مجلة الرسالة/العدد 18/الكتب
→ بلياس ومليزاند | مجلة الرسالة - العدد 18 الكتب [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 01 - 10 - 1933 |
عودة الروح
- 2 -
ما أظن إننا نغالي إذا اعتبرنا قصة (عودة الروح) للأستاذ توفيق الحكيم مؤلف (أهل الكهف) القصة المصرية الأولى في أدبنا المصري الصميم، بل هي في الحقيقة لا نعددها ولا نجد مفرا من الاعتراف بها، فعودة الروح مصرية بأبطالها، بموضوعها، بما فيها من عادات وطباع وخلق مصرية صميمة، بذلك الطابع المصري الصميم الذي يطالعك في كل صفحة منها بل في كل سطر وكل كلمة تضمنتها. وانك لتحس إذ تقرأ هذه القصة وتمضي في القراءة وتمضي فيها انك تعيش في جو تألفه، وبين قوم سرعان ما تشعر بالرابطة القوية التي تربطك بهم، رابطة المصرية المتينة التي تحجبهم إليك وتجعلك تحسهم أحياء يتحدثون ويتحركون، لا أبطال قصة من صنع الخيال من ورائهم المؤلف يفتعل لهم المواقف، ويفتعل لهم الحديث والحركة، وانك لتهم أحيانا أن تشترك معهم في الحوار وتشاطرهم حياتهم ودنياهم الزاخرة بشتى الانفعالات المليئة بألوان من الشقاء واليأس حينا، والسعادة والأمل حينا آخر.
وهذه المصرية الصحيحة، وهذه الحياة القوية الفياضة، هما سمة هذه القصة وطابعها البارز، وهما قد جعلاها في الطليعة بين كل ما كتب من القصص المصري منذ عرف أدبنا القصة إلى اليوم.
يروعك من هذه القصة لأول وهلة دقة تصوير شخصياتها على اختلاف كبير بينهم في النشأة والعلم والاستعداد الشخصي، وانك لواجد في كل منهم شخصية تخالف الأخرى وتفترق عنها في الكثير والقليل، تجمعهم أحيانا وحدة الحادثة، ولكن ما أشد تباينهم تجاهها في الشعور والحس والإدراك الصحيح، وما أشد هذا التباين في الاندماج في الحياة والانفعال بمختلف ما تأتي به من خير أو شر، من رجاء أو خيبة، وتكاد تحس فيهم جميعا طيبة القلب، وسذاجة الفطرة، والتبسط في الحياة، وتقبل ما تأتي به صروفها من ألم أو أمل، في رضى واستسلام، أو في غضب هو بالرضى أشبه، ولكن كل وحده وكل له بعد ذلك خلقه البارز وطبعه المغاير وشخصيته الفذة التي تترسمها ولا تكاد تخفي على ناظري طوال القصة في معالمها الكبرى واسطرها الواضحة، بل في تفاصيلها الدقيقة وما بين هذه الأسطر، وما بين تضاعيف القصة من حوادث وصروف.
كلهم يحب وكلهم يعمر بالأمل قلبه حتى (زنوبة) هذه العانس التي فاتها سن الزواج فما تجد حيلة إلا الاستعانة بالسحر والسحرة في خفاء وحذر، خشية أن يعلم أهلها عليها أمراً لا يناسب الوقار والاحتشام، وما يجب أن تتصف به من الرزانة والأدب، كلهم يحب حتى (مبروك) الخادم أو من هو كالخادم، وما أشبهه بزنوبة في بساطة العقل أو قل في تفاهته، وانه ليسرع في شراء (نظارة) لتتم له الصورة التي تخيلتها له الفتاة التي أحبها الجميع، وساهم هو في حبها ولو بقسط ضئيل. وهذا (محسن) بطلنا الأول، الطالب في مستهل دراسته الثانوية، الناشئ في مستهل شبابه، وفي أول خطى العمر الغض، ما أجدره بالحب وأخلق بقلبه الفتي أن يفتح مصراعيه لأول طارق وأن يصيبه السهم الأول فيدميه ويجرحه جرح الأبد. ذلك هو الجرح الأول الذي لا يفتأ على الأيام يؤلم ويدمي. (محسن) يحب ولكن على استحياء وخجل. وفي صمت وكتمان. فاذا لمح بادرة أمل راح والدنيا لا تتسع لنشوته. وإذا داخله اليأس أفعم نفسه وروحه وضاقت الدنيا في عينيه، لا يعرف مداخل الرجل إلى قلب المرأة، ولا يدري كيف يغزو الغزاة هذا الحصن ويحسنون الطرق على أبوابه حتى تتفتح لهم عن جنات ورياض من الأمل الباسم والسعادة الشاملة، وما أروع هذا الاستسلام يطغى على قلبه، وهذا الألم يحز في قرارة نفسه، وتجده في ضريح السيدة يمسك بقضبان الضريح النحاسية ولا تنفرج شفتاه إلا عن هذه الصرخة المكتومة والضراعة اليائسة وملؤها الرجاء والإيمان المطلق (يا سيدة زينب!) ثم يطفر الدمع من عينه ويبكي ما شاء الله له أن يبكي، وما شاء له الحب اليائس والنفس الحزينة، والأمل المقطوع. وما ادري كيف كان يمكن أن يشعرك المؤلف بكل ما يختلج في صدر محسن من ألم محض وأسى قتال بأكثر من أن ينطقه بهذا ولا شيء غيره. فنتضمن الجملة القصيرة أو هذه المفاجأة الرائعة إذا أردت، كل ما تسعه المخيلة القوية الوثابة من اليأس والرجاء، والأمل والفشل، ثم الإيمان الذي يعمر القلب ويتغلغل إلى أعمق نواحيه وأغواره.
