مجلة الرسالة/العدد 180/القصص
→ ذكرى 17 رمضان: | مجلة الرسالة - العدد 180 القصص [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 14 - 12 - 1936 |
قصة واقعية
الغريب. . .
(نالت هذه القصة جائزة قدرها 100 جنيه في مسابقة للقصص
الواقعية في مجلة الإنجليزية)
نقلها عن الإنجليزية
أحمد فتحي مرسي
لا أعلم ما الذي جعلني أشعر بالخوف والوحدة بعد أن امتطى فرانك صهوة جواده ومضى في سبيله ظهر أحد أيام الأحد. . . لقد كان عليّ أن أمكث مع طفلي العزيزين أياماً وأياماً وحيدين في مزرعتنا بين تلك المروج الواسعة، لم يساورني خلالها مثل ما ساورني ذلك اليوم. . ربما كانت الوحدة تخيف بعض النساء؛ بيد أنني قضيت في هذه الجهة ما يقرب من عامين بعيدة عن العالم منفردة عن المجتمع، فضلاً عن إنني نلت قسطاً من التعليم جعلني أنبذ ما تدعيه النساء من خرافات وأباطيل. . . كان هناك ما يقرب من العشرين ميلاً بيننا وبين أقرب جار لنا؛ ولقد كان في تناثر المزارع على هذا الشكل مغنم للصوص ورجال العصابات، فكان الإنسان يقضي أياماً طوالاً دون أن يرى في هذه الناحية وجهاً لإنسان، اللهم إلا أحد رعاة البقر يبحث عن قطيعه الممزق ويجمع أشتات ماشيته المتفرقة، ولكني كثيراً ما قضيت مع فرانك الشهور الطويلة دون أن يقع بصرنا على إنسان ما.
ولقد كانت مصاحبة طفلي العزيزين تجعلني سعيدة قريرة العين. وكان أكبرهما في الثانية من عمره ويدعى بوبي؛ وأما فيل الصغير فقد كان عمره لا يزيد على بضعة أشهر، ولكنه برغم ذلك كان طفلاً هادئاً مريحاً.
ولقد يتساءل البعض: لماذا اخترنا هذه البقعة الموحشة لنقضي فيها ميعة صبانا وزهرة شبابنا؟ فأجيب: منذ حوالي أربع سنوات عندما تزوجت من فرانك، كان يشغل منصباً في أحد البنوك في مدينة ولتون فيل على مسير خمسة وثلاثين ميلاً من مزرعتنا؛ وكان قد اقتصد قليلا من المال مدة اشتغاله في المصرف. ولم يلبث فرانك طويلاً في المصرف بعد زواجنا؛ فقد أصبح المصرف في غنى عن عمله لضيق أعماله، فأخذ يبحث عن عمل ولكن دون جدوى. . . وأخيراً وجدنا أنفسنا وليس معنا إلا قليل مما اقتصدناه. وكان فرانك قد درس هذه المنطقة ملياً مدة اشتغاله في المصرف، وكانت تحوي الكثير من المزارع التي تصلح لتربية الماشية وزراعة بعض الحاصلات الصيفية.
وفي ركن قصيّ من تلك الأصقاع كانت تقع مزرعة جميلة فيها منزل ريفي بديع الموقع بسيط التأثيث، وبها بئر طيبة المورد عذبة الماء، وحول المنزل قطعة مسورة من الأرض يخيل إليّ أنها كانت حديقة فيما مضى. وأخذنا الفرح بهذه المزرعة، فاشتريناها وبدأنا عملنا فيها.
وكان كلانا في ضحوة شبابه وربيع حياته يتمتع بصحة جيدة وبنية قوية. وكان فرانك لا يعرف الكثير من أحوال المزارع وإدارتها فلازمنا الفشل في أول الأمر - شأن كل من يبدأ عملاً لم يمارسه من قبل - ولكن أدركتنا عناية الله فذللنا كل ما قابلنا من العقبات.
ولد لنا (بوبي) في مدينة ولتون فيل، وأما (فيل) فقد ولد في مزرعة مري وذر على بعد عشرين ميلاً منا. ولقد كانت السيدة مري وذر نعم الأم الحنون البرة مدة إقامتي عندها.
