مجلة الرسالة/العدد 179/تطور خطير في السياسة الدولية
→ القلب المسكين | مجلة الرسالة - العدد 179 تطور خطير في السياسة الدولية [[مؤلف:|]] |
التنكر ← |
بتاريخ: 07 - 12 - 1936 |
هل تقترب نذر الحرب
بقلم باحث دبلوماسي كبير
تتابعت الحوادث الدولية في الأسبوعين الأخيرين بسرعة، وبدت في الأفق أزمات واحتمالات مزعجة يرى فيها المتشائمون نذر الحرب تجتمع وتهيئ الأسباب للاصطدام الخطر؛ ففي أسبانيا تتطور الحوادث تطوراً واضحاً، إذ يقف هجوم الثوار على مدريد، بعد أن كادت تسقط في أيديهم، وترجح قوات الجمهوريين التي تؤيدها نجدات سوفيتية قوية؛ وتسارع إيطاليا وألمانيا إلى الاعتراف بحكومة برجوس (حكومة الثوار) لكي تشد أزر الجنرال فرانكو زعيم الثورة من الوجهة المعنوية، ولكي تسبغ على حكومته صفة الدولة المحاربة فيسهل عليه تلقي النجدات الخارجية بصورة أوسع؛ وقد ظهر أثر هذا التأييد واضحاً في تصرفات الجنرال فرانكو الأخيرة؛ فقد أعلن أنه سيفرض الحصار البحري على شواطئ أسبانيا الشرقية والشمالية، وأنه سيغلق ثغور أسبانيا التي بأيدي الجمهوريين أعني برشلونة وبلنسية واليقنت ومالقة، وأن سفنه ستطلق النار على أية سفينة أجنبية تدخل هذه المياه؛ ووجه الجنرال فرانكو أيضاً إلى فرنسا إنذاراً بطلب الذهب الأسباني الذي سحبه الجمهوريون من بنك أسبانيا، وأودعوه في باريس؛ ومع أن الجنرال فرانكو لا يملك من الوحدات البحرية سوى عدة طرادات صغيرة لا تستطيع أن تضطلع بمثل هذا الحصار الخضم، فان المفهوم أنه سيعول في تنفيذ وعيده على يد الغواصات الإيطالية والألمانية؛ وقد ظهر أثر هذه المعاونة البحرية سريعاً في إصابة الطراد الجمهوري (سيرفانتيس) من مقذوف بحري أطلقته عليه غواصة أجنبية؛ على أن الجنرال فرانكو لم يلبث إزاء موقف إنكلترا وتشددها في عدم اعتبار صفة شرعية لحكومة الثوار، ومطالبتها بالا يتعدى الحصار المياه القومية، أعني مدى الثلاثة أميال المقررة في القانون الدولي، وأن تعين منطقة محايدة لرسو السفن الأجنبية، أن اضطر إلى تعديل موقفه والتسليم بهذه المطالب التي أيدتها إنكلترا بإجراء بعض المناورات البحرية الضخمة في المياه الأسبانية.
وظاهر من هذه الخطوة التي اتخذها الجنرال فرانكو، بتحريض الدول الفاشستية أعني إيطاليا وألمانيا وتأييدها المعنوي والمادي، أنه يقصد وقف المساعدات القوية التي تتلقاه الحكومة الجمهورية من روسيا السوفيتية عن طريق برشلونة وبلنسية، ومطاردة السفن الروسية التي ترد بلا انقطاع إلى هذه المياه مشحونة بالذخائر والمؤن، وهي معاونة كان لها أكبر الأثر في إحباط هجوم الثوار على مدريد، وفشل خطط الجنرال فرانكو فشلاً قد يؤدي إلى انهيار الثورة بصورة نهائية؛ وظاهر أيضاً أن فشل الجنرال فرانكو إنما هو فشل لألمانيا وإيطاليا اللتان تؤيدانه منذ البداية وتمدانه بكل أنواع المعاونة في البر والبحر والهواء؛ ولهذا بادرت الدولتان الفاشستيان إلى الاعتراف بحكومة برجوس ستراً لهذا الفشل، وإلى دفع الجنرال فرانكو إلى إعلان الحصر البحري وتأييده بإرسال الغواصات إلى المياه الأسبانية لمحاولة اعتراض السفن الروسية أو الأجنبية الأخرى التي تحمل الذخائر والمؤن للحكومة الجمهورية.
