مجلة الرسالة/العدد 177/هكذا قال زرادشت
→ تأريخ العرب الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 177 هكذا قال زرادشت [[مؤلف:|]] |
على شواطئ البسفور ← |
بتاريخ: 23 - 11 - 1936 |
للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه
ترجمة الأستاذ فليكس فارس الشبلي
- 3 -
- 7 -
وأمسى المساء مرخياً سدوله على الساحة فتفرق عنها المتفرجون وقد أرهقهم الفضول والرعب، وبقى زارا جالساً على الأرض قرب الميت فاستغرق في تفكيره ناسياً مرور الزمان حتى هبت نفحات الليل عليه منفرداً، فناجى نفسه قائلاً:
لقد كان صيدك موفقاً اليوم يا زارا! لقد أفلت الناس منك فاصطدت جثة هامدة.
إن حياة الإنسان محفوفة بالأخطار، وهي فوق ذلك لا معنى لها. . . فأن مهرجاً يمكن أن يقضي عليها.
أريد أن أُعلم الناس معنى وجودهم ليدركوا أن الإنسان الكامل إنما هو البرق الساطع من الغيوم السوداء من الإنسان.
ولكنني لم أزل بعيداً عن هؤلاء الناس وفكرتي بعيدة عن مداركهم، فأنا لم أزل متوسطاً المدى بين مجنون وجثة هامدة.
إن الليل مظلم ومسالك زارا مظلمة أيضاً. تعال أيها الرفيق المتيبس في حقيبته! إنني ذاهب بك إلى حيث أواريك التراب بيدي.
- 8 -
ورفع زارا الجثة على كاهله ومشى، ولكنه ما قطع مائة خطوة حتى زحمه رجل؛ وما كان هذا الرجل إلا مهرج البرج، فأسرّ إليه في أذنه:
- أذهب من هذه المدينة يا زارا فأن مبغضيك فيها كثيرون. هنا يكرهك أهل الصلاح والعدل، فيصفونك بالعدو والمزدري، ويكرهك المؤمنون بالدين الحق فيرون بك خطراً على عامة الناس، وقد كان من حظك أن هزأ الحشد بك لأنك كنت تتكلم كالمهرجين، وكان من حظك أيضاً أن اشتركت والكلب الميت، فقد كان خلاصك هذه المرة في إسفافك إلى المهاوي، ولكنك لم تسلم في الثانية فأذهب من هذه المدينة وإلا فأنني قافز غداً فوق جثة أخرى.
قال الرجل هذا وتوارى وتابع زارا سيره في الشوارع المظلمة. ولما بلغ باب المدينة التقى حُفّار القبور فوجهوا إلى رأسه أشعة مصابيحهم وإذ عرفوا فيه زارا أشبعوه سخرية وهزءاً وقالوا:
- مرحى يا زارا! لقد صرت الآن حفاراً للقبور؛ إنك تحمل الكلب الميت. لقد أحسنت، فأن أيدينا أطهر من أن تدنس بجثته. أتريد يا زارا أن تختلس من الشيطان طعامه؟ كل هنيئاً! ولكن الشيطان أمهر منك، ولعله يسرقكما كليكما فيلتهمكما التهاماً.
ودار حفار القبور بزارا يتفرسون فيه. أما هو فلزم الصمت وسار في طريقه. وبعد أن مشى ساعتين يقطع الأحراج والمستنقعات، شعر بالجوع لكثرة ما عوت حوله الذئاب الجائعة، فوقف أمام بيت منفرد لاحت له الأنوار من نوافذه. وقال: لقد عضني الجوع وداهمني كاللص بين الأحراج في الليل البهيم.
إن لجوعي نزوات مستغربة وقد يداهمني حتى بعد الطعام، ولكنه اليوم ندّ عني منذ الصباح حتى المساء فأين كان هذا الجوع؟
وطرق زارا باب البيت فظهر له منه شيخ يحمل مشعلاً، وقال له: من الآتي إلي وإلى رقادي المضطرب؟
فأجاب زارا: أتيناك أثنين حي وميت، أعطني مأكلاً ومشرباً فقد نسيت الغذاء النهار بطوله، إن من يشبع الجياع يولي نفسه قوة، هكذا قالت الحكمة.
فغاب الشيخ وعاد بخبز وخمر وقال:
- إنها لأماكن موحشة للجياع، ذلك ما دعاني إلى السكن هنا حيث يهرع إلي البشر والحيوان في وحدتي. أفلا تدعو رفيقك ليأكل ويشرب معك فهو أشد تعباً منك.
فقال زارا: إن رفيقي ميت ولا يسهل علي إقناعه بتناول الطعام.
فتمتم الشيخ: ذلك لا يهمني؛ إن من يطرق بابي عليه أن يأخذ ما أقدمه له. كلوا هنيئاً.
وعاد زارا إلى السير فمشى ساعتين أيضاً وهو يهتدي إلى رسوم الطريق بنور النجوم، وقد كان معتاداً السري ويجب أن يتفرس في كل شيء راقه. وعندما لا ح الصباح كان زارا وصل إلى غابة كثيفة حيث انقطع كل طريق أمامه، فتوقف ووضع الجثة في فراغ شجرة حواها حتى رأسها ليقيها هجمات الذئاب، ورقد بعد ذلك متوسداً نبات الأرض وما عتم حتى استغرق في نومه منهوك الجسم مرتاح الضمير.
