مجلة الرسالة/العدد 180/قصة المكروب كيف كشف رجاله
→ وحي المعرفة | مجلة الرسالة - العدد 180 قصة المكروب كيف كشف رجاله [[مؤلف:|]] |
الفتح الإسلامي ← |
بتاريخ: 14 - 12 - 1936 |
ترجمة الدكتور أحمد زكي
مدير مصلحة الكيمياء
وسطاء شر أبرياء
وصل الفائت:
بدأ اسميث ببحث علة الحمى التكساسية التي تنتقل من أبقار الولايات الجنوبية في الولايات المتحدة إلى أبقار الولايات الشمالية فيها. فجهز حقلين: ووضع في الحقل الأول بقرات شمالية مع بقرات جنوبية ولم ينتزع من هذه الأخيرة القراد الذي عليها، ووضع في الحقل الثاني مثل ذلك بعد أن نظف البقرات الجنوبية من قرادها، وتركها جميعاً، فأصابت الحمى البقرات الشمالية في الحقل الأول، ولم تصبها في الحقل الثاني.
وزادت الحمى في الحقل الأول اتقاداً، ثم أخذت بقراته تموت واحدة بعد أخرى. وشقَّت بطون الجثث للفحص فجرى دمها أحمر صبيباً. واختلفوا بين حقول الريف ومكرسكوبات المعمل بالمدينة في امتحان الدماء. وانتقلت عدوى العمل إلى اسكندر الكسول لمّا أحس بأن في الجو أمراً جللاً، فنفض غبار كسله المأثور وأخذ نصيبه من الحركة. ونظر إسميث إلى دم البقر الخفيف وأخذ يتأمله، ثم قال: (إن المكروب الخفي لهذه الحمى التكساسية إنما يهجم على كريّات الدم الحمراء فيفقؤها. ففي بطون هذه كريّات يجب أن أبحث عن المكروب)
كان لا يثق بالتقارير التي يكتبها المكرسكوبيون المختصون، أو الذين يدعون بالمختصين، ومع ذلك فقد كان له بالمكرسكوب خبرة لا تبارى. وحرّر أقوى مكرسكوب لديه على دم البقرة التي ماتت أولاً، فأخذ الحظُّ بعينه، فارتأى لأول وهلة في الكريّة الدموية الحمراء، وهي في المعروف متصلة الجوف صماء، رأى فراغات صغيرة تعنقدت معاً فاتخذ مجموعها شكل الكمثرى؛ وتراءت له في أول الأمر كأنها ثقوب في قرص الكرة الدموية ليس إلا، ولكنه أخذ يبعد عدسة المجهر ويقرّبها فأحكم بوْأرتها، وأخذ يكثّر عدد العينات التي يمتحنها، فأخذت هذه الفراغات والثقوب تنبض في بصره بالحياة فتتمثل له على حقيقتها أحياء لها شكل الكمثرى. ورآها في دم كل بقرة ماتت بالحمى التكساسية، ورآ دائماً في جوف كرات الدم الحمراء تفسد فيه وتُخفّه فيصبح مرهفاً كالماء.
ولم يرها قط في دم بقرة شمالية صحيحة، فأسرّ لنفسه: (لعل هذا مكروب الحمى). وكان له اتئاد الفلاح فلم يتعجل في الحكم، واعتزم قبل أن يقضي على أن يفحص دماً من مائة بقرة مريضة وسليمة، وأن يمتحن الملايين من الكرات الحمراء.
وكان الحرّ قد مضى وحلّ شهر سبتمبر، وكان في الحقل الثاني أربع بقرات من البقر الشمالي كلها سليمة ترعى الحشيش وتزداد سمناً - ولم يكن عليها قراد أصلاً. فقال إسميث وهو ينظر إليها: (إن من الميسور أن نحقق التهمة المعزوّة إلى القراد من تسبيب الحمى). وقام فساق اثنتين من هذه البقرات السليمة الأربع إلى الحقل الأول الذي مات به البقر المريض، ففي أسبوع رأى قراداً أحمر أغبر صغيراً على فخذ البقرتين. ومضى أسبوعان أو يزيدان قليلاً فماتت إحداهما، أما الأخرى فغادرها تعاني من الحمى ما تعانيه.