ولو شئت أن اضرب لك الأمثال على قوة تصوير المؤلف لمواقف أبطال قصته، وعلى دقته في الصور التي يعرضها عليك لشتى ضروب انفعالات النفس الإنسانية، وعلى مهارته الحاذقة في استخلاص الصميم الرائع من حقائق الحياة الخالدة، وتعمقه في تحليل كل ذلك تحليلا صادقاً كل الصدق، دقيقاً بارعاً إلى ابعد حدود الدقة والبراعة، لو شئت أن اضرب لك مثلا على هذا لما تخيرت إلا هذا الموقف. وانك إذ تسمع (محسن) يقول هاتين الكلمتين في ذلك الوقت، تبرز أمام عينيك فجأة صورة ذلك المنكوب الحزين، ذلك اليائس كل اليأس، المكروب كل الكرب، ذلك الذي تألبت عليه النوب واصطلحت عليه الأرزاء، فيرفع رأسه في هدوء وتلمح على وجهه ما يروعك من آيات القنوط وتحس ما يجيش به صدره من الانفعالات ومختلف عوامل النفس الثائرة كأنها الأتون يصهر الحديد أو البركان يقذف بالحمم، ثم لا تسمع منه إلا كلمة (يا رب. . .) وعليها مسحة الإيمان الذي لا حد له ولا وصف يوصف به، وانك لمأخوذ بسحر هذه الكلمة، مأخوذ بروعتها في بساطتها وقصرها، وكأنها تعويذة فيها من الروعة والجلال ما يأخذ على الفكر مسالك الفكر، ولو استمعت إلى شكوى الناس طرا من عهد آدم إلى اليوم لما كان لذلك في نفسك بعض هذا التأثير أو بعض هذا السحر المبين.
وتلك ناحية من نواحي هذا الكاتب القدير توفيق الحكيم لا تخطئها في (عودة الروح).
وأحب لك أن تقرأ الفصل الثالث عشر من القصة عند وداع محسن لسنية فهو من أحسن فصول القصة، وهذا الموقف بين الاثنين من أروع المواقف واصدقها وأدقها0 تصويراً، على أني لا أحب أن تفهم أني أفضل مشهدا في القصة على مشهد ولا فصلا فيها على فصل، فهي كلها قوية رائعة، وفيها كلها تلمس قوة الحبكة ودقة التصوير ومهارة الكاتب وخياله الخصب المؤاتي، وذلك التلوين العجيب لشخصيات أفراد القصة في مواقفهم العديدة المتباينة، ودونك الفصل الرابع والثلاثين عندما يتجه نظر سنية لقهوة الحاج شحاتة وتتأمل طويلا في مصطفى وما يختلج في قلبها من الانفعالات المختلفة المتضاربة، فليس أبلغ من قوة التحليل في هذا الفصل لقلب العذراء الخلي عندما يداخله الحب وينفعل بالجو الذي يحيطه في أول خطاه في هذه التجربة القاسية، فهو راض حينا، ساخط حينا آخر تتجاذبه عوامل الأمل واليأس، وتلمح كل هذا في الحركة المضطربة، وفي المفاجأة التي لا تترجم عنها الألفاظ، ولكن دقات القلب ونظرات العين ووجوم الوجه، وآية هذا الفصل أسطره الأخيرة التي تقدم لك لوحة من الفن بارعة كل البراعة صادقة كل الصدق، دقيقة أبلغ الدقة.
وبرغمي أن أترك حديث هذه الناحية من القصة لأتحدث إليك عن ناحية أخرى لا تقل عنها بروزا وقوة: وفيها الفكرة الكبرى التي أرادها المؤلف من كتابة قصته وعناها بتسمية القصة (عودة الروح) ودعك من ناحية تمجيده الفلاح، أو بمعنى آخر للمصري الصميم، وإنها لصفحة ناصعة خالدة من صفحات هذه القصة وانك لتحس في تضاعيفها حرارة المصري الصميم يمجد مصر وطنه ويمجد المصري ابن وطنه، ودعك من تلك الصور الصادقة واللوحات الفنية الرائعة عن الريف وأهل الريف وعن حياتهم وعاداتهم والاتحاد القوي المتين بين أفرادهم، وروح الجماعة التي تبرز في شخصياتهم واضحة منيرة، دعك من هذا ودونك فاسمع ما يقوله أوربي عن مصر وعن شعبها في الفصل الخامس والعشرين واقرأ هذه الفقرات وارجع إلى الفصل المشار إليه إذا أردت أن تقرأها كاملة.