ومضت الأيام تتبع الأيام والشهور تقفو أثر الشهور، ونحن سعيدان بهذه الحياة الهادئة على رغم بعدنا عن العالم وانفرادنا عن المجتمع، إلى أن كان يوم زارنا فيه جار لنا يدعى جيبون، يطلب مساعدة فرانك في إصلاح قطعة من الأرض اشتراها أخيراً. فلما اعتذر له فرانك بأنه ليس لديه جواد، فضلا عن أنه لديه من الأعمال ما يشغله عن ممارسة غيرها، قال غاضباً:
- هذا شيء لا يحتمل! من أين لي أن أجد رجلا آخر في هذه الناحية المقفرة؟ سأعطيك كل ما تطلب من الأجر نظير ترك أعمالك، فضلاً عن أني سأعوضك جواداً خيرا من جوادك.
وبعد نقاش طويل قبل فرانك ما عرضه عليه الجار على أن يدعه يعود إلى المزرعة في أيام السبت والأحد لإنجاز أعماله الهامة. وعلى هذا أصبحت أقضي جل الأسبوع وحيدة إلا من طفلين لا يستطيع أكبرهما أن ينطق. ولكني كنت أعزي نفسي بأن العمل يستغرق أسابيع يعود بعدها فرانك ومعه المال والجواد.
ولا أكون مبالغة إذا قلت إننا نشعر في حياتنا بسرور قدر ما شعرنا به تلك الليلة عندما عاد فرانك للمرة الأولى يحمل أجرة الأسبوع الأول، فقد خيل إلينا أننا في حلم عندما نثر النقود على المائدة؛ وليس هذا عجيباً، فقد كان كلانا لم ير النقود من زمن غير قليل. قال فرانك:
- أظن أنه ليس في الإمكان السفر إلى ولتون فيل لإيداعها في المصرف قبل أن أنتهي من مساعدة جيبون، وستكون هنا في مأمن. فقلت:
- إذن دعنا نخبئها في مكان ما.
- حسن! ثم وضع النقود في كيس صغير وأعطاها إياي قائلاً:
- ضعيها تحت وعاء الدقيق يا عزيزتي. . . فإذا داخلك الشك يوماً في أحد يحوم حول هذا المكان فاحفري لها في الأرض.
وفي مساء الجمعة التالية زاد قدر ما عندنا من النقود بما أضافه إليها فرانك من أجره الثاني.
وفي صبيحة السبت نهض فرانك مبكراً وأخذ يعمل في المزرعة بجد ونشاط - كعادته في سائر أيام السبت والأحد - حتى إذا كان ظهر الأحد خرج ليسرج جواده ويمضي إلى عمله عند جيبون. . . ولسبب ما داخلني شعور غريب هذه المرة، فقد كنت أريد من أعماق نفسي ألا يذهب وألا يتركني هذه المرة. ولما ضمني ليودعني لم أجد ما أقوله غير هذه الكلمات:
(لا تذهب يا فرانك. . . لا تتركني هذه المرة يا عزيزي) والحقيقة أنني كنت أشعر بشعور خفي، وبدافع من صميم قلبي يدفعني إلى استبقائه بجانبي. لكنه ابتسم قائلاً:
- تشجعي يا عزيزتي. . . سأعود قريباً
ثم انطلق الجواد كالسهم وأنا واقفة أتابعه بنظري وهو يختفي في ظلام من الغبار.
استيقظت في الرابعة من فجر اليوم التالي، لأنه كان يروق لي أن أنجز أعمالي في الصباح الباكر قبل أن يشتد وهج الشمس في سماء الصيف الصافية ويحمرُّ قيظها، فأخرجت الماشية من حظائرها وأوقدت النيران في الموقد، ثم عدت إلى المنزل لأغذي الأطفال، وألقيت وأنا أصعد الدرج نظرة خاطفة على الطريق الذي مضى فيه فرانك أمس. ولشد ما كانت دهشتي عندما أبصرت من بعيد شبحاً سائراً على قدميه يقترب رويداً رويداً من المزرعة؛ وقد عجبت من ذلك أشد العجب، فهذه أول مرة أرى فيها شخصاً يجوب هذي السهول المترامية سيراً على الأقدام. أسرعت إلى المنزل ووقفت في النافذة وأنا أفكر فيمن يكون ذلك الشخص وما مأربه؟ أهو صاحب مزرعة من اللواتي حولنا يطلب مساعدة؟ ولكن هذا لا يمكن، فكل منهم يملك جواداً على الأقل إن لم يكن يملك مركبة. إذن فهذا الرجل غريب عن الناحية.
