مجلة الرسالة/العدد 179/نظرية النبوة عند الفارابي
→ في الأدب المقارن | مجلة الرسالة - العدد 179 نظرية النبوة عند الفارابي [[مؤلف:|]] |
الشفاء ← |
بتاريخ: 07 - 12 - 1936 |
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة بكلية الآداب
- 6 -
للباحثين في تاريخ الفلسفة مذاهب كثيرة وطرائق مختلفة. فجماعة يرون إن واجب المؤرخ ينحصر في دراسة الأشخاص وتفصيل القول في حياتهم وبيان الظروف المحيطة بهم والعوامل الداخلية والخارجية التي أثرت فيهم. ولا يعنون عناية كبيرة بأفكارهم في نشأتها وتكونها وارتباطها بالآراء والنظريات السابقة واللاحقة. على أنهم إن تعرضوا لهذه الأفكار نظروا إليها منعزلة عما حولها، وبدت في أيديهم كأنها وحدة مستقلة وحلقة منفصلة عن سلسلة التفكير الإنساني. وهناك طائفة أخرى تؤمن بأن الفلسفة دائمة وأن الأفكار الفلسفية في مختلف العصور متصلة الحلقات مرتبط بعضها ببعض. فيجب على الباحث إذن أن يبين مقدار تأثر الخلف بالسلف وما زاد التلميذ على الأستاذ. وليس بكاف أن يقال إن فيلسوفاً ما جاء بفكرة معينة، بل لا بد من البحث عن أمهات هذه الفكرة وجداتها القريبات أو البعيدات، وعن بناتها وبنات بناتها إن صح أنها أعقبت في الأجيال التالية؛ والأفكار كالأشخاص ذات تاريخ يطول ويقصر وحياة متنوعة الألوان والأشكال، ففي حين أنه يقدر لبعضها الخلود قد يقضى على بعضها الآخر بالإهمال والنسيان.
وفي رأينا أن الدراسة التاريخية الكاملة تستلزم الجمع بين هاتين الطريقتين؛ وكي تفهم الأفكار فهماً صحيحاً يجب أن تدرس على ضوء حياة أصحابها والبيئة التي تكونت فيها، ولا يمكننا أن نقدر الفلاسفة والمفكرين حق قدرهم وننزلهم في المنزلة اللائقة بهم إلا أن تتبعنا أفكارهم في مختلف أدوارها وأثبتنا ما أنتجت من آثار. وكثيراً ما أعانت الأفكار على توضيح نواح غامضة في حياة مبتكريها أو القائلين بها.
وسيراً على هذه السنة قد بدأنا فعرضنا نظرية النبوة كما تصورها الفارابي، وحاولنا أن نبين الأسباب الاجتماعية والدينية التي دفعته إليها، والمناقشات اليومية والأبحاث النظرية التي ولدتها، ثم صعدنا إلى أصولها التاريخية ووضحنا العلاقة بينها وبين بعض الآراء القديمة، وناقشناها أخيراً مبينين ما إذا كانت تلتئم مع التعاليم الإسلامية وتقتصر شقة الخلاف بين الفلسفة والدين؛ ونرى اليوم واجباً علينا أن نبين ما لهذه النظرية من أثر فيمن جاء بعد الفارابي من فلاسفة ومفكرين، وسنتتبع تاريخها في المدارس الإسلامية على اختلافها محاولين أن نبين كذلك مقدار نفوذها لدى اليهود والمسيحيين في القرون الوسطى والتاريخ الحديث.