بيد أنه يشك كثيراً في أن يكون لهذا الإجراء أثره المنشود، ذلك لأن روسيا السوفيتية أبدت أنها لن تعبأ به، وأنها ستقاوم العنف بالعنف إذا اعتدى على سفنها، وما زالت السفن الروسية ترد إلى برشلونة وبلنسية تحرسها وحدات بحرية روسية؛ وهذا مما يجعل الموقف في هذه المياه في منتهى الدقة والخطورة خصوصاً بعد أن ثبت وجود بعض القوات الإيطالية في جزيرة ميورقة تجاه بلنسية، ووجود بعض الطرادات والغواصات الإيطالية في مياهها، هذا فضلا عن أن إنكلترا تهتم بالحالة في تلك المياه اهتماماً شديداً وتجوسها بعض وحدات أسطولها، وكذلك فرنسا، فأن وقوع هذه المياه على مقربة من شواطئها، ثم في طريق الجزائر يحملها على أن تشاطر إنكلترا اهتمامها، وأن ترقب الحالة مع الاستعداد لكل طارئ.
وهكذا نرى هذه المعركة التي تضطرم في الظاهر في أسبانيا بين الجمهورية وخصومها تبدو في صورتها الحقيقية صراعاً بين الفاشستية والديموقراطية حسبما بينا من قبل غير مرة؛ وهي تبدو اليوم في هذه الصورة واضحة تؤيدها الأدلة المادية الظاهرة، فمن وراء الجنرال فرانكو تعمل إيطاليا وألمانيا والبرتغال بصورة منظمة مستمرة؛ وتعمل روسيا السوفيتية لمعاونة حكومة مدريد الجمهورية بكل ما وسعت، وتؤيدها فرنسا وإنكلترا بصورة مستترة؛ وقد شرحنا من قبل ما ترتبه الدول الفاشستية من المطامع والأماني على إضرام نار الحرب الأهلية في أسبانيا بهذه الصورة، والسعي بواسطة الجنرال فرانكو إلى إقامة حكومة فاشستية في أسبانيا تعضد نفوذ إيطاليا وألمانيا في غرب البحر الأبيض المتوسط، وتحقق لهما بعض المغانم الاستعمارية في جزر البليار والكناري، وربما في مراكش الأسبانية؛ وبينا أيضاً ما يحمل الدول الديموقراطية أعني إنكلترا وفرنسا على مقاومة هذه المحاولة وإحباطها؛ وإذا كانت الدولتان الديموقراطيتان لا تعملان لمعاونة أسبانيا بصورة ظاهرة، فأنهما تعتمدان في هذه المعاونة على روسيا، وتؤيدان مساعيها في هذا السبيل؛ وهناك بالأخص نقطة تلفت النظر؛ وهي أن الأسطول الروسي الذي يحمل المؤن والذخيرة إلى حكومة مدريد يسير بعيداً عن قواعده لنجدة الجمهوريين، ويغامر بالظهور في مياه أجنبية، وقد يتعرض لاعتداء الغواصات الألمانية والإيطالية؛ ولكن لا ريب في أن روسيا لا تقدم على مثل هذه المغامرة إلا وهي معتمدة على تفاهمها مع إنكلترا، وعلى حماية الأسطول الإنكليزي وإمكان استخدام المياه الفرنسية لحماية سفنها وقت الخطر.
وقد لاح مدى لحظة أن قوات الجنرال فرانكو تكاد تكتسح كل شيء في طريقها وتستولي على مدريد بأيسر أمر؛ ولكن الحوادث تطورت بسرعة وتحطم هجوم الثوار على مدريد، وبدا التفوق في جانب الجمهوريين واضحاً، وربما كان هذا الفشل مقدمة انهيار الثورة الأسبانية، والخطط الفاشستية التي تؤيدها.
