الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 180/تاريخ العرب الأدبي

مجلة الرسالة/العدد 180/تاريخ العرب الأدبي

بتاريخ: 14 - 12 - 1936

8 - تاريخ العرب الأدبي

للأستاذ رينولد نيكلسون

ترجمة حسن محمد حبشي

الفصل الأول

وقد استمر إرياط يتوغل في اليمن بعد موت ذي نواس الحميري (فقتل ثلث رجالها وخرب ثلث بلادها، وبعث إلى النجاشي بثلث سباياها، ثم أقام بها فضبطها وأذلها، ثم نازعه في أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبش، وكان في جنده حتى تفرقت الحبشة عليهما، فأنحاز إلى كل واحد منهما طائفة منهم؛ ثم سار أحدهما إلى الآخر، فلما تقارب الناس ودنا بعضهم من بعض أرسل أبرهة إلى إرياط (إنك لن تصنع بأن تلقي الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئاً، فابرز لي وأبرز لك، فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده) فقيل أبرهة، وكان رجلاً قصيراً لحيماً حادراً وكان ذا دين في النصرانية؛ وخرج إليه إرياط وكان رجلاً عظيماً طويلاً وسيماً، فرفع إرياط الحربة فضرب بها على رأس أبرهة يريد يفوخه، فوقعت على جبهة أبرهة فشرمت حاجبيه وعينه وأنفه وشفته، فسمى أبرهة الأشرم، وحمل غلام أبرهة عتورة على إرياط فقتله، فملك أبرهة، ثم كتب إلى النجاشي: (أيها الملك إنما كان إرياط عبدك وأنا عبدك فاختلفنا في أمرك، وكلٌّ طاعته لك، إلا أني كنت أقوى منه على أمر الحبشة وأضبط لها وأسوس، وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك وبعثت إليه بجراب من تراب أرض اليمن ليضعه تحت قدميه فيبر قسمه) فثبته النجاشي. ثم إن أبرهة بنى (العكيس) بصنعاء لم ير مثلها في زمانها، ثم كتب إلى النجاشي: (إني قد بنيت لك كنيسة ولست بمنته حتى أصرف إليها حاجّ العرب) فلاكت الألسن ذلك فقام رجل من بني فقيم: فخرج إلى العكيس فقعد فيها، ثم خرج فلحق بأرضه فأخبر بذلك أبرهة فحلف ليسيرن إلى البيت فيهدمه) ولكن الفشل الذريع الذي منيت به هذه الحملة التي وقعت عام الفيل (سنة 570م) لم يحرر بلاد اليمن في الحال من نير الأحباش، إذ أن ولدي أبرهة يكسوم ومسروق كانا عبئاً ثقيلاً على العرب ضجوا منه. وقام في ذلك الحين أحد أشراف حمير واسمه (سيف بن ذي يزن) مستحثاً الهمم، ولكن ضاعت دعوته إياهم أدراج الرياح.

ولما لم ير مساعدة من قومه وجه وجهه شطر الاستعانة بغوث أجنبي، وتردّد بين قيصر الروم وكسرى فارس، فمضى أولاً إلى القسطنطينية فردّه القيصر خائباً، فطلب من والي الحيرة العربي الذي كان خاضعاً لفارس أن يقدّمه إلى بلاط المدائن؛ ولكن كيف استطاع أن يكسب عطف الملك الساساني أنو شروان الملقب بالعادل حتى أرسل معه ثمانمائة مقاتل من نزيلي السجون ممن أطلق سراحهم؟ وكيف أبحروا معه إلى اليمن وعلى رأسهم قائد طاعن في السن؟ وكيف أحرقوا مراكبهم واستمدوا من اليأس قوّة، وكيف هزموا الأحباش هزيمة منكرة وطردوهم واستردوا اليمن وجعلوها ولاية فارسية. . . كل هذا يسوقنا إلى سرد قصة آثرت تخطيها وإغفالها في مثل هذا المجال، لأنها تتصل بتاريخ الفرس أكثر من اتصالها بتاريخ الأدب العربي، تلك الأمور التي قامت - كما رجّح نلدكه - على أخبار لقنها الغزاة الفرس الذين استوطنوا اليمن لأبنائهم الأشراف، الذين يسميهم العرب الأبناء أو بني الأحرار.