(إن هذا الشعب الذي نحسبه جاهلا ليعلم أشياء كثيرة، ولكنه يعلمها بقلبه لا بعقله. . . . جيء بفلاح من هؤلاء واخرج قلبه تجد فيه رواسب عشرة آلاف سنة من تجاريب ومعرفة رسب بعضها فوق بعض وهو لا يدري. . . .)
(قوة أوربا الوحيدة هي في العقل تلك الآلة المحدودة التي يجب أن نملأها نحن بإرادتنا، أما قوة مصر ففي القلب الذي لا قاع له)
(إن هذا الشعب المصري الحالي ما زال محتفظا بتلك الروح. . . روح المعبد. . . إن القوة كامنة في هذا الشعب ولا ينقصه إلا شيء واحد. . . المعبود. . . نعم ينقصه ذلك الرجل منه، الذي تتمثل فيه كل عواطفه وأمانيه ويكون له رمز الغاية. . . . عند ذاك لا تعجب لهذا الشعب المتماسك المتجانس المستعذب والمستعد للتضحية إذا أتى بمعجزة أخرى غير الأهرام)
فاذا انتقلنا إلى الفصل الثالث والأربعين قرأنا (في شهر مارس. . مبدأ الربيع. . فصل الخلق والبحث والحياة. . اخضرت الأشجار بورق جديد وحبلت وحملت أغصانها الأثمار. .
(كذلك مصر أيضاً. . حبلت، وحملت في بطنها مولوداً هائلاً. وها هي مصر التي نامت قرونا تنهض على أقدامها في يوم واحد. لأنها كانت تنتظر ابنها المعبود ورمز آلامها وآمالها المدفونة يبعث من جديد. . وبعث هذا المعبود من صلب الفلاح)
وتبرز أمامك فجأة صورة رائعة لثورة مارس سنة 1919، وامض في القراءة.
(ما غابت شمس ذلك النهار حتى أمست مصر كتلة من نار. وإذا أربعة عشر مليونا من الأنفس لا تفكر إلا في شيء واحد. الرجل الذي يعبر عن إحساسها. . والذي نهض يطالب بحقها في الحرية والحياة، قد أخذ وسجن ونفي في جزيرة وسط البحار)
وتبرز أمامك صورة رائعة للمولود الهائل. . . للمعبود رمز الآلام والآمال. . للمعبود الذي بعث من صلب الفلاح. . لسعد
(كذلك اوزوريس الذي نزل يصلح أرض مصر ويعطيها الحياة والنور أخذ وسجن في صندوق ونفي مقطعا إربا في أعماق البحار. . .)
هذه مصر، وهذه ثورتها أو معجزتها الثانية بعد الأهرام، وهذا سعد رمز العبود والقدس، بعض ما يبرزه لك توفيق الحكيم إبرازا قويا واضحا فتكاد يستخفك مجد تليد وتاريخ مجيد فتصيح وتهتف بحياة مصر، الوطن العزيز المفدى، وتكاد من فرط ما يشملك من الفخار والعزة أن تدمي هذه الصفحات المقدسة تقبيلا وإجلالا، وهاك فاسمع ما يقول المؤلف عن لسان ذلك الأوربي، وأن أربعة عشر مليونا ليرددون هذه الجملة وأنها لتصبح وتمسي نشيدهم المختار ومثلهم الأعلى.
(بلد أتت في فجر الإنسانية بمعجزة الأهرام لن تعجز عن الإتيان بمعجزة أخرى. . . أو معجزات!! بلد يزعمون أنها ميتة منذ قرون، ولا يرون قلبها العظيم بارزا نحو السماء من بين رمال الجيزة! لقد صنعت مصر قلبها بيدها ليعيش الأبد. . . . .)
أجل. . . لقد عاشت مصر الأبد، وتخطت القرون والعالم يظنها هامدة ميتة، والنار كامنة تحت الرماد، وما هي إلا نفخة أو شبهها حتى ظهرت النار متأججة، تصهر الحديد وتكوي الجباه، وحتى قام ذلك الفلاح المستكين وأعلن غضبته للعالم أجمع والتفت العالم وأنصتت الدنيا.
وهذا ابن لمصر بار، هذا مصري صميم، هذا توفيق الحكيم جاء فسجل مجد تلك الثورة وأشاد بذكرها.
وبعد، فلنذكر للمؤلف الفاضل هذا الجهد البارز، وهذا العمل الخالد ولنعترف مخلصين بما بذل وما أوتي من مقدرة فائقة واستعداد هو مبعث التقدير والإجلال.
محمد علي حماد