على أن هناك غير حوادث أسبانيا عدة تطورات وحوادث دولية خطيرة أخرى زادت في حرج الموقف ودقته. ذلك أن السياسة الفاشستية نشطت أخيراً إلى مضاعفة جهودها في سبيل تقوية جبهتها ضد أوربا الغربية بوجه عام، وروسيا السوفيتية بوجه خاص؛ فبعد أن عقدت ألمانيا وإيطاليا تحالفهما المعروف ضد (البلشفية)، وبعد أن اتفقتا على تقسيم أوربا الوسطى إلى منطقتي نفوذ سياسي واقتصادي، تتعاونان في استغلالهما وتوجيههما مع اختصاص ألمانيا بالعمل في تشيكوسلوفاكيا، واختصاص إيطاليا بالعمل في المجر، واشتراكهما معاً في العمل في النمسا، فاجأت ألمانيا العالم بعقدها تحالفاً مع اليابان اتخذت مكافحة البلشفية والثورة العالمية التي تعمل روسيا لإضرامها ستاراً له، وهذه الحجة الظاهرة، أعني مكافحة البلشفية هو الشعار الذي تستتر به ألمانيا في سياستها الحالية وتقرنه بالتهويل في وصف الخطر البلشفي ووجوب اتحاد أمم العالم على مقاومته وإنقاذ المدنية من شره؛ بيد أنه يظن أن الاتفاق الألماني الياباني، رغم ما نشر من نصوصه، يبطن تحالفاً عسكرياً سرياً، ويقصد إلى غايات خطيرة أخرى تتلخص في تعاون اليابان وألمانيا على مقاومة روسيا وتهديدها في الشرق الأقصى، وفي أوربا؛ وتدعيم الخطط الاستعمارية اليابانية في الصين والشرق الأقصى، نظير تدعيم الخطط الألمانية العسكرية والاستعمارية في شرق أوربا وفي غربها إذا اقتضى الأمر؛ وبعبارة أخرى يمكن اعتبار التحالف الألماني الياباني رداً على التحالف الفرنسي الروسي الذي اعتبرته ألمانيا موجهاً ضدها.
وقد كان لعقد هذا التحالف الألماني الياباني وقع شديد في أوربا وأمريكا معاً؛ ومع ما قدمته ألمانيا واليابان من الإيضاحات لتخفيف وقع التحالف، فأن الغاية من عقده لم تخف على أحد؛ ولم تقتنع الدول الكبرى بصحة الزعم الذي اتخذ ستاراً لعقده، وهو التعاون على مكافحة البلشفية، لأن البلشفية نظام داخلي يخص روسيا وحدها، وفي وسع الدول التي تخشى من تسربه إليها أن تقاومه داخل أرضها بوسائلها الخاصة؛ ولدى ألمانيا واليابان أشد الوسائل الداخلية لمكافحة البلشفية وغيرها من الأنظمة غير المرغوب فيها؛ وترى إنكلترا وفرنسا وأمريكا في عقد هذا التحالف خطراً على مصالحها في الشرق الأقصى، لأنه يعاون اليابان في تنفيذ خطتها لاستعمار الصين الجنوبية، ويقوى مركزها في المحيط الهادي على حساب أمريكا وإنكلترا، وقد كانت هذه الدول ترى في التوازن الياباني الروسي في الشرق الأقصى نوعاً من الضمان لمصالحها، فإذا قضى على هذا التوازن، واستطاعت اليابان أن تطلق يدها في شؤون الشرق الأقصى اعتمادا على انشغال روسيا بحماية حدودها الغربية من مطامع ألمانيا، أصبح التفوق الياباني خطراً على مصالح الدول الغربية وسيادة أمريكا في المحيط الهادي.
