مجلة الرسالة/العدد 18/لم لا تقول الشعر؟
→ حول الإشعاع النفسي | مجلة الرسالة - العدد 18 لم لا تقول الشعر؟ [[مؤلف:|]] |
الحمى داء ودواء ← |
بتاريخ: 01 - 10 - 1933 |
للدكتور عبد الوهاب عزام
كتبت ألي أيها الأخ الكريم تسألني (لماذا صمتَّ بعد تغريد، ونضبت بعد فيض، وسكنت بعد المرح، واكتأبت بعد الفرح؟ وما هذا الوجوم والإطراق بعد التهلل والإشراق؟ أين قلبك الهدار، وقلمك المكثار؟ وأين شعرك الشاعر، ونظمك الساحر؟ ليت شعري، وقد أمكنك القول، لم لا تقول الشعر؟)
يا أخي بماذا اجيبك؟ لقيت الحياة مبتسما، ونشأت مرنما، أطالع تباشير الصباح مرحا كالأطيار، مترنحا مع الأشجار، تروقني ألوان الأفق، وتدهشني طلعة ذكاء في مواكب الضياء، أراقب الأضواء، في الصباح والامساء، وأساير الظلال، بالغدو والآصال. وأخلو إلى القمر أشرب ضياءه، وأحس في نفسي صفاءه، وأقول:
البر والبحر ذوبٌ من سنا قمر ... تردد الطرف فيه فهو حيران
وأتأمل الأزهار في شعاعه، واقبِّل الورد في لآلائه وأساير النيل أجري مع مائه. واضطرب مع أمواجه، وأقف على البحر فرحا بآذيِّه المهتاج، معجبا بسلاسل الأمواج، أرقب العراك المتواصل، بين الماء والساحل.
وكم طربت لزقزقة العصافير في نور الصباح، وتنزيها على متون الرياح، وضحكت لبكور الغراب، سابحا في الضباب.
وكم فتنني الوجه الجميل والخلق النبيل فقلت:
في كل حسن أرى سراً يجاذبني ... نفسي، ومالي بهذا السر عرفان
أرى الجمال فتطبعه زجاجة العين على صفحة القلب فاذا هو على لساني وقلمي. فانطلق قائلا معجبا. ومنشداً مطرباً.
وكل شيء يبعث الأمل، ويحدو إلى العمل، وكأن القضاء طوع الخيال، وليس في الدنيا محال. وكأن الإنسان يستطيع أن ينحت الجبال بقلمه، وينزف البحر بفمه. والمستقبل وضاء، وكل ما في العالم ضياء.
ثم نفذ إلى الفكر إلى ما وراء الظاهر، وتطلع إلى ما في السرائر، وجاوز القشر إلى اللباب، وخاض الضحضاح إلى العباب، وكشف المجاز عن الحقيقة، وطالع ضمائ الخليقة. فأنبهم العالم واستعجم، فاذا كل شيء مبهم، فالفكر فيما وراء الحجب جائل، وكل سر هنالك هائل. الضوء هنالك ضباب، والبصر حجاب.
فامحت الأشكال وخفيت الألوان، وعيّت الريشة في يد الراسم، وحار القلم في بنان الشاعر، وبُهِت المنطق دون البيان، وجمد اللفظ على اللسان. ويبقى السر المحجَّب آبيا على كل مطلب، أو يبصَّ من الحقيقة حاجب يعظم عن ضيق الألفاظ ويكبر على سلاسل القوافي والأوزان.
ورحم الله الشاعر سنائي إذ يقول: (رجعت عما قلت إذ ليس وراء الألفاظ معان، وليس لما ندرك من المعاني ألفاظ).
أهم بالأمر الصغير فإذا هو حلقة في سلسلة، وطريق إلى كل معضلة، وجزء من كل حقيقة هائلة.
وأحاول الأمواج فتنفتح عن الأعماق، فيضل الفكر وتزيغ الأحداق. وأعالج حمرة الشفق، فاذا وراءها خبيئات الأفق، وإذا الأفق صلة الأرض والسماء، وكيف بما فيهما من حقائق، وكيف بما أستسر من أسرار الخالق؟
وأهم بالكلام عن الحيوان فاذا أنا في لجة الحياة، وهي السر العجاب، وسطها فوق الأرض وطرفاها في التراب.
وأريد أن اصف الذرة فاذا هي والشمس سواء، باهرة الحقيقة رائعة الضياء. أنظر إلى الصغير فيكبر، وأعمد إلى الواضح فيستعجم.
والأمل تكسرت أمواجه على صخور الحقائق، وضل سرابه في صحاري الحياة.
يا أخي: ها أنا على ساحل المحيط الأعظم حائر الطرف بين اللجة والشاطئ، مقسم الفكر بين الظاهر والباطن. ولست أدري أأبقى صامتا مبهوتا، أو أهجم على الأهوال، وأغوص في الأعماق، ثم أبين عن عرفاني وجهلي، وإدراكي وعجزي، أو أرجع إلى العهد القديم أصف الألوان والأشكال والضياء والظلال. . . .؟