ولم يقتنع إسميث بكل هذا فطلب المزيد - المزيد الذي لا يطلب مثله في العلماء سواه. وكانت لا تزال هناك حيلة لا بد من احتيالها، أو إن شئت فقل تجربة لا بد من إجرائها. فقد كان جاء من كرلينة الشمالية صفائح ملأى بالحشيش تجري عليه جماعات القراد تسعى عطشى إلى دم تستقيه. فأخذ إسميث هذه الصفائح إلى حقل ثالث لم تطأ أرضه بقرة واحدة من بقر الجنوب أو قرادة قط من قراداته. وأخذ يذهب فيه ويجيء، يفرغ حشيش الصفيحات وينثره بقراده على أرضه فلعل فيه الموت، ثم اقتاد أربع بقرات سليمة إلى هذا الحقل، فمضت بضعة أسابيع انحل فيها دم البقر كله. وماتت منه بقرة، أما الثلاث الأخريات فنالتها نوبات شديدة من الحمى ولكنها اشتفت أخيراً.
وعلى هذا فقد نجح إسميث أول ناجح في تتبع أثر مكروب قاتل، والكشف عن السبيل الذي يسلكه إلى حيوان بركوبه على ظهر آخر. ففي الحقل حيث كان بقرٌ جنوبيّ، وكان قرادٌ مات البقر الشماليّ. وفي الحقل حيث كان بقرٌ جنوبي، ولكن لم يكن قراد، زاد البقر الشمالي سمناً وهنئ عيشاً. وفي الحقل الذي لم يكن به بقرٌ جنوبي ولكن كان قرادٌ، أصيبت البقرات الشمالية بالحمى التكساسية.
إذن فالقراد أصل البلاء.
وإذن فقد أثبت إسميث بذلك المنطق البسيط، وبهذا العدد العديد من التجارب أن البقّارين في غرب أمريكا إنما قالوا حقاً ورأوا صدقاً، واستبانوا حقيقة جديدة من اكبر حقائق الطبيعة عندما اتهموا القراد. واستخلص إسميث هذه الحقيقة الكونية الكبرى من ذكاء الشعب ومما جرت به ألسنة الخلق فكان مثل هذا الكشف الخطير مثل العجلة يرد اختراعها إلى الناس، إلى قوة ابتكار الدهماء حتى تبوأت مكانها من المحركات الكهربائية العظيمة الدوّارة الطنّانة.
ولعلك حاسب بعد ذلك من وضوح تجاربه وثبوت نتائجه ثبوتاً قاطعاً أنه اكتفى بها، ولعلك حاسبٌ أنه نصح حكومته بعد ذلك بإشهار حرب طاحنة على القراد. ما كان هذا طبع إسميث، ولم تكن تلك سبيله، فبدل ذلك اصطبر إلى صيف العام المقبل علم 1890، فلما جاء حرّه أجرى تلك التجارب مرة أخرى وزاد عليها، وكلها تجارب بسيطة ولكنه إذ أتهم لم يرد أن يكون اتهامه إلا عن يقين. فتساءل: (كيف ينقل القراد الداء من بقرة جنوبية إلى بقرة شمالية، ونحن نعلم أن القرادة تقضي حياتها كلها على ظهر بقرة واحدة، وهي لا تطير كالذباب من بقرة إلى أخرى؟. .) وهذا سؤال لا شك عويص، أعوص من أن يحله البقارون بمعارفهم الساذجة. فنصب إسميث نفسه ليردَّ عليه.
فتفكر ثم قال: (لا بد أن القراد يمتص من الدم ثم يمتص حتى إذا امتلأ وبلغ واستوى، سقط فانهرس على الأرض، فخلّف على الحشيش المكروب الكمثريّ الشكل الذي كان بالدم الذي استقاه، فجاء البقر الشمالي فأكل الحشيش ومكروبه)
وعلى ذلك أخذ آلافاً من القراد الذي جاء في الصفائح من الجنوب، وخلطها بحشيش جاف، وأطعمها بقرة شمالية لا تقوى على دفع الحمى، كان أسكنها حظيرة وحدها، واعتنى عناية مختارة بها؛ وانتظر أن يأتيها الداء فلم يأت. وأخذت البقرة تجتر طعامها الجديد هانئة مستمتعة، وازدادت عليه شحماً. وأشرب بقرةً أخرى حساء صنعه من قراد مدهوك، ثم عاد فأشربها ثم أشربها فكأنما أراد أن يغرقها في الحساء إغراقاً. ولكن هذه البقرة أيضاً خُيِّل أنها تستمرئُ شرابها الغريب وحسنت عليه حالها.
