مجلة الرسالة/العدد 178/قصة المكروب كيف كشفه رجاله
→ إلى من يسمع!. . . | مجلة الرسالة - العدد 178 قصة المكروب كيف كشفه رجاله [[مؤلف:|]] |
شخصية ناقدة يهملها النقد العربي ← |
بتاريخ: 30 - 11 - 1936 |
ترجمة الدكتور أحمد زكي
مدير مصلحة الكيمياء
وسطاء شرّ أبرياء
هذه قصة ثِيُوبُلْد اسميث. قصة الرجل الذي قاد الإنسانية فمالت معه حيث مال إلى طريق جديد طلع عليها بأمل جديد. كان أولَ أمريكي سبق إلى كشف المكروب، ولم يلحق بغباره إلى الآن منهم لاحق. أخذ يتشمّم الأرض يطلب غاية، ويستتبع أثراً يقود إلى عين، وأفاد في تتبعه هذا من رأى رآه الفلاحون، وظِنّة قال بها بسطاء المزارعين، فلم يلبث بواسطتها أن أطّلع من بحوثه على كل عجيبة غريبة. فهذه القصة ستنبئك بالذي اطّلع عليه اسميث، وبالذي وجده من بعده من تعقّبوا آثاره.
(أن في استطاعة الإنسان أن يمحو كل داء وبئ من على وجه الأرض). هكذا قال بستور وبهذا تنبّأ وهو مفلوج بعد نُصْرته المعهودة على داء دودة القزّ التي أكسبته ذكراً وأنالته مجداً. ولعلك تذكر بأية قوة وأية حرارة ألقى هذا الأمل في الناس، حتى لحسبوا أن الداءات المعْديات لا يهلّ عليها العام القابل أو على الأكثر الذي يليه حتى تكون خبراً يُرَوى. واطمأن الناس لقوله واستبشروا وأخذوا يرقبون ما تأتي به الأيام. . . وأخترع بستور الألقحة فهتفوا له عالياً، وكانت هذه الألقحة لا شك بدائع عجيبةً رائعة، ولكنك لا تستطيع القول أنها كانت لاستئصال المكروب من على ظهر البسيطة. وجاء من بعد بستور كوخُ فأدهش الناس وأفزع عندما لعب بجرثومة السل المخُوفة حتى وجدها. ولم يكن كوخ أسرف في وعوده، ولكن وعود بستور كان صداها يرن في الآذان، فرفع الناس أبصارهم إلى كوخ ينتظرون امّحاء السلّ على يديه. وجاء رو، وجاء بارنج، واشتبكا والدفتريا في معركة حامية دامية دامت سنين، هَدْهدت أثناءها الأمهات أطفالهن المناكيد، وغنّتهم أغاني آملةً، راجيةً تَعِلّةً ومصابرةً عسى يسبق العلمُ بالشفاء أيامَهم الباقية المعدودة. وجاء متشنيكوف، ومن الناس مَن ضحك منه، ولكن حتى هؤلاء أضمروا في الخلفاء أملاً قليلاً علّ الأقدار تُتيح له برغم ثرثرته أن يُعلّم فاجوساته أكل جراثيم الأرض جميعاً نعم أخذت وطأة الأمراض لسبب مجهول تخف على ما أحسِب، ولكن لم يظهر عليها أنها تنوي الرحيل وتستعجل الفراق الذي أمّله الناس، فخاب ظنهم وظلّوا على أملهم يرتقبون
ولم يطل ترقّبهم، فالزمان الذي يجود بالرجال الفينة بعد الفينة جاد لهم وهم في أزمتهم هذه برجل جديد شاب، اسمه ليوبلد إسميث ظهر في أمريكا في أوائل عشر السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر؛ وحكاية ذلك أن الأبقار في شمال أمريكا الشمالية كانت تُرسل جنوباً فلا تلبث أن تستقر هناك حتى تأتيها حُمىّ تعرف بالتِّكساسية فتمرض وتموت. وكذلك كانت تُرسَل الأبقار من الجنوب إلى الشمال وهي صحيحة سليمة فكانت كأنما تبذر على أرضه حيثما وطئت بذوراً للموت تفتك بالأبقار الشمالية فتكاً ذريعاً. فجاء اسميث وفسر هذا وهذا، وكتب في عام 1893 تقريراً بيّناً كشف للناس فيه سر هذه الظاهرة الغامضة، وسلك به أقوم الطرق وأخصرها، ولم يكن فيه طنطنة ونفخ أبواق، وهو لا يُشتري الآن لنفاد طبعته. فهذا التقرير أوحى إلى قُنّاص المكروب الذين أتوا من بعده بالشيء الكثير: فأوحى بفكرة بديعة إلى الفخور الصخاب دافيد بروس وبلمحات من اقتراحات نافعة إلى باتريك منسون ومسَّ بقبَسه رأس العبقري الطلياني الغضوب جراسي فجرت النار في أفكاره اشتعالاً. والأمريكي ولتر ريد ملأه هذا التقرير ثقة، وملأ كذلك رجاله الأبطال من عساكر وضباط، فقاموا بمغامراتهم الخطيرة في اطمئنان كبير، ورفضوا زيادة في الرواتب وآثروا عليها الشهادة والتضحية في سبيل العلم.