وقد يكون أول سؤال يسأله الباحث هو: هل أخذ فلاسفة الإسلام الآخرون بهذه النظرية؟ والجواب على هذا أن ابن سينا أولاً اعتنقها في إخلاص، وعرضها على صورة تشبه تمام الشبه ما قال به الفارابي من قبل، وقد خلف لنا رسالة عنوانها: (في إثبات النبوات وتأويل رموزهم وأمثالهم)، وفيها يفسر النبوة تفسيراً نفسياً سيكلوجياً، ويؤول بعض النصوص الدينية تأويلاً يتفق مع نظرياته الفلسفية. ويبدأ كالفارابي، فيوضح الأحلام توضيحاً عليماً؛ فإذا ما حل مشكلتها جاوزها إلى موضوع النبوة. وفي رأيه أن التجربة والبرهان يشهدان بأن النفس الإنسانية تستطيع الوقوف على المجهول أثناء النوم؛ فليس ببعيد عليها أن تستكشفه في حال اليقظة. فأما التجربة والسماع فيقرران أن أشخاصاً كثيرين تنبئوا بالمستقبل بواسطة أحلامهم. وأما عقلاً فنحن نسلم بأن الأحداث الماضية والحاضرة والمستقبلة مثبتة في العالم العلوي ومقيدة في لوح محفوظ، فإذا استطاعت النفوس البشرية الصعود إلى هذا العالم والوقوف على هذا اللوح عرفت ما فيه وتنبأت بالغيب، وهناك أشخاص يدركون هذا أثناء النوم عن طريق مخيلتهم فيحلمون بأشياء كأنها حقائق ملموسة، وآخرون عظمت نفوسهم وقويت مخيلتهم، فأدركوا ما في عالم الغيب في حال اليقظة كما يدركونه أثناء النوم. وهؤلاء هم الأنبياء الواصلون إلى مرتبة النور والعرفان. يقول ابن سينا (التجربة والقياس متطابقان على أن للنفس الإنسانية أن تنال من الغيب نيلاً ما في حال المنام. فلا مانع من أن يقع مثل ذلك النيل في حال اليقظة إلا ما كان إلى زواله سبيل ولارتفاعه إمكان. إما التجربة فالتسامع والتعارف يشهدان به، وليس أحد من الناس إلا وقد جرب ذلك في نفسه تجارب ألهمته التصديق، اللهم إلا أن يكون أحدهم فاسد المزاج نائم قوي التخيل والتذكر. وأما القياس فاستبصر فيه من تنبيهات:
تنبيه: قد علمت فيما سلف إن الجزئيات منقوشة في العالم العقلي نقشاً على وجه كلي، ثم قد نبهت لأن الأجرام السماوية لها نفوس ذوات إدراكات جزئية وإرادات جزئية تصدر عن رأي جزئي. ولا مانع لها عن تصور اللوازم الجزئية لحركاتها الجزئية من الكائنات عنها في العالم العنصري.
إشارة: ولنفسك أن تنتقش بنقش ذلك العالم بحسب الاستعداد وزوال الحائل. قد علمت ذلك فلا تستنكرن أن يكون بعض الغيب ينتقش فيها من عالمه) فالحقائق منقوشة في العالم العلوي وكل من اتصل به أدركها. والمهم فقط هو شرح كيفية هذا الاتصال. وابن سينا يوضح هذا توضيحاً يحاكي فيه الفارابي حذوك القذة بالقذة. فيلاحظ أن بعض المرضى والممر ورين يشاهدون صوراً ظاهرة حاضرة دون أن يكون لها أية صلة باحساساتهم الخارجة؛ ولابد لهذه الصور من سبب باطني ومؤثر داخلي. وإذا بحثنا في قوى النفس المختلفة وجدنا أن المخيلة مصدر الصور الباطنية المختلفة بيد أنه قد يصرفها عن عملها شوا غل حسية وأخرى باطنية. فإذا انقطعت هذه الشواغل أو قلت أثناء النوم لم يبعد أن تكون للنفس فلتات تخلص بها إلى جانب القدس فينتقش فيها نقش من الغيب. وإذا كانت النفس قوية الجواهر تسع الجوانب المتجاذبة، وتستطيع الاستيلاء على الشواغل المختلفة، لم يبعد أن يقع لها هذا الخلس والانتهاز في حال اليقظة. وهذه القوة ربما كانت للنفس بحسب المزاج الأصلي؛ وقد تحصل بضرب من الكسب يجعل النفس كالمجرد لشدة الذكاء كما تحصل لأولياء الله الأبرار. والذي يقع له هذا في جبلة النفس ثم يكون خيراً رشيداً مزكياً لنفسه، فهو ذو معجزة من الأنبياء، أو كرامة من الأولياء. وتزيده تزكيته لنفسه في هذا المعنى زيادة على مقتضى جبلته فيبلغ المبلغ الأقصى.