وإنا لنترك الآن مملكة اليمن وقد تهاوت دعائم قوتها ودالت دولتها وسقطت من علياء مكانتها إلى الأبد، ونعود من ناحية الشمال في دراسة التاريخ العربي:

الفصل الثاني

تأريخ العرب الوثنيين وأساطيرهم

يسمى المسلمون الفترة الواقعة منذ فجر التاريخ العربي حتى ظهور الإسلام بالجاهلية، وقد ورد هذا اللفظ في أربع فقرات في القرآن، ويقصد به عادة (الجهل)، وإن كان جولدزيهر قد أوضح أن المدلول الذاتي لكلمة (جهل) (الذي اشتقت منه الجاهلية) عند شعراء ما قبل الإسلام لا يقصد به (عدم المعرفة) أو (الوحشية) و (الهمجية)، وليس المعنى المضاد لكلمة (علم)، ولكنه عكس معنى حلم المعبّر عن التهذيب الأدبي عند الرجل المثقف. (وحينما يقول المسلمون إن الإسلام قضى على طبائع وعادات الجاهلية فانهم يقصدون بذلك العادات المستقبحة، وهذا الخلق الهمجي الذي تفترق به الوثنية عن الإسلام، وبالمستهجن من الطباع التي جدّ محمد (ص) في استئصالها من نفوس قومه: كحمية الجاهلية، والعصبية القبلية، والجد في طلب الثأر، والحقد، وغير هذا من طبائع الوثنية المستهجنة التي قضى عليها الإسلام)

وإن المصادر التي نستمد منها صورة حياة هذه الفترة لتندرج تحت أربعة أبواب كما يلي:

(1) القصائد والمقطعات الشعرية التي وإن لم تكن قد دونت في ذلك الحين إلا أنها ظلت محفوظة بالرواية الشفهية، ثم كتب معظمها بعد ذلك بقرنين أو ثلاثة قرون، وهي في الحقيقة الأثر الوحيد الذي بين أيدينا عن تأريخ العصر السابق للإسلام، وتتضح أهميتها من القول المأثور (إن الشعر ديوان العرب وجامع شتات المحاسن التي سلفت لهم) وسيرى القارئ في الفصل التالي بعضاً من الشعر العربي في تلك الفترة

(2) الأمثال وهذه أقل قيمة من الشعر، إذ قلما تفسر نفسها بينما يكون الشرح المرفق بها من عمل الأدباء الذين يدأبون على تفسيرها، ولو أنه في حالات عدة يؤتى بمعانيها ومقصودها على سبيل الحدس، كما نسيت الظروف التي بعثتهم على إرسالها، وبالرغم من هذا فقد كنا نخسر شيئاً جسيماً لو لم تكن بين أيدينا المجاميع الشهيرة للمفضل بن سلمة (المتوفى حوالي 900 م) والميداني (1124م) التي تضمنت إشارات عجيبة وأخباراً تلقي بصيصاً من النور على كل جوانب الحياة التي سبقت ظهور الإسلام.

(3) الأخبار والأقاصيص: لما لم يكن للعرب الوثنيين - على العموم - معرفة بفن الكتابة الخطية واستعمالها فقد كان من المستحيل أن تقوم للنثر - باعتباره فناً أدبياً - قائمة فيهم، ومع ذلك فان بذور النثر الأدبي يمكن إرجاعها إلى عصر الجاهلية، وعدا المثل والخطبة نجد عناصر التاريخ والقصة في القصص النثري الذي كان يقدمه الحفاظ والرواة لتوضيح موضوع أغانيهم، وفي القصص التي تعدّد مآثر القبائل وأبنائها. وإن العدد الوفير من هذه القصص (التي يرجع بعضها إلى أصل حقيقي والآخر يحمل طابع الخرافة) لمثبوت في ثنايا المؤلفات الأدبية والتاريخية والجغرافية التي وضعت أيام الدولة العباسية وخاصة في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (967م) وهو مجموعة ثمينة قامت على دراسة الشخصيات الأدبية الكبيرة في القرنين الثاني والثالث للهجرة. وقد ضاعت الكتابات الأولى لهؤلاء الأدباء والنقاد دون استثناء، ولولا اقتباسات الأغاني الكثيرة لما كان في متناول أيدينا نماذج من آثارهم. ويقول أبن خلدون عن هذا السفر: (إن أبا الفرج جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم، وجعل مبناه على الغناء في المائة صوت التي اختارها المغنون للرشيد، فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب وأوفاه، ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلم وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها.

