مجلة الرسالة/العدد 177/القصص
→ في شعاع الفجر | مجلة الرسالة - العدد 177 القصص [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 23 - 11 - 1936 |
تذكرة سفر من طنطا إلى سقر
للأستاذ إبراهيم جلال بك وكيل محكمة الزقازيق الأهلية
كان بإحدى ضواحي مدينة طنطا قروي له فتيان أحدهما جميل المحيا، مفتول العضل، تام الرجولة، كأبيه في الاستقامة والدأب على حرث الحقل ورعاية الماشية واسمه حسن. أما الآخر واسمه يونس فكان على نقيض أخيه، خامل الذكر، دائم التلهي بمعاكسة جيرانه، يسد مسيل الماء عنهم، ويسرق أمطار الذرة، ويسلبهم دجاجهم وسائر ما يكنزون.
وكان أبوهما مصطفى كهلاً أرمل، ولكنه عرف بالنجدة وصلابة العود، قد أخرجته الجندية متين البدن، وأكسبته سكنى المروج الخضر حدة في البصر.
وماتت زوجته والغلامان في الطفولة الأولى، وكان قد أدخر بقية من نقود الجندية فابتاع بها حقلاً زرعه نصف فدان وأحسن القيام عليه حرثاً وإنباتاً، وأقام تحت ظلال صفصافه عالية كوخاً صغيراً وسد به الحشائش الجافة وأضجع فيه طفليه واتخذ حوله سياجاً من قصب الذرة، ومهّد في ناحية من السياج مناخاً للدواب أسكن به شاة ذات أحمال وعنزات صغار. وكان الشيخ قد عرف بحسن الرماية وإحكامها من عهد أن كان في مصاف الجيش، ولديه قلائد الشرف حازها بحسن بلائه وبسالته في فتوح السودان. وقد رآه أهل القرية غداة العيد يحمل تلك القلائد ويخطر في الدرب عند باب العمدة كما شهد له العمدة بحسن السمت حين حياه مسلماً في أدب الجند وسكينتهم، وحين تناول قدح القهوة ثم أنقلب إلى كوخه الصغير بين غلاميه وماشيته.
وكان مصطفى قد اتخذ لنفسه محراباً للعبادة في ظل تلك الشجرة، فإذا أنشق الغسق عن غرة الفجر قام إلى قناة الماء فاغتسل ثم جثا في المحراب بقلب سليم، وكان هذا حاله في المواقيت الخمسة.
فكان الله في عونه حتى ترعرع الغلامان، وجاوز حسن سن الخامسة عشر ولحق به أخوه يونس، وزكا الزرع ودر الضرع وسال النضار بكف الشيخ مسيل الماء في حقله، فلم تطغه إخلاف الرزق وسعة العيش، وعكف على تثقيف ولديه في مكتب القرية، فحذق حسن فن الكتابة والحساب؛ أما أخوه فكان غافل اللب، ينسل من المكتب مع رفقة له فيتسكعون في دروب القرية حتى خرج غراً جاهلاً لا يحسن شيئاً، ولم تجد فيه نصائح أبيه الشيخ، ولا نالت منه سياط التأديب ولا وجيفة القيد؛ فكان يفر من الكوخ ويبيت ليله بالعراء. وكان حسن يتميز رحمة وحناناً بيونس؛ وكم كان يتقي بساعديه سياط أبيه ويقاسم أخاه بلاء التأديب.
وطرقهم طارق بليل، وكانت ليلة قرها زمهرير وريحها عاصف، فهرت كلابهم بباب الكوخ ونهض الشيخ إلى غدارة له بالجدار عامرة بأسباب الموت. وكان حسن قد نما عوده، واستقام كاهلاه كأحسن ما تقوم أبدان الرجال، فتصدى لأبيه وتناول منه آلة الموت، وخرج إلى الفناء وأبوه يرقبه بعيني صقر وبيده هراوة.
ورأى حسن شبحاً قد التقط حملين من الخراف، وتجاوز السياج بهما فانطلق في أثره حتى حازاه، وسدد إليه القذيفة، ولكنه تعرف السارق في عدوه، ولمح من وميض الأفق تصاوير بدنه، فالقى الغدارة ولحق به؛ وصحت فراسته فقد كان أخاه يونس. وقال له حسن خل الخراف لئلا يلحق بنا أبوك فأن بيده الهراوة. ورفض يونس صاخباً؛ وتعاقد الأخوان بالأيدي، وطعن قابيل هابيل وفر بالخراف. وجاء الشيخ يشتد وبيده آلة الموت التي رماها حسن، وجثا بجانب الجريح وقال له: عجيب أمرك والله! كيف تلقي عنك سلاحك ثم تذهب إلى اللص أعزل؟ ومسح الشيخ مقلتيه وحدق في شبح السارق، ثم بسط الغدارة على تلك السواعد الخالدة وهم بإطلاق القذيفة لولا أن قام إليه حسن وانكفأ على صدره، فطاشت القذيفة ونجا يونس وخلف الخراف. وشفى الله الجريح ورده إلى أبيه فلاحاً كادحاً زينة الغلمان حماة الفؤوس.