والظاهر أن ألمانيا تحاول أن تحشد في هذه الجبهة الجديدة كل الدول التي تميل إلى التعاون معها وفي مقدمتها إيطاليا، وهي تعمل لذلك الغرض بنشاط مضاعف؛ ومن المشكوك فيه أن تستطيع ألمانيا أن تحشد في تلك الجبهة الشرقية دولاً أخرى، وإن كانت إيطاليا تميل إلى تأييدها من الوجهة المعنوية، لأن إيطاليا مع صفتها الفاشستية العميقة لا تذهب في خصومة روسيا إلى الحد الذي تذهب إليه ألمانيا، والواقع أنه إذا كانت ألمانيا قد استطاعت بتحالفها مع اليابان أن تقوي مركزها ضد روسيا السوفيتية فإنها قد أثارت بعقده في نفس الوقت شكوكاً ومخاوف جديدة، ففرنسا وروسيا تريان فيه خطراً جديداً عليهما يجب أن يقابل بمضاعفة الجهود في التسليح والاستعداد، وإنكلترا وأمريكا تتوجسان شراً من تطور الأحوال في الشرق الأقصى تطوراً قد يضطرهما إلى العمل لصون مصالحهما؛ فهذه الظروف مع ازدياد الشك في نيات ألمانيا ومطامعها العسكرية والاستعمارية يثير حول سياستها ريباً ما كان أغناها عن إثارتها، ويجعل مزايا التحالف الجديد ضئيلة بالقياس إلى ما أحدثه من رد فعل عميق.
هذا، ومن جهة أخرى فأنه مهما كانت مزايا هذا التحالف من الوجهة العسكرية، فان الدول التي تقصدها ألمانيا بعقده، وهي فرنسا وروسيا، هما الآن أعظم الدول استعداداً من الوجهة العسكرية، وكلتاهما تتمتع بتنظيمات دفاعية وموارد عسكرية هائلة، ومهما قيل في استعداد ألمانيا الحربي من الوجهة الفنية، فإنها فقيرة في المال والمواد الأولية؛ وفرنسا تعني بمضاعفة جهودها في التسلح والدفاع ولا سيما في الأشهر الأخيرة التي ظهرت فيها ألمانيا بمظهر الوعيد والتحدي؛ وكذا روسيا فإنها مذ أدركت خطر السياسة النازية العسكرية على حدودها الغربية، انضمت إلى جبهة الدول الغربية، وعقدت ميثاق التحالف مع فرنسا؛ وفرنسا لا يمكن أن تترك روسيا وحيدة إذا هاجمتها ألمانيا، لأن بقاء روسيا قوية سليمة مما يهم فرنسا كضمان لسلامتها؛ وعلى ذلك، فإذا اندفعت ألمانيا في سياستها العسكرية الخطرة، وعملت على إثارة الحرب في شرق أوربا بصورة من الصور، فلا ريب أن الحرب ستقع أيضاً في غرب أوربا، وعندئذ تقع حرب عالمية أخرى.
والخلاصة أن الأفق الدولية مثقل بالسحب؛ ومما يلفت النظر في ذلك كله أن الفاشستية تلعب في إثارة هذه الأزمة الدولية الدقيقة أكبر دور، ولا تحجم عن تغذية الاتجاهات والشهوات العسكرية الخطرة بكل ما وسعت؛ وقد شرحنا في مقال سابق ما تنطوي عليه سياسة الدول الفاشستية، أعني ألمانيا وإيطاليا، من المغامرة وقصر النظر، وبينا أن الخطر على سلام أوربا وسلام العالم يرجع قبل كل شيء إلى هذه السياسة الخطرة. بيد أنه مما يبعث إلى نوع من الطمأنينة أن تكون الدول الغربية، أعني فرنسا وبريطانيا العظمى قد فطنتا إلى الخطر في الوقت المناسب، واستطاعتا أن تصلا في تحقيق التسليح والتنظيمات الدفاعية إلى حدود بعيدة؛ فإذا أضفنا إلى ذلك أن كفة روسيا إنما هي دائماً مع الدول الغربية، فأن مما يشك فيه أن تذهب الفاشستية الصاخبة إلى المغامرة بإثارة حرب تلقى فيها مثل هذه القوى الساحقة؛ وإذا كان ثمة سحب وأزمات خطيرة تكدر أفق السياسة الدولية، فلسنا مع ذلك نذهب مع المتشائمين إلى حد الاعتقاد بأنها نذر الحرب، وأن الحرب قد غدت على وشك الاضطرام.
(* * *)