ولكن لماذا يأتي الغريب إلى هنا؟ ربما ضل الطريق وأخطأ الجهة التي يقصدها! ولكنه لا يمكن أن يصل إلى هذه الجهة المنفردة دون أن يدرك أنه أخطأ الطريق. . . كل هذه الأفكار كانت تساورني وأنا واقفة في النافذة أرقب الرجل وهو يقترب:
- ترى ماذا يفعل ذلك الرجل لو علم أني وحيدة في ذلك المنزل؟ وماذا يفعل لو عرف شيئاً عن النقود؟
وأخيراً قلت لنفسي: (حسن. ما دام فرانك أخذ دوره وعمل بجد حتى حصل على هذه النقود، يجب أن أخذ دوري في الدفاع عنها) وأسرعت إلى (مسدسي) وكان محشواً، وأيقظت الأطفال حتى لا يزعجهم إطلاق النار. وكان الرجل قد وقف على بعد خمسين خطوة من المنزل يقلب الطرف في الحديقة والدار؛ وبدا لي وجهه مخيفاً مرعباً وملابسه قديمة رثة. على أنه لم يدهشني قط عندما أخرج مسدسه من جيبه ومشى صوب الباب لأني كنت أتوقع ذلك بين لحظة وأخرى. . . . انتظرت حتى أصبح على بعد خطوات من الباب ثم دفعت الباب بقدمي فأصبحت أمامه وجهاً لوجه.
- مكانك وإلا لهبت رأسك!
فوقف الرجل مبهوتاً، ثم أردفت على عجل:
- والآن ماذا تريد؟
- سيدتي! ما أنا إلا رجل فقير جائع؛ أريد قطعة من الخبز أسد بها رمقي، أو أي عمل عندكم أعيش منه. . . ثم تابع كلامه وقد رأى الشك في عيني:
- أنني أمين يا سيدتي؛ لا تسيئي بي الظن
- شكراً لك! إن زوجي قد قام بكل الأعمال، وليس لدي ما أعطيك إياه - لقد قضيت يا سيدتي يومين سائراً. يعلم الله أني لم أذق في خلالهما شيئاً قط. . . .
وأيقنت من نبراته أنه صادق في كلامه برغم ما داخلني فيه من شك. وقد رأيت أن من الغباء أن أدعه يعمل عندنا ونحن لا نعرف أصله، ولكني لم أعدم شيئاً من العطف على رجل لم يذق الطعام من يومين؛ فقلت له وأنا ما أزال قابضة على المسدس:
- إن ورائي على المائدة وعاء من اللبن وقطعتين من الخبز خذهما وأمض في سبيلك. . فنظر لحظة إلى المسدس قبل أن يجد في نفسه الجراءة الكافية على الدخول، ثم جمع أشتات نفسه ودخل وحمل الطعام ثم خرج متمتماً بكلمات الشكر.
ومضيت في عملي فنسيت ذلك الحادث. وكانت الشمس قد ارتفعت في السماء. فجلست مع بوبي لنتناول الفطور في هدوء وصمت. وفجأة تذكرت أنني لم أجمع بيض الدجاج هذا الصباح، وكانت عادتي أن أجمعه في الصباح الباكر قبل أن تعبث به زواحف القفر. فلما بلغت آخر مجاثم الدجاج طرق سمعي فحيح حاد صادر من الحطب الهشيم الملقى على جوانب المجثم، فعرفت الصوت لساعته وإن كنت لم أسمعه في هذه الجهة من قبل، فهلع قلبي وأسرعت بالعودة، إلا أنني لم أكد أدير وجهي حتى شعرت باللدغة في قدمي اليمنى.
لقد كانت عضة أفعى سوداء كبيرة. وقد جمدت في مكاني لمجرد ذكراها قبل أن تلمحها عيناي المضطربتان وهي تزحف بين الهشيم وأخيراً بلغت المنزل أجر قدمي ورائي وأنا ألهث من التعب، ومزقت الحذاء سريعاً فبدا أثر النابين عميقاً ظاهراً، وكنت أجهل تماماً ما سأفعل وأنا على قاب قوسين من الموت. . . فجعلت أجهد ذاكرتي حتى أصل إلى ما قاله لي فرانك عن علاج مثل هذه الحالة. وأخيراً وجدت ضالتي المنشودة. لقد قال لي: يجب أن تربط الرجل من فوق اللدغة بقليل حتى لا يسري السم مع الدماء، ثم تعالج الإصابة (ببرمنجانات البوتاس). . . وسرعان ما مزقت قطعة من القماش من غطاء المائدة وربطت بها الرجل من فوق اللدغة بقليل ثم قمت أبحث عن الدواء
ولكني تذكرت فجأة أنه لم يبق عندنا منه شيء، فقد استنفذته عن آخره في تطبيب الدجاج في الربيع الماضي ونسيت أن أطلب من فرانك أن يشتري بدله.