ولن أحاول في الصفحات التالية أن أضع في ترتيب واتصال هذه الأشعار والقصص المضطربة التي رسخت في الأذهان واندس بين ثناياها جميع ما نعرفه عن بلاد العرب في العصر السابق للإسلام؛ إذ أنجز هذا خير إنجاز وفي دقة عجيبة كوزان دي برسيفال في كتابه ' ' وليس هناك ثمة جدوى مطلقاً من أن أسوق للقارئ موجزاً مقتضباً لهذا العمل القيم، والأجدى - كما يتراءى - أن أسوق للقارئ بضع ظواهر واضحة بينة تمثل هذه الفترة كما وضعها العرب أنفسهم. وإذا كانت الأحاديث العربية يعوزها الدقة التاريخية فإنها في مجموعها تكشف القناع عن الروح السائدة في العصر المظلم الذي تستحضره في غياهب الزمن السحيق وتبرزه أمامنا.

وفي حوالي منتصف القرن الثالث المسيحي كانت تتاخم بلاد العرب من الشمال والشمال الشرقي إمبراطوريتان تتنافسان في الزعامة هما دولة الروم ودولة الفرس اللتان تفصلهما صحراء الشام عن بعض؛ ولما رأى الفرس أنهم عرضة لغزوات البدو الذين كانوا يشنون الغارات بين حين وآخر على الحدود، ويستولون على ما يصل أيديهم من الغنائم، ثم يختفون بنفس السرعة التي اتسمت بها اغاراتهم، لما رأوا ذلك وجدوا الضرورة تدعوهم إلى إيجاد حامية على طول حدود هذه الصحراء، وبهذا أمكن صد غزوات القبائل البدوية وغاراتها، ولكن تبيّن أن القوة علاج غير ناجح تماماً، فضلاً عما تكلفه الدولة، وعملاً بالمثل القائل: (فرّق تسد فقد ارتُؤي إدخال بعض القبائل المغيرة في خدمة الإمبراطورية. ومما أدّى إلى عدم قيام البدو بأي اضطراب دفع شيء من المال لهم بانتظام، واستعدادهم على الدوام للغزو الفجائي إذ كان الروم والفرس في هذه الأيام في حروب لا يخمد أوارها ولا يخبو ضرامها، ومن ثم فقد حاربوا كمحالفين أحراراً تحت لواء أمرائهم أو شيوخهم. وبهذه الوسيلة ظهرت أسرتان عربيتان هما دولة الغساسنة في سورية واللخميين في الحيرة غرب الفرات، وكانتا في نزاع دائم واصطدام ونزال، حتى ولو لم تكن تدفعهما من الخلف قوة الإمبراطوريتين، وسرعان ما ظهرت كفاية العرب الحربية ومهارتهم حينما درّبوا على الأسلحة. وفي أثناء حرب فاليران مع كسرى سابور الأول خرج شيخ عشيرة عربي في (تدمر) ويدعى أذينة وسار على رأس قوة كبيرة ضد المغير ونازله وفرّق شمله وطرده من سورية واقتفى آثاره حتى رده إلى أبواب المدائن عاصمة فارس سنة 265م ولقد قدر الإمبراطور جاليانوس صنيعه الباهر فأنعم عليه بلقب العظيم)، ولقد كان في الحقيقة السيد المطاع في الكتائب الرومانية في الشرق، ولكنه قتل غيلة في العام التالي وكان في زوجته زينوبيا (الزباء) خير خاف، فأخذت على عاتقها تشييد إمبراطورية شرقية ضخمة، ولم يكن نجاحها أعظم من نجاح كليوباترا في مثل هذه المحاولة، ولكن حدث ما ليس في حسبانها إذ أنتصر أرليان واقتيدت (ملكة الشرق) المتكبرة أسيرة أمام عربته في شوارع رومة عام 274م

(يتبع)

حسن محمد حبشي