فسدت التجربة فأُرتج عليه، إذن فالبقر على ما يظهر لا يأتيه المكروب من أكل القراد. وفي الليل توالت عليه الأسئلة يلقيها على نفسه تباعاً في سلسلة لا تنتهي. وتساءل فيما تساءل: (إن البقر الجنوبي ذا القراد ينزل في الحقل فلا يكون هذا الحقل وبيئاً إلا بعد ثلاثين يوماً من نزول البقر فيه. فلم هذا؟) وعرف البقارون هذه الحقيقة أيضاً، وعرفوا أنهم يستطيعون خلط بقر شمالي بجنوبي عشرين يوماً أو نحوها، ثم يفصلون بينها فلا ينال المرض البقر الشمالي أبداً. أما إذا هم تركوها على اختلاط فوق هذا القدر من الأيام، أو حتى إذا هم أبقوا البقر الشمالي وحده حيث هو من الحقل فوق العشرين يوماً بأيام قليلة، فلا يلبث أن يفجأه الداء فكأنما انقض عليه من السماء. فتلك أحجيةٌ أي أحجية
وذات يوم من هذا الصيف صيف علم 1890 تفسرت الأحجية بغتة واتصلت قطع الصورة المتكسرة المتفرقة فُجاءةً فاتضحت في عينيه على حين غرّة فشدهته، فوقف أمامها ذاهلاً مبهوتاً. وكان إذ ذاك في شغل من أمور عديدة أخرى وإجراء تجارب من ألوان شتى: كان يفصد البقر الشمالي ويسكب من دمه جالونات ليفقر دمه، فقد كان خال أن المكروب الكمَّثريَّ الذي رآه في كرات الدم ربما كان فقراً في الدم لا مكروباً. وكان يتعلم كيف يفقّص قراداً صغيراً نظيفاً في معمله. وكان لا يزال يلقط القراد من على ظهر أبقار جنوبية ليثبت أنها من غير قراد لا تضر الأبقار الشمالية، وقد يفوته أن يلتقطه كله فتأتي نتيجة التجربة بغير الذي أراد. وكان قائماً في سبيل استكشاف حقيقة باهرة؛ أن العجول الشمالية لا تصيبها إلا حمى هينة لا تميت في الحقول التي تقضي على أمهاتها. كان همه أن يجد كل أثر أياً كان نوعه للقراد في البقر الشمالي - فلعلها تسبب لها أسواء أخرى غير الحمى التكساسية.
ففي أثناء كل هذا تفسرت الأحجية. ذلك أنه سأل نفسه أتُرى أني بدأت ببويضات القراد في صحن من الزجاج فأخرجت منها في حجرتي قرادات نظيفة لم تر حقلاً أو بقرة وبيئة، ثم لو أني وضعتها بعد ذلك على بقرة شمالية وتركتها تمتص من دمها ملئها، أفتستطيع أن تمتص ما يكفي لإفقار دم بقرة؟ سؤال غريب يتراءى لي أنه كان لغير غاية، ولكنه يدل على أن فكرته كانت أبعد ما تكون من الحمى التكساسية.
ومع هذا حاول أن يحصل على جواب سؤاله، فأني بعجلة سمينة بنت عام ووضعها في زريبة مقفلة، وأخذ يهيل عليها يوماً فيوماً مئات من قرادات صغيرات من تفقيسه، ويمسك بها حتى يغوص القراد بعيداً تحت شعرها ويتمسك بجلدها. وأخذ يوماً فيوماً يشق جلدها ليأخذ قطرات من دمها ليستوثق من فقره. وذات يوم جاء إلى الزريبة ليجري عليها ما اعتاده، فلما وضع يده عليها أخذته الدهشة مما أحسّ. فقد أحسها حارّة، شديدة الحرارة شدة جعلته يتهم حالها. ونظر إليها فوجد رقبتها تميل. وامتنعت عن الطعام، ودمها الذي كان يخرج من شقوق جلدها أحمر ثخيناً أصبح يجري رهيفاً داكناً. فجرى إلى حجرته بقطرات من هذا الدم على قطع من الزجاج، ووضعها تحت المجهر ورأى، ويا صدق ما خال. ورأى كرات الدم الحمراء قد التوت وتثلمت وتحطّمت وقد كان عهده بها قوراء ناعمة كالدرهم المسيح. وفي هذه الكرات الحطيمة وجد المكروب. . . فهاك غريبةٌ من الغرائب التي قد لا تجود بها الأحلام: فهذه المكروبات لا بد أنها جاءت من جنوب أمريكا في القراد البالغ، فلما باض وجد المكروب سبيله إلى البيض فاستكنّ فيه، فلما انفقس البيض في صحون الزجاج عن قرادات صغيرة حملت هذه المكروب معها، فلما وقعت على ظهر العجلة مصت دمها فانساب المكروب أكثر ما يكون تهيؤاً للفتك بالعجلة المسكينة التي وقعت فريسة القدر على غير قصد وبغير ذنب.