عدت إلى المقعد في ذهول وأغمضت عيني وجعلت أفكر وأفكر ولكن دون جدوى. . . . كل ذلك والسم آخذ طريقه في قدمي حتى تصلبت عضلاتها. . . . ماذا افعل وأنا وحيدة مع طفلين وهناك عشرات الأميال بيني وبين أقرب نجدة؟ وإذا قدر لي الموت فما مصير الطفلين البريئين؟ كانت قدمي تؤلمني ألماً مبرحاً ولا أعلم إن كان ذلك من السم أم من شدة الرباط؟
لم يكن أمامي ثمة شيء ينقذ حياتي وحياة الأطفال إلا أن أحاول أن أذهب معهم إلى (مري وذر). فربما أتمكن من إدراكها قبل فوات الوقت إذا تركت للجواد العنان. . . فقمت أتحامل على نفسي وعلى الحائط؛ ولكن قبل أن أدرك الباب تذكرت شيئاً آخر جعلني أكاد أسقط على الأرض. . . لقد أخذ فرانك الجواد ولسنا نملك غيره. شعرت بأن الدم يكاد يفيض من وجهي، وأنا أعود إلى المقعد في ذهول. . . أأصحب الطفلين وأمضي سائرة على الأقدام؟ ولكن هذا معناه ساعات وساعات دون أن نصل إلى وجهتنا. . . قمت ثانية لأحمل (فيل) ولكني عدت فتذكرت أن قدمي بوبي الصغيرتين لا تحتملان السير أكثر من ميل أو ميل ونصف. . . إذن سأضطر إلى حمل الطفلين في الطريق، وسأبذل من الجهد ما يجعل الدم ينشط والسم يسري فتكون النهاية المحتمة الأليمة: طفلان في القفر في يد القدر بجانب أم ميتة.
يا ألهي! ماذا أفعل وهذا الموت المحقق يسير في عروقي، وعن قريب أصير في عداد الأموات. . . ولكن الطفلان ما مصيرهما؟ الموت دون شك. . وإذا كان لابد من الموت فلم لا أسرع حتى أخلص من عذاب النفس الممض وعذاب الجسم المبرح؟. . . لم لا أسرع بالقضاء على نفسي وعلى الطفلين حتى نستريح جميعاً؟. . . خففت قليلاً من وطأة الرباط فلم تعد ترجى منه فائدة، وتناولت قلماً وورقة من المكتب ثم جلست أكتب لفرانك ظهر الاثنين:
عزيزي فرانك:
لقد لدغتني أفعى سامة كبيرة. ولم أجد لها علاجاً ناجعاً ولا يمكنني أن أعيش أكثر من بضع ساعات. أما الطفلان فلا أظنهما يلبثان على قيد الحياة إلى حين حضورك. لذلك سأفعل الأمر الوحيد الذي يمكنني أن أفعله في هذه الحالة فأريح نفسي والطفلين من العذاب الأليم. وأتمنى لك حياة طويلة سعيدة.
عزيزتك روز ماري
ووضعت الورقة على المائدة ثم تناولت المسدس، واقتربت من طفلي فيل وكان مستغرقاً في نومه فركعت بجانبه ثم طبعت على جبينه قبلة حارة وصوبت (المسدس) إلى رأسه بيد مرتعشة، ثم أغمضت عيني لأطلق النار. . .
