مجلة الرسالة/العدد 176/مشروع خطير
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 176 مشروع خطير [[مؤلف:|]] |
القلب المسكين ← |
بتاريخ: 16 - 11 - 1936 |
تطعيم الأدب العربي
كانت اللغة العربية في عصر من عصورها مجمع الثقافات، وملتقى المدنيات، ومنتهى الألسن؛ وكان الأدب العربي في حدود مراميه التعبير العام عن خوالج الإنسانية في أكثر بقاع الأرض، لأن الإسلام الذي جمع قلوب الأمم على قرانه، جمع ألسنتهم على لسانه، فلم تكن هناك فكرة تجول في ذهن كاتب، ولا صورة تتمثل في خاطر شاعر، إلا وجدت في هذا الخضم المحيط صدفة تستقر فيها. فلما تحولت عن مذاهبه الأنهار، وجفت على جوانبه الروافد، عاد كالبحيرة المحدودة الراكدة، لا يمدها إلا قطرات المطر ودفعات السيل في الحين بعد الحين. فإذا أردنا لأدبنا أن يتسع في حاضره كما اتسع في ماضيه، فليس لنا اليوم غير سبيل الأمس: نرفده بآداب الأمم الأجنبية، ونطعمه بأنواع الفنون الأدبية، ونصله بتيار الأفكار الحديثة، ونخلي بينه وبين الحرية ليزدهر وينتشر ويساهم الآداب العالمية في تبليغ رسالة الجمال والخير والحق.
ذلك كلام يدخل في بدائه العقل لوضوحه، ويجري في قوانين الطبع لضرورته؛ فإذا عدنا إليه فإنما نعود لنحتال في تنفيذه لا لنلح في تعزيزه. وقد رغبنا إلى الحكومة في عدد مضى أن تنشئ دارا للترجمة تنقل آداب الأمم الكبرى نقلاً صحيحاً، ثم تنشرها كما تنشر دار الكتب الأسفار العربية القديمة؛ والأمر في ذاته قريب المنال قليل المؤونة، ولكن رغبة الفرد إلى الحكومة تكون في الغالب أملاً يتنفس به الصدر ولا يتعلق به صدق ولا ظفر. رغبنا إلى الحكومة هذه الرغبة اليائسة وما كنا نعلم أن ترجمة الآداب الغربية على خطة مرسومة هي مشروع في لجنة التأليف والترجمة والنشر قد أنضجت له الرأي ووجَّهت إليه العزيمة. ولجنة التأليف والترجمة والنشر فرقة من فرق الجنود المجهولة، تجاهد في صمت، وتكابد في صبر، وتبذل في إيثار. وقد طوت في جهاد الجهالة اثنتين وعشرين سنة فلم تنخزل عن صعوبة، ولم تنهزم عن تضحية، ولا تزال تضطلع وحدها بحماية الكتاب وقد غلبه على مكانه الطفيليات العابثة من المجلات الهازلة والنشرات الهزيلة.
تريد لجنة التأليف والترجمة والنشر أن تنقل إلى العربية آداب اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية، كل أدب منها في عام. وستنتقي لكل أدب عشرة أو أكثر من أعلا المترجمين الذين حذقوا أدب اللسانين المترجِم والمترجَم في دقة فهم وجمال صياغة. ثم تجعل مع هؤلاء أديباً من أهل اللسان الأوربي يتولى اختيار الكتب الخالدة لكل كاتب أو شاعر، ثم يكون مرجعاً للمترجمين فيما عسى أن يغمض عليهم من خفايا الكنايات وأسرار الجُمل؛ فإذا خرج الكتاب من الترجمة والمراجعة انتهى إلى أستاذين من أساتذة البيان العربية فيصقلان أسلوبه ويهذبان لفظه؛ ثم تنشر مطبعة اللجنة هذه الكتب تباعاً على غرار واحد وشكل رائق وتصحيح دقيق. واللجنة تهيئ الأسباب لتبدأ عما قريب في إخراج الأدب الإنجليزي، حتى إذا فرغت منه اشتغلت بغيره. والتعليق على مثل هذا المجهود الخطير المعجز لا يكون بغير الدعاء إلى الله أن يقرن العمل بالتوفيق ويقطع الأمل بالفوز. وليس بعد الله من يعين على هذا الجهد إلا الحكومة. فإن الجمهور القارئ في مصر وفي غير مصر قليل، وأكثر هذا القليل يكاد لا يعرف طريق المكتبة ولا يألف صحبة الكتاب. فترك اللجنة إلى أهواء القراء معناه حبس أموالها القليلة في المخازن والمكاتب فلا تقلبها في تأليف ولا نشر؛ والحكومة التي تساعد المدارس والمجامع والصحف، وتعول المجمع اللغوي ودار التمثيل ودار الكتب، لا تستطيع أن تضن بالمساعدة السخية على هذا المشروع الضخم تقوم به صفوة من أقطاب الثقافة في هذا البلد وقد كان من واجباتها الأولى أن تفكر فيه وتنهض به.
ولقد كان من فضل الله على (الرسالة) أن تحمل عبئها من هذا العمل الجليل المثمر، فقد أمضت النية على أن تصدر بجانبها أختها (الرواية) وهي مجلة أسبوعية تعتمد على نقل ما راع وخلد من بدائع الأدب الغربي في القصص على أوسع معانيه من الأقاصيص والروايات والمذكرات والاعترافات والرحلات والسِير. وسيكون شعار (الرواية) الجمال في الأسلوب، والحسن في الاختيار، والنبل في الغرض؛ فترضي الذوق كما ترضي (الرسالة) العقل، وترفع القصة كما ترفع (الرسالة) المقالة، وتسجل أدب الغرب كما تسجل (الرسالة) أدب العرب.
ولا جرم أن الأدب العربي سيكون له في كل عام مما تنتجه (اللجنة) وتترجمه (الرواية) وتنقله الصحف الأخرى، مورد ثَرُّ الينابيع، فياض الجوانب، من العبقريات الممتازة والقرائح السمحة، يحيي مواته، ويزكي نباته، ويجعل من سهوبه الفيح جناناً ناضرة، فيها متاع الأذن بالتغريد والشدو، ولذة العين بالرواء والبهجة، وشهوة النفس بالزكاء والعطر، وسعادة العالم بالسلام والوئام والمحبة.
احمد حسن الزيات