا بد منها، لأن للحسد والريبة والشتيمة مقامها المحترم بين فضائلك نفسها. تبصر ترَ أن كلا من فضائلك تطمح إلى المقام الأسمى وتطمع في الاستيلاء على جميع أفكارك لتستعبدها وتحصر بها وحدها كل ما في غضبك وبغضائك وحبك من قوة
إن كلا من فضائلك تحسد الأخرى، والحسد هائل مريع يتناول الفضائل أيضاً فيبيدها
إن من يحيط به لهيب الحسد تنتهي به الحال إلى ما تنتهي العقرب إليه فيوجه حمته المسمومة إلى نحره
أفما رأيت، يا أخي، من الفضائل من تشتم نفسها وتنتحر؟
ليس الإنسان إلا كائناً وجب عليه أن يتفوق على نفسه، لذلك حقَّ عليك، يا أخي، أن تحب فضائلك لأنك بها ستفنى هكذا تكلم زارا. . .
المجرم الشاحب
أفما تريدون أن تنزلوا القصاص، أيها القضاة والمضحون، ما لم يهز الحيوان رأسه؟ إليكم رأس المجرم الشاحب، إنها لترتعش؛ وها إن أفظع احتقار يتكلم في نظراته
إن عيني المجرم تقولان لكم ما الشخصية إلا شيء وجب علينا أن نتسامى فوقه؛ وما شخصيتي إلا عظيم احتقاري للبشر
لقد انتهى أجل هذا المجرم عندما أصدر حكمه على نفسه؛ فلا تتركوا للتسامي سبيلاً يندفع منه إلى الانحطاط. عاجلوه بالموت فهو المنفذ الوحيد لمن بلغ عذابه بنفسه هذا الحد البعيد
ليكن قصاصكم، أيها القضاة رحمة لا انتقاماً. وإذا ما حكمتم بالموت فلتكن غايتكم تبرير الحياة. لا يكفيكم أن تقيموا السلم بينكم وبين من تقتلون، بل يجب أن يكون حزنكم تعبيراً عن ولهكم بالإنسان الكامل. وهكذا تبررون الاستبقاء على أنفسكم
قولوا إن هذا الرجل عدوٌ ولا تقولوا إنه سافلٌ. صفوه بالمرض لا بالدناءة. اعتبروه مختّلاً لا مجرماً. وأنت أيها القاضي لو أنك تعلن للملأ، وأنت في برودك الحمراء، ما ارتكبت من مآتٍ في تفكيرك، لكنت تسمع الناس يهتفون قائلين: اخلعوا هذا الرجل عن كرسيه فهو ممتلئ أقذاراً وسموماً
ولكن الفكرة شيء والعمل شيء آخر، كما أن شبح العمل شيء مستقل بنفسه أيضاً. فليس بين هذه الأشياء الثلاثة أية علاقة يصح أن تعتبر علاقة العلة بالمعلول
إن شبح الجريمة كان صورة لاحت لهذا الرجل فعلا وجهه الاصفرار، لأنه عندما ارتكب جرمه كانت قوته على مستواها، ولكنه ما أتم الجرم حتى وهنت تلك القوة فلم يستطع أن يتفرّس في شبح جرمه
لقد لاح لهذا الرجل أنه ارتكب فعلة واحدة لا غير، وبذلك يقوم جنونه لأن الشواذ تحوّل إلى قاعدة في كيانه. إن الدائرة التي يرسم خطها المجرم هي قيد الأفكار، إذ يصبح كالفرخة يرسم المنوّمُ حولها دائرة فلا تستطيع اجتياز خطّها. وهكذا لا يكاد المجرم يخرج من جرمه حتى يدخل في دائرة جنونه