فأي رجل كان إسميث هذا الذي يجهله الأمريكيون إلا آلافا قليلة؟ وكيف أن كشفا له عن مرض في بقرة استطاع أن يحرّك في البشر كل هذه الآمال والأحلام؟ وما منطق الريفيين هذا الذي ابتدأ به اسميث فحققه وأثبته، والذي من جرّائه استطاع أن ينير للبحاث من بعده الطريق التي يسلكونها ليحققوا بها أمل البشرية المنشود، ووعدها الأكبر الخلوب الذي وعدها إياه بستور؟
في عام 1884 كان إسميث في نحو الخامسة والعشرين من عمره، وكان نال درجة بكالوريوس في الفلسفة من جامعة كُرنيل وكان نال درجة دكتور في الطب من كلية أَلَبنِي ولكنه كره أن يقضي حياته في تشخيص أمراض يلبس لها وجهَ الجادّ العابس وهو يعلم أن لا رجاء في شفائها، وأن يُذبل زهرة أيامه في بذل الطمأنينة والسلوى والكلام الحلو الراجي لمرضى بني الناس عوضاً عن بذل العلاج الناجح الذي لا يعرف له وجودا. واختصاراً تراءى له الطب والطِّبابة أنهما عمل مهوّش لا يستقيم مع العقل السليم. وأحب أن يضرب في المجهول قليلاً ليعلم من خفاياه قدراً يستطيع حمله فلا ينوء به ظهره، أو يُتخَم به عقله. كان طبيباً ولكنه شاء برغم هذا أن يكون باحثاً، ورغب بخاصة إلى دراسة المكروب. وكان قد عُنِي وهو في كُرنيل باللعب على الأرغون، لَعِبَ عليه المزامير وقطعاً من بيتهوفن (ولم يكن جاء زمن الجازباند). وفي كرنيل في جامعتها عبّ عبّة طيبة من الرياضيات ومن علم الفيزياء ومن اللغة الألمانية، وبخاصة أشتد ميله إلى النظر في المكرسكوبات، ولعله عندئذ نظر أول مكروبة رآها.
ولكنه لما جاء مدرسة الطب في ألْبَني لم يجد في أساتذتها اهتمامابالمكروبات، فلم يكن هذا العهد يَعْمدون في شفاء الأمراض إلى قتل الجراثيم. ولم يكن في المدرسة برنامج لدراستها، بل لم يكن في أي مدرسة طبية بأمريكا شيء من هذا، وأراد أن يتعلم علم الجرثوم برغم كل هذا، وكان لا يأبه لألوان العرفان التي كانت تتعاطاها الجمهرة من طلاب الطب، وكان يحتقر التخرّصات والأكاذيب التي يسبلون عليها رداء العلم. وأشبع هَوِيَّته يبحث أحشاء القطط بحثاً مكرسكوبياً، ونشر أول رسالة له في ذلك، وفيها أبان اختلافاً للطبيعة خرجت بها في أعماق بطون القطط عن المألوف الذي درجت عليه في سائر الأحياء، وعلق عليها حواشي دلّت على الفطنة وحدة في الذهن شديدة، وكانت أول عمل دخل بفضله في زمرة البحّاث.