- 9 -
وطال نوم زارا حتى غمرت وجهه أنوار الضحى بعد أن داعبته تباشير الفجر ففتح عينيه مبهوتاً وسرح أبصاره على الغاب ثم حولها يستكشف نفسه ساكناً مستغرباً.
وهب من مجلسه فجأة كما يهب الملاح تبدو لعينه الأرض، فهتف وقد هزه المرح لأنه اكتشف حقيقة جديدة فخاطب قلبه قائلاً
لقد انفتحت عيناي. إنني بحاجة إلى رفاق أحياء لا إلى رفاق أموات وجثثٍ أحملهم إلى حيث أريد.
إنني أطلب رفاقاً أحياء ليتبعوني لأنهم يريدون أن يتبعوا أنفسهم أيان توجهت.
لقد انفتحت عيناي، ليس على زارا أن يخاطب جماعات بل عليه أن يخاطب رفاقاً، يجب ألا يكون زارا راعياً للقطيع وكلباً له.
إنني ما جئت إلا لأخلص خرافاً عديدة من القطيع، وسوف يتمرد الشعب والقطيع عليّ. إن زارا يريد أن يعامله الرعاة معاملتهم للصوص.
قلت رعاة غير أنهم يدعون بالصالحين والعادلين. قلت رعاة غير أنهم يدعون بالمؤمنين بالدين الحق.
انظروا إلى أهل الصلاح والعدل لتعلموا من هو ألدّ أعدائهم، أنه من يحطم الألواح التي حفروا عليها سننهم ذلك هو الهدام ذلك هو المجرم - غير أنه هو المبدع.
انظروا إلى المؤمنين بجميع المعتقدات تعلموا من هو ألدّ أعدائهم إنه من يحطم الألواح التي حفروا عليها سننهم، ذلك هو الهدام، ذلك هو الجرم غير أنه هو المبدع.
إليّ بالرفاق. أنني أطلبهم مبدعين ولا أطلبهم جثثاً وقطعاناً ومؤمنين.
إن البدع لا يتخذ له رفاقاً إلا من كانوا مثله مبدعين، إنه يتخذهم ممن يحفرون سنناً جديدة على ألواح جديدة.
إن من يطلب المبدع إنما هم الحصّاد يعاونونه في الحصاد لأن كل شيء قد أصبح في عينه ناضجاً للحصاد، ولكن المائة منجل ليست بين يديه فهو يتميز غضباً ويقتلع السنابل من أصولها.
إن المبدع يطلب رفاقاً له بين من يعرفون أن يشحذوا مناجلهم، وسوف يدعوهم الناس هدّامين ومستهزئين بالخير والشر، غير أنهم يكونون هم الحاصدين والمحتفلين بالعيد.
إن زارا يطلب من كانوا مثله مبدعين يشاركونه في الحصاد وفي الراحة فلا حاجة له بالقطعان والرعاة وأشلاء الأموات.
وأنت يا رفيقي الأول، أرقد بسلام لقد أحسنت دفنك في فراغ الشجرة ووقيتك افتراس الذئاب.
غير أنني سأفترق عنك لأن الزمان قد مر سريعاً، وقد انبثقت حقيقة جديدة في أفق نفسي ما بين فجرين.
لن أكون راعياً، ولن أكون حفار قبور، ولسوف لا أقف بعد الآن في الجماعات خطيباً فقد وجهت آخر حظي إلى ميت.
أريد أن أنظم إلى المبدعين، إلى أولئك الذين يحصدون ويرتاحون فأريهم قوس قزح والمراتب التي يرقاها الواصلون إلى الإنسانية الكاملة.
سأهتف بنشيدي للمعتزلين ولمن يشعر بمثنويته في انفراده أنني سأملأ بغبطتي قلب كل من له أذاناً تصغيان إلى ما لم تسمعه أذن بعد.
أنني أسير إلى هدفي وأتبع طريقي فأقفز فوق المترددين والمتأخرين، وهكذا سيكون سيرى جنوحاً إلى الغروب.
- 10 -
وكان زارا يناجي نفسه بهذا القول والشمس في الهاجرة وإذا به يسمع صوتاً جارحاً في الفضاء ولاح له نسر يعقد حلقات في طيرانه وقد تعلقت به أفعى وما كان يقبض عليها بمخلبيه كفريسة، بل كانت ملتفة حول عنقه التفاف المحب.
فهتف زارا والحبور يملأ فؤاده: هذان نسري وأفعاي، فهو أشد الحيوانات افتخاراً، وهي أشدها مكراً تحت الشمس؛ وكلاهما ذاهبان مستكشفين في الفضاء ليعلما ما إذا كان زارا لم يزل في الحياة، فهل أنا لم أزل حياً بعد؟ لقد اعترضني من المخاطر بين الناس ما لم أجد مثله بين الحيوانات؛ إنني أتبع السبل المخطرة فلأقتدين بنسري وأفعاي.
وتذكر زارا حينئذ القديس المنعزل في الغاب فتنهد وقال:
لأكونن أوفر؛ حكمة لأكونن ماكراً كأفعاي؛ غير أنني أطلب المستحيل لذلك أتوسل إلى افتخاري أن يلازم حكمتي ولا ينفصل عنها.
وإذا ما تخلت حكمتي عني يوماً وهي تتوق إلى الطيران وا أسفاه فأنني أرجو أن يطير افتخاري مستصحباً جنوني.
وهكذا بدا جنوح زارا إلى المغيب.
(يتبع)
فليكس فارس