الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 176/صور سياحة

مجلة الرسالة/العدد 176/صور سياحة

بتاريخ: 16 - 11 - 1936

6 - يوم في فرساي

بقلم سائح متجول

في باريس جمهرة من الصروح والمشاهد التاريخية العظيمة التي تجذب الزائرين بماضيها وروعتها؛ ولكن فرساي تتمتع بشهرة خاصة في التاريخ والسياسة؛ وقد كانت مسرح بعض الأحداث العالمية الكبرى التي غيرت مصاير التاريخ والأمم؛ وبستان فرساي آية في العظمة والروعة والجمال.

فمتى كنت في باريس، فيجب ألا تفوتك زيارة فرساي وقصرها العظيم.

وفرساي في الواقع من ضواحي باريس، ولا تبعد عنها أكثر من ثمانية عشر كيلو مترا؛ وفي وسعك أن تصل إليها بواسطة قطر خاصة من المترو تيسر إليها يوم الآحاد، وفي وسعك أن تقصد إليها بواسطة القطار العادي من محطة مونبارنارس

وفرساي مع ذلك مدينة كبيرة يبلغ سكانها زهاء ستين ألفا تخترقها شوارع كبيرة، وبها كثير من الفنادق والمطاعم التي أعدت على ما يظهر خصيصا للوافدين عليها؛ وفي يوم الآحاد تبدو فرساي كأنها في عيد، وتكثر فيها الحركة بما يتقاطر عليها من وفود الزائرين من أهالي باريس، ومن الأجانب من مختلف الأمم.

قصدنا إلى فرساي في صباح يوم أحد بالقطار العادي، وكان غاصا بالقاصدين إليها من فرنسيين وأجانب؛ وكان يوما بديعا سطعت شمسه بعد أن أزعجنا المطر في باريس أياما متوالية؛ فوصلنا إلى فرساي في نحو نصف ساعة؛ وقصدنا إلى القصر توا، وهو قريب من المحطة، يشرف على ساحة واسعة؛ ولفت نظرنا لأول وهلة كثرة الجند الذين يتجولون في المدينة، وفي فرساي كما علمنا حامية كبيرة.

ومن الغريب أن واجهة القصر الخارجية لا تتمتع بكثير من الجمال والروعة، ومنها يبدو البناء كأنه معسكر ضخم؛ ولقد ذكرنا ذلك بواجهة قصر الفاتيكان الخارجية التي لا تدلي بشيء من عظمته الداخلية؛ بيد أننا ما كدنا نجوز إلى ساحة القصر الداخلية، ونشرف منها على بستانه العظيم حتى وقعنا على منظر من أروع ما شهدنا.

يشرف قصر فرساي من الوجهة الخلفية على بستان شاسع، قد نظم أبدع تنظيم، ونمت به الأشجار الباسقة من أنواع لا نظائر لها في حدائقنا. وفي مقدمة البستان مما يلي القصر مباشرة بحيرة صغيرة ساحرة؛ وأرض البستان مدرجة، تمتد منحدرة في حظائر بديعة من الأحراج الصغيرة، وحظائر من الزهر تأخذ اللب بمناظرها وألوانها الرائعة، ويطبع مناظر البستان كلها طابع ساحر من الرشاقة والأناقة والتنسيق.

وقد حول قصر فرساي كما حول قصر اللوفر إلى متحف، ولكن القصر في ذاته تحفة فنية رائعة؛ وأعتقد أنه يفوق قصر اللوفر من حيث الجمال والخواص الفنية، وإن كان اللوفر يفوقه من حيث الجلال والهيبة الملوكية؛ ذلك أن قصر اللوفر كان مقر العرش، ومقر الملوكية الفرنسية في أوج عظمتها وازدهارها، ولم يكن قصر فرساي إلا مصيفا ومقاما مؤقتا، ولم يغد مقر البلاط الدائم إلا في فترات قليلة في أواخر عصر لويس الرابع عشر ولويس الخامس عشر.

وقصر فرساي أحدث عهدا من قصر اللوفر؛ وقد بدأ قصرا متواضعا أنشأه لويس الثالث عشر؛ ولكن ولده لويس الرابع عشر فكر في أوائل حكمه في توسيع البناء وتحويله إلى قصر ملوكي عظيم الشأن، فعهد بذلك إلى المهندس (لي فان) أشهر مهندسي العصر، وخلفه في تلك المهمة المهندس مانسار، ثم دي كوتيه؛ وقام بتنظيم البستان وإنشائه (لي لوتر) وأشرف على زخرفة القصر الفنان (لي بران) وكلهم من أعلام هذا العصر الزاهر، فجاء القصر وبستانه آية من آيات الفخامة الملوكية والفن الرائع.

وقد كان القصر في المبدأ مصيفا ومقاما مؤقتا للملك وخاصته، ولكنه غدا في عصر لويس الخامس عشر مقرا للملك والبلاط، وكان لويس الخامس عشر يؤثر الإقامة فيه ويمضي فيه معظم أوقاته تحيط به خاصته، وتقيم فيه خليلاته إلى جانب زوجه الملكة الشرعية كما سنرى.

ويتألف قصر فرساي من طبقتين غير الطبقة الأرضية؛ والطبقة الثانية والوسطى هي أبدع ما فيه، وهي التي تضم تحفه وذخائره؛ وتتكون هذا الطبقة من عدة أجنحة وأبهاء ملوكية شاسعة، وتضم مجموعة ثمينة من الصور التاريخية التي تمثل كثيرا من المناظر الشهيرة والشخصيات الملوكية في عصر لويس الرابع عشر، ولويس الخامس عشر؛ ويشغل جناح الملك لويس الخامس عشر الطرف الأيمن من القصر، وقد عرضت في غرفه الأنيقة مجموعة من الأثاث الملوكي النفيس، ومنها أثاث غرفة الاستقبال، وغرفة المكتبة وغرفة النوم، والمتزين وكلها مما لا يزال يعتبر في عصرنا من أجمل وأبدع النماذج الفنية؛ وقد زينت الجدران ببعض المناظر الملوكية من حفلات الاستقبال والصيد وغيرها، وزينت السقف بأبدع النقوش؛ وتوجد في هذا الجناح مجموعة من الصور للملك لويس الخامس عشر وزوجه الملكة ماري لكزنزكا، وبعض أفراد الأسرة المالكة ورجال الدولة من صنع أعظم مصوري العصر