ونال درجته الجامعية، وأراد أن يتخذ التجريب العلمي صناعته، ولكن تحتّم عليه قبل ذلك وفوق ذلك أن يرتزق ليعيش. وكان في هذا الوقت كثير من أطباء أمريكا الأحداث يتسابقون إلى أوروبا، إلى الأستاذ الكبير كوخ يودون أن تتاح لهم الفرصة ليقفوا وراء ظهره، ويتعلموا من فوق كتفه كيف يصنع البِشلاّت وكيف يُربيها صريحة، وكيف يضربها بالمحاقن تحت جلود الحيوانات، وكيف يستطيعون من بعد ذلك أن يتحدثوا عن المكروبات حديث الخبير الضليع. ورغب إسميث أن يتبعهم، ولكن تحتم عليه أن يبحث عن وظيفة ليعيش. ورحل هؤلاء الأطباء الشبان الأثرياء إلى أوروبا، وبينما هم يأخذون من العلم الجديد بمبادئه الأولى، وبينما هم يوشكون من أجل ذلك أن يقعوا على مناصب أستاذيات في العلم هامة، وقع إسميث على وظيفته التي طلب. وكان منصباً وضيعاً هذا الذي ناله؛ ومن وجهة العلم لم يكن منصباً محترماً، فقد تعين في مكتب إصلاح الماشية والحيوان بواشنطن ولم يكن عندئذ إلا مكتباً صغيرا حقيرا فقيرا لا يكاد يأبه له أحد. وكان في المكتب من المستخدمين ثلاثة غير اسميث، وكان على رأسهم رجل طيب يُدْعى سلمون كان كثير الاهتمام بما عسى أن تصنعه الجراثيم من السوء للأبقار، مؤمناً شديد الأيمان بخطر البشِلاّت على الخنازير، ولكنه جهل كل الجهل كيف يتصيد المكروبات التي تعيث في هذه الماشية الثمينة. وكان في المكتب السيد كلبورن وكان يحمل درجة بكالوريوس في الزراعة ويغتبط بها، وكان يعرف بعض الشيء في البيطرة، وهو الآن يتاجر في الصيني وما إليه بمكان قريب من نيويورك. وكان ثالثَ الثلاثة في المكتب رجلٌ جسيم مَهيب عتيق أسود كان عبداً فأُعتق، وكان أسمه اسكندر، وكان يجلس حيثما جلس رزينا وقورا ساكنا حتى يُحرَّك، فيقوم إلى القّنينات القذرة فيغسلها، أو إلى الخنازير الغينية فيُعنى بها.
وبدأ اسميث في صيادة المكروب في حجرة في ذروة بيت حكوميّ أضاءها شباك واحد مفتوح في سقف البيت. بدأ في صيادة المكروب، فبدأ عمله الأوفق الذي هيأته الطبيعة له. وجاءته هذه الصيادة سلسلة منقادة فكأنما ولدته أمه وبيمينه مِحقَن وبفمه عود من البلاتين. وعلى الرغم من أنه خريج جامعة فقد كان يقرأ اللغة الألمانية قراءة جيدة، فكان في الليل يعتكف إلى دراسة ما صنع كوخ من المكروبات وصار يعبّ من مآثره العلمية المجيدة عباً. وكان كالبُطَيطة نزلت في الماء لأول مرة. فأخذ يفعل بالتفصيل كل ما فعله كوخ من قبله ويقلده تقليداً ويتبع طرائقه اللبقة في تربية الجرثوم واقتناص البشلات وتلك الخلائق العجيبة الأخرى التي تسبح في الماء انفتالا كأنما هي بَريمة الفلين جرت فيها الحياة. قال: (إن كل ما صنعت مرجعه إلى كوخ)، وتصور كوخ في بعده وعبقريته شيئاً سماويا قدسيا.
وعَمِل في حجرته السقفيّة بلا هوادة ولا حسبان لضعف جسمه، وقام على صيادة المكروب كل يومه وطرفا من ليله. وكانت له أنامل دقيقة متِّزنة كأنامل الموسيقى فساعدته على غَلْي الأحسية فندر انكبابها في يديه. وكانت إلى جانب حجرته حجرة أخرى يُختزن فيها المتاع الخسيس، وكان يخرج منها إليه قُطُر من الصراصير لا تنقطع فيتلهى في أوقات فراغه بدقّها. وفي وقت قصير بالغ القصر علّم نفسه كل ما يتطلبه البحث، ثم بدأ يكتشف الكشوفات على حذر، فاكتشف لقاحا غريباً مأموناً، لا يحتوي على البشلات نفسها، ولكن على عصاراتها الزلالية التي تُبتزّ منها اعتصارا وترشيحا. واشتد الحر في غرفته فزاد على حر المدينة وهي جهنم الحمراء، ولكنه احتمل هذا ومسح العرق المتقطّر من أنفه، وظل يعمل على أسلوب كوخ الأدقّ الأحذر، ونبا به طبعه عن أسلوب بستور الأخشن وطرائقه الفضفاضة.
(يتبع)
أحمد زكي