واستبان الشيخ أن سارق الليل كان يونس.
وجاء عيد الأضحى فنحر مصطفى كبشاً، وجاد بأكثره على الأيامى من عجائز القرية وضعاف أهل السبيل، ثم جلس مع ابنه حسن يأكلان شواء وثريداً.
وقال الغلام لأبيه: يا أبت أني راحل إلى مصر غداً إن شاء الله، فقد أنقصوا أجرة السفر كرامة لهذا العيد. فقال الشيخ يا بني أني لأجد في سفرك هذا خفوقاً بين أضالعي لا أدري والله له علة ولا سبباً.
وانطوى النهار وجاء الغد، فخرج الشيخ يشيع غلامه إلى المدينة، ودخلا المسجد الأحمدي، وطافا حرمه مع الطائفين من أهل القرية، وصلى الناس الظهيرة مهللين مكبرين، ثم قاموا إلى المحطة، أما مصطفى فأنه تناول جبين ابنه لثماً وزفر أنفاساً محزونة ثم توارى.
ورأى حسن في غمار الناس أخاه يونس يرفس في أطماره ويزوي مسكنه وفاقة، وقد غارت عيناه بين غضون الشقاء والاغتراب.
وتعانق الأخوان، وناح يونس من كبد نادمة موجعة، ونسى حسن جراحه السالفة وما فعل قابيل به وقال: (لا عليك يا أخي! وابتاع تذكرتين وحمل إلى أخيه قرصين من خبز السميذ).
واستقر الناس في العربات في حلل العيد وحولهم قدورهم وحلواهم، وأخليت مساند القرية للشيوخ، أما الولدان والرضع فركبوا كواهل الآباء وحجور الأمهات.
وتوالى ولوج هذا الركب المنكود بأفنية العربات، وامتد مصافهم إلى السقف، حتى لقد أسبلوا من أبدانهم ستراً كثيفاً على النوافذ. وكرت العربات في إثر القاطرة تهب الأرض وركبها لاه يرى انطواء الحقول والضياع والقرى كالصحف المصورة بيد الطفل ينشرها ويطويها.
وكان ذلك قدراً محتوماً وإن كان مكتوماً، فنزل بالركب المسافر موت فات الذين نوعوا أسباب الموت، وغاب بهم الحساب عن الذين يعدون على الأيام أنواع البلاء وألوان العذاب.
ذلك أن سعيراً من وقود جهنم فار من موطئ الأقدام وجوف العربات كما فار الطوفان من أغوار مدينة نوح.
وما كان الركب إلا أهل الفاقة والمسكنة عبيد الضائقة المالية قد ذهب رب الحقل بما أنبتوا من قطن وبر، ومشت الحكومة بماشيتهم في الخراج. ولو كانت العربات مفضية إلى بعضها لسارع الناس بالنجاة من باب إلى باب وخلفوا النار تأكل بعضها، ولكنها يا للحسرة الفاجعة، كانت عليهم موصدة في عمد ممددة.
وكشفت نوافذ العربة لمن يرجوا النجاة وثباً، فتقاطر كل مقبل على موت ليختار أحد السبيلين أيهما أهون عذاباً. أغمرة الإحراق، أم دق الأعناق؟ ورأى أهل القرى والحقول ضرام النار في أتونها المستعر، وها لهم ضجيج الوقود البشري، وجن جنونهم لغفلة السائق واندفاعه بقاطرته كعجلات الرومان الأولى نيط بها الأسرى في أغلالهم، وحمل الموتى إلى مدينة بنها، وعرضوا في فناء المستشفى وأسعف الذين بهم رمق.
وصاح النعاة بأهل القرى فأقبل الشيخ الفاني مصطفى مخذول الساقين، زائغ البصر، لا يدري ما كتب لولده حسن؛ ودخل فناء المستشفى في مشيخة من قريته، فعرف الناس موتاهم وعلا النحيب من اليتيم والأرمل والثكلى. أما مصطفى فقد دلف إلى الأشلاء حبواً وكف بصره بدمع يحرق الأديم، وأراد أن يرى بعينه مبلغ الكارثة من فؤاده.
فلمح ولده العائق يونس قائماً يبكي وحول ساعديه العصائب وعلى صدره اللفائف، وقد نشر رداءه على جسد أخيه حسن يحاول أن يخفيه عن بصر الشيخ المفجوع، ولكن الشيخ رأى بالبصيرة ما لم يره البصر!!
إبراهيم جلال