- بحق السماء ماذا تفعلين يا سيدتي. . .؟
اضطرب (المسدس) في يدي وتلفت إلى مصدر الصوت في جزع فإذا الرجل الغريب الذي رأيته في الصباح واقفاً بالباب ينظر إلي تارة والى المسدس أخرى. . ثم تقدم أخيراً فقبض على المسدس من يدي وألقاه على المائدة، ثم تابع كلامه قائلاً - أتقدمين على قتل هذا الطفل البريء؟
- نعم أقدم على ذلك
- أمجنونة أنت؟
- كلا. . . لقد لدغتني أفعى سوداء سامة وأدركت أن الموت من نصيبي وأيقنت أن الطفل سيموت جوعاً ففضلت أن نموت سوياً
- أفعى سوداء! قالها وتقدم إلي في سرعة فرفعني من مكاني وأضجعني على المقعد ثم أخرج من جيبه سكيناً حاداً رسم بها دائرة حول أثر النابين، ثم أخذ يضغط الجرح بشدة حتى سالت الدماء وفاضت على جوانبه. . . ثم نهض مسرعاً وجذب قضيباً من الحديد كان ملقى على المائدة، ثم سأل:
- أين الموقد؟
- وراءك إلى اليمين. فأسرع إليه ووضع القضيب في النار إلى أن أحمر طرفه ثم عاد إلي قائلاً:
- يعز علي أن أفعل ما أنا مقدم عليه، ولكن هذا هو العلاج الوحيد. ولما انتهى من كي الجرح أحضر لي جرعة من الماء. ثم تبع ذلك صمت طويل قطعه أخيراً بقوله:
- لقد توسمت فيك الشجاعة هذا الصباح يا سيدتي. وقد رأيتها الآن رأي العين؛ وأظن أنك ستشعرين بألم مبرح بضعة أيام يزول بعدها كل شئ. ورانت على الغرفة فترة أخرى من الصمت ثم قال أخيراً في هدوء وتؤدة: - لا يمكنني على ما أظن أن أمضي وأتركك على ما أنت عليه. . . ثم أردف باسماً:
- إنه ليبدو عجباً أن أحضر إلى هنا رغبة في الاستيلاء على أموال زوجك وقتلك إذا دعت الحال، فإذا بي أساعدك وأسهر عليك وأعني بمرضك كما لو كنت صديقاً حميماً!
وأظن أن آخر شئ يمكنني أن أذكره قبل أن يأخذني الإغماء هو صورة الغريب في يده وعاء اللبن وهو ذاهب لحلب البقرة وبوبي يقفز حوله في سرور. أما فيل فقد كان مستغرقاً في سباته، وكانت الشمس قد آذنت بالغروب. . . ثم أظلم المكان في عينيّ ولم أشعر بما يجري حولي، اللهم إلا أشباحاً تتراقص، وأيدياً تلوّح، وأصواتاً تدوي. . .
حينما أفقت من الإغماء كان الوقت ظهراً والسجُف مرخاة على النوافذ والغرفة خالية إلا مني ومن بوبي الذي كان جالساً يأكل في أحد الأركان في سرور جعلني أشعر بمثله.
- أظنك تشعرين الآن ببعض التحسن يا سيدتي. . . كان ذلك صوت الرجل الغريب، فتلفت فإذا به واقف بجانب السرير ينظر إلي في حنان وعطف. فسألته:
- في أي يوم نحن الآن؟
- الأربعاء يا سيدتي
وفي مساء الجمعة وكان قد ثاب إلي بعض صحتي ونشاطي؛ وكان بوبي وفيل قد أخذتهما سنة من النوم، قال لي الغريب:
- في أي وقت تتوقعين حضور زوجك يا سيدتي؟
- إنه يصل عادة بعد التاسعة بقليل
- إذن يجب عليّ أن أذهب، ولكن لن أتركك حتى أسمع وقع حوافر جواده
- ولكن لماذا؟ قد يرغب فرانك في رؤيتك ليقول لك شيئاً
- شكراً، أني أعلم ما سيقوله لي
- إذن دعني أمنحك قليلاً من المال، أنه لشيء تافه بجانب ما تكبدته لإنقاذي وإنقاذ الطفلين. . ثم قمت لأحضر النقود، ولكنه أعترض سبيلي قائلاً:
- أرجوك الجلوس يا سيدتي - لقد كانت النقود في متناول يدي طول أيام الأسبوع، ولكني لم ألمسها ولن أمسها. . .! ثم خيم على الغرفة صمت طويل قطعه أخيراً وقع حوافر جواد قادم في الطريق، فقام الرجل وسار نحو الباب في خطوات متزنة ثم اختفى بين طيات الظلام.
قصصت على فرانك القصة فما انتهيت منها حتى أبتدر الباب باحثاً عن الرجل، ولكني استوقفته وأخبرته أن من العسير أن يعثر عليه في هذا الظلام الحالك، فرجع آسفاً. ومنذ ذلك الحين ونحن نتمنى لو تتاح لنا فرصة نشكر فيها ذلك الغريب ونوليه أضعاف جميله؟
أحمد فتحي مرسي