أصغوا إليّ، أيها القضاة؛ إن الجنون الذي يتلق العمل إنما تقدّمه جنونٌ آخر قبله؛ وانتم لم تسبروا روح المجرم إلى أقصاها
إن القاضي الأحمر يتساءل عن سبب إقدام المجرم على القتل، فيقول في نفسه إن القاتل أراد السرقة أولاً، أما أنا فأقول إن نفس المجرم لم تقصد السرقة بل طلبت إراقة الدماء، لأنها كانت ظامئة إلى إغماد النصل. إن عقلية المجرم لم تفهم هذا الجنون فاندفع إلى ارتكاب جرمه، وعقليته تناجيه قائلة: ما يهمك أن تريق الدماء ما دام جرمك يوصلك إلى السرقة أو الانتقام. لقد أصغى المجرم إلى صوت عقليته المسكينة لان ما أسرّت به إليه كان ثقيلاً كالرصاص، فسرق بعد أن قتل لأنه أراد أن يبرّر جنونه ولا يخجل منه
وعاد جرمه فثقل عليه كالرصاص أيضاً، فثقل عقله المسكين فاستولى عليه التخدّر والشلل. ولو أن هذا المجرم تمكّن من أن ينتفض بهامته لكان تهاوى حمله الثقيل عنه، ولكن من كان سيهزّ له رأسه يا ترى؟
لو أنك أنعمت النظر في هذا الإنسان، لما تجلّى لك إلا مجموعة علل تتطلع بالعقل إلى العالم الخارجي مفتشة عن غنيمة تظفر بها
ليس هذا الإنسان إلا كتلة أفاع اشتبكت وهي في تدافع مستمر لا تستكن إلا لتتفكك منسابة في شعاب الدنيا تسعى وراء غنائمها
انظروا إلى هذا الجسم المسكين! إن روحه الضعيفة طمحت إلى استكناه ما في الجسم من ألم ورغبات، فخيّل لها أنها متشوقة إلى القتل
إن من يتسلط عليه هذا المرض في هذه الأيام لتباغته شرورها فيريد أن يعذب الآخرين بما يتعذب هو به؛ غير أنه قد مرّ زمان من قبل كان له خير وشر، هما غير خير هذه الأيام وشرها. ذلك زمان كانت تحتسب فيه شكوك الإنسان ومطامعه جرائم عليه، فكان المبتلى بالشكوك والمطامع يعدّ ساخراً ومنشقاً عن المجتمع فيعمد هو إلى تعذيب الآخرين بعذابه
إنكم لا تريدون الإصغاء إلى أقوالي إذ ترونها تلحق الضرر بالصالحين بينكم، ولكنني لا أقيم وزناً لرجالكم الصالحين
إن في هؤلاء الرجال من تشمئز منه نفسي؛ وليس ما أكره فيهم ما يُعدّ من الشرور، فإنني أتمنى لهم جنوناً يوردهم الردى كجنون المجرم الشاحب
والحق أنني أريد أن يدعى هذا الجنون حقيقة أو إخلاصاً أو عدلاً، لأن فضيلة هؤلاء الناس لا تقوم إلا على إطالة عمرهم لقضائه بالملذّات السافلة ولا ملذّة لهم إلا بالارتياح إلى نفوسهم والرضى عنها
ما أنا إلا حاجز قائم على ضفة النهر، فمن له قدرة على التمسك بي فليفعل، ومن لا طاقة له على ذلك فلا يظن أني سأكون في يده يقبض علي كما يقبض الكسيح على عصاه
هكذا تكلم زارا. . .