في سرعة البرق اتضح كل هذا لعين إسميث.
ليست القرادات العجائز التي امتلأت بالدم وارتوت هي التي تهيئ سبيل المكروب إلى البقر الشمالي، بل صغارها من ذات خمسة الأيام إلى العشرة هي التي حملت القتلة الأشرار إلى ضحاياها.
وعندئذ فقه السبب الذي من أجله تأخر الحقل أن يكون خطيراً، فان الأمهات من القراد كان لا بد لها من السقوط عن ظهر البقر الجنوبي الحصين أولاً، ثم لا بد لها على الأرض من أيام تبيض فيها، ثم لا بد للبيض من عشرين يوماً أو تزيد لإنفقاسه، ثم لا بد للصغار الخارجة من البيض من زمن تزحف فيه إلى أرجل البقر الشمالي فإلى أفخاذه - وهذه الأحداث تستغرق أياماً كثيرة، تستغرق الأسابيع. فهل وجدت جواباً أيسر من هذا لسؤال أعسر من هذا، لولا المصادفة البحتة ما تيسر بداً؟
وما لبث أن استخرج بالتفقيس في صحون دافئة من الزجاج آلافاً من القراد، وأخذ في زيادة إثبات اكتشافه الكبير حتى ثبت ثبوتاً قاطعاً. فكان كلما ركم قرادة على ظهر بقرة شمالية أصابتها الحمى؛ ولم تكن تكفيه الكفاية من البراهين. وأخذ صيف عام 1890 في الأدبار وأخذ البرد في الإقبال، فإذا به يسخّن الحظائر بمواقد الفحم، ويفقس القراد في مكان دافئ، ثم يضعه على جلد البقرة فيقوم نار الحظيرة مقام الشمس في إكمال نموه، فإذا به يصنع على ظهر البقرة صنيعه المعهود، وإذا بها تجيئها الحمى في الشتاء وهي لم تكن جاءت شتاءً في الطبيعة أبداً.
وقضى إسميث وكلبورن صيفين آخرين يضربان في الحقل ليستكملان بحثهما، ويسدّان خروق السفينة بالقار والكتان، ويتساءلان كل سؤال يخطر بالبال، ويجيبان بتجارب غاية في البساطة غاية في الإفحام على كل اعتراض يحتمل أن يثيره العلماء البيطريون، وذلك قبل أن تعطي الفرصة لهم ليعترضوا. واكتشفنا ثناء ذلك حقائق غريبة في الحصانة، إذ وجدوا أن العجول الشمالية تصيبها الحمى التكساسية إصابتين خفيفتين أو ثلاثا ًفي الصيف، فإذا دار العام وكبرت أخذت ترعى في الحقول الوبيئة القاضية على كل بقرة شمالية فلا تحس وباءها أصلاً. . . لا يفسران حصانة البقر الجنوبي: إن هذه الحمى الخبيثة توجد في الجنوب حيثما وجد القراد. والجنوب كله قراد. فهذا القراد لا يفتأ يصب مكروبه في دماء الأبقار الجنوبية في كل آن ومكان، وهذه الأبقار الجنوبية تحمل المكروب في دمها ليل نهار، ولكنها لا تحفل به، لأنها أصيبت به وهي عجول فاحتملته فتحصنت منه نم بعد ذلك.
وأخيراً، وبعد أربعة أصياف شديدة الحر كثيرة الإنتاج مجيدة، جلس إسميث جلسة طويلة يصف الحمى التكساسية فلا يدع فيها سؤالاً لسائل، ويصف كذلك كيف يمحي الداء محواً. وكان ذلك في عام 1893، وكان بستور الذي تنبأ بإمحاء الأدواء جميعاً على نحو هذا المثال يتهيأ عندئذ للكفن والقبر.