فالنبوة إذن فطرية لا مكتسبة، وكل ما للكسب فيها من يد أنه يزيد النبي كمالاً على كماله، ورفعة فوق رفعته. وإذا ما حظي شخص بالاتصال بالعالم العلوي تمت على يديه أمور خارقة للعادة من معجزات وكرامات. وهذه الأمور وإن غاب عنا سرها يمكن أن تفسر من هذه الطريق النفسي الروحاني. يقول ابن سينا: (لعلك قد تبلغك عن العارفين أخبار تكاد تأتي بقلب العادة فتبادر إلى التكذيب. وذلك مثل ما يقال إن عارفاً استسقى للناس فسقوا، أو استشفى لهم فشفوا، أو دعا عليهم فخسف بهم وزلزلوا أو هلكوا بوجه آخر، أو دعا لهم فصرف عنهم الوباء والموتان، أو السعير والطوفان، أو خشع لبعضهم سبع، أو لم ينفر عنه طير، أو مثل ذلك مما لا يأخذ في طريق الممتنع الصريح، فتوقف ولا تتعجل، فان لأمثال هذه أسباباً في أسرار الطبيعة، وربما يتأتى لي أن أقص بعضها عليك). وهذه الأسباب، في رأي ابن سينا، ليست شيئاً آخر سوى ان النفوس السامية وقد تجردت عن المادة وصعدت إلى سماء الأرواح تستطيع التأثير في العالم الخارجي مثل نفوس الأفلاك وعقولها. وأثرها هذا خاضع في الواقع للإرادة الإلهية وفيض من العناية الربانية. فالمعجزة وإن خرجت على المألوف في ظاهرها هي أثر من آثار القوى المتصرفة في الكون. وكأن ابن سينا أحس بأن هناك أشخاصاً سيتمادون في طريق الفروض العقلية ويرفضون هذه التفسيرات الروحانية، فعاد في آخر بحثه ودعاهم إلى التأني والتدبر والبحث والتمحيص قبل الإنكار والقطع بالاستحالة، وختم إشاراته بتلك النصيحة الذهبية الغالية التي يجب أن يضعها كل باحث وكل مفكر دائماً نصب عينيه. يقول: (إياك أن يكون تلبسك وتبرؤك عن العامة هو أن تنبري منكراً لكل شيء فذلك طيش وعجز، وليس الخرق في تكذيبك ما لم تستبن لك بعد جليته دون الخرق في تصديقك ما لم تقم بين يديك بينته. بل عليك الاعتصام بحبل التوقف، وإن أزعجك استنكار ما يوعاه سمعك ما دامت استحالته لم تبرهن لك. والصواب لك أن تسرح أمثال ذلك إلى بقعة الإمكان، ما لم يذدك عنها قائم البرهان، واعلم أن في الطبيعة عجائب، وللقوى العالية الفعالة والقوى السافلة المنفعلة اجتماعات على غرائب)
درس ابن سينا نظرية النبوة في البحث الأخير من الإشارات فجاءت درة العقد وإكليل الكتاب، وأفاض عليها من فصيح بيانه وقوة برهانه ما منحها سلطاناً فوق سلطانها وقوة إلى جانب قوتها، ويغلب على ظننا أن كل فلاسفة الإسلام اخذوا بها. ومما يؤسف له أنه لم يصلنا شيء عن ابن باجة وابن طفيل يوضح موقفهما إزاءها، إلا أن نزعتهما التصوفية ورغبتهما الأكيدة في التوفيق بين الفلسفة والدين تدفعنا إلى القول بأنهما كانا يسلمان بها ويدعوان إليها، أما ابن رشد فقد عرض لها في تهافت التهافت مفنداً لاعتراضات الغزالي ومدافعاً عن الفلاسفة القدامى والمحدثين، وهو يرى أن هذه النظرية وإن تكن من صنع فلاسفة الإسلام وحدهم مقبولة في جملتها، ولا وجه للغزالي في الاعتراض عليها، وما دمنا نسلم أن الكمال الروحي لا يتم إلا باتصال العبد بربه فلا غرابة في أن تفسر النبوة بضرب من هذا الاتصال. غير أن هذه التفسيرات العلمية يجب أن تبقى وقفاً على الفلاسفة والعلماء، فأن عامة الناس لا يدركون كنهها ولا يستطيعون الوقوف على حقيقتها، وجدير بنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم، ونقدم لكل طائفة ما يناسبها من غذاء.
(يتبع)
إبراهيم بيومي مدكور