القراءة والكتابة
إنني أستعرض جميع ما كُتب، فلا تميل نفسي إلا إلى ما كتبه الإنسان بقطرات دمه. اكتب بدمك فتعلم حينئذ أن الدم روح، وليس بالسهل أن يفهم الإنسان دماً غريباً. إنني أبغض كلّ قارئ كسول لأن من يقرأ لا يخدم القراءة بشيء، وإذا مرّ قرن آخر على طغمة القارئين فلابد من أن تتصاعد روائح النتن من التفكير
إذا أُعطى لكل إنسان الحق في أن يتعلم القراءة، فلن تفسد الكتابة مع مرور الزمان فحسب، بل إن الفكرة نفسه سيفسد أيضاً
لقد كان الفكر فيما مضى إلهاً فتحوَّل إلى رجل؛ وها هو ذا الآن كتلة من الغوغاء. إن من يكتب سُوَراً بدمه لا يريد أن تتلى تلك السورة تلاوة، بل يريد أن تستظهرها القلوب
إن أقرب الطرق بين الجبال إنما هو الخط الممتد من ذروة إلى ذروة، ولا يمكنك أن تتبع هذا السبيل إذ لم تكن لك رجلا مارد. يجب أن تكون التعاليم شامخة كهذه الذرى، وأن يكون لمن تلقن لهم قوة الجبابرة وعظمتهم
لقد رقّ النسيم وصفاً، وهذه المخاطر تحدق بي عن كثب، وفكرتي تتخطر مرحة في قسوتها؛ أمامي الصراط الممهد فلأتخذنّ من الجن أتباعاً. أنا ربّ الجسارة والعزم؛ ومن توصل بأقدامه إلى طرد الأشباح لا يصعب عليه أن يخلق من الجنّ له أتباعاً
لقد تاقت شجاعتي إلى الضحك، وقد انقطع كل حبل بيني وبينكم. إن السحب المتمخّضة بالعواصف لهي سحبكم السوداء الثقيلة وأنا أهزأ الآن بها
إنكم تنظرون إلى ما فوقكم عندما تتشوقون إلى الاعتلاء، أما أنا فقد علوت حتى أصبحت أتطلع إلى ما تحت أقدامي. فهل بينكم من يمكنه أن يضحك وهو واقف على الذرى
من يحوِّمْ فوق أعالي الجبال يستهزئ بجميع مآسي الحياة، ويستهزئ بمسارحها، بل بالحياة نفسها
تريدنا الحكمة شجعاناً لا نبالي بشيء، تريدنا أشداء مستهزئين، لأن الحكمة أنثى، ولا تحب الأنثى إلا الرجل المكافح الصلب
تقولون لي إن الحياة وقر ثقيل، فقولوا لي أيضاً لماذا تقابلون الصباح بغروركم، ثم يجيء المساء فلا يجد فيكم إلا المذلة والخضوع؟
إن الحياة جدّ ثقيلة، ولكن ما هذا الخورُ الذي يبدو عليكم؟ أفلسنا كلنا دواب ولكل دابَّة منا وقِرُها؟ وهل من شبه بيننا وبين برعم الورد، يرتجف متضايقاً لسقوط قطرة الندى عليه!
لا ريب أننا نحب الحياة، وليس سبب ذلك لأننا تعودناها، بل السبب في أننا تعوّدنا حب الحياة إن في الحب شيئاً من الجنون، ولكن في الجنون شيئاً من الحكمة. وأنا نفسي التائق إلى الحياة يتراءى لي أن خيرَ من يدْرك السعادة إنما هي الفراشات وكرات الصابون الفارغة، ومن يشبهها من الناس. ولا شيء يبكي زارا ويدفعه إلى الإنشاد كنظره إلى هذه الأرواح الصغيرة الخفيفة الرائعة الدائمة الخفقان في جنونها
إن الإله الذي يمكنني أن أومن به إنما هو الإله الذي يمكنه أن يرقص
عندما تراءى لي الشيطان رأيته جامداً مستغرقاً ملؤه الجد والجلال، فقلت هذا هو الروح الثقيل الذي تتساوى جميع الحالات لديه
إذا أردت القتل فلا تستعن بالغضب، بل استعن بالضحك. فهيّا بنا نقتل الروح الثقيل
إنني ما زلت راكضاً منذ تعلمت المشي. وهأنذا أطير الآن ولست بحاجة إلى من يدفعني لأتحرك
لقد أصبحت خفيفاً، فأنا أطير مشعراً بأنني أحلّق فوق ذاتي وأن إلهاً يرقص في داخلي
هكذا تكلم زارا. . .
(يتبع)
فليكس فارس