كتب إسميث ما كتب عن هذه الحمى فأتى بقطعة رائعة من قطع الفن لم أجد أبسط منها ولا أوضح في حل لغز من ألغاز الطبيعة، أقول هذا وأنا لست بناس روائع لوفنهوك ولا بدائع كوخ أو أي رجل من رجال المكروب؛ قطعة رائعة يفهمها الصبيّ الذكيّ لبساطتها، ويرفع لها نيوتن العظيم قبعته احتراماً لعظمتها. كان إسميث وهو صغير يحب بيتهوفن وموسيقاه، وإني لأجد في قطعة إسميث هذه التي أسماها (بحثاً في طبيعة الحمى التكساسية أو حمى الأبقار الجنوبية، وفي أسبابها، وفي منعها) إني لأجد فيها من الروعة ما في السمفونية الثامنة لبتهوفن، تلك التي أنشأها في أواخر أيامه المريرة. كلتا القطعتين بسيط موضوعهما بساطة بلغت حد السخف، ولكن موضوعهما هذا البسيط نُوِّع وركّب تنويعاً لا يستطيعه إنسي، فكانتا على مثال الطبيعة ذاتها، غاية في البساطة غاية في التركيب والتعقد.
فبهذا التقرير فتح إسميث للإنسانية فتحاً جديداً، فأرى الناس سبيلاً جديدة يسلكها المكروب بالداء إلى ضحيته: محمولاً على حشرة. وبدون هذه الحشرة لا يستطيع الوصول. أعدموا هذه الحشرة، غطّسوا كل مواشيكم في سائل ليقتل قرادها، أعيشوا البقر الشمالي في أرض لا قراد فيها. افعلوا كل هذا تختف الحمى التكساسية من على ظهر البسيطة. واليوم تقوم عدة ولايات كاملة بتطهير مواشيها بالتغطيس في المطهِّرات، واليوم لا تجد أحداً يرتاع أقل ارتياع لهذه الحمى التي أنذرت بالفناء الألوف المؤلفة من قطعان أمريكا.
وليس هذا كلَّ الخير الذي جاء من هذا التقرير البسيط الذي لا زركشة فيه ولا تزويق، هذا التقرير الخالد الذي لم ينل ما يستحق من التقدير حتى لا تجد منه في السوق نسخة واحدة. فأنه لم يلبث إن شاع حتى حدثت من جرائه أحداث عظيمة في جنوب أفريقيا وفي الهند وإيطاليا. ففي أفريقيا الجنوبية في أدغالها الخطيرة عضت ذبابة رئيس الأطباء في كتيبة من كتائب الجيش، وكان اسكتلنديا جسيماً، فسب من عضتها ولعن، ثم خطر له الخاطر فأخذ يفكر فيما عسى أن تصنع هذه الذبابة من الضر بالإنسان غير عضتها المقلقة. وبعد هذا بقليل حدث أن رجلاً إنجليزياً في الهند، وآخر إيطالياً في إيطاليا، فتح كلاهما آذانهما وسعهما ينصتان لجماعات البعوض ترسل بطنينها المديد الشاكي، ثم فتحا أذهانهما وأعملا خيالهما وأطلقا الأعنة للأحلام فاختطا خططاً عجيبة لتجارب غريبة. . .
على أن هذه قصص سترويها الفصول القادمة. قصص تحكي لنا عن أوبئة قديمة معجزة جامحة أعجزها الإنسان وألجمها، فأسلمت له المقادة؛ قصص تحكي عن وباء أصفر فتّاك، أمحى الآن من الوجود أو كاد، قصص تحكي لنا عن رجال ذوي آمال صوّروا الحياة البشرية تزداد بتناقص الأدواء، وتنشط ويمتد عبابها الزاخر حتى يغمر أدغالاً لا تسكنها الآن غير الزواحف والضواري، فتزدهر عن مدائن ذات أنوار وأبراج؛ فهذه القصص كلها مهَّد لها إسميث بما قام به في صيادة المكروب من بحوث جديدة عفّي عليها الآن النسيان أو كاد، بحوث هي الأولى التي سوغت لبني الناس أن يحملوا الأحلام الجميلة عن دنيا لهم مقبلة جميلة تختلف اختلافاً بيناً عن دنياهم الحاضرة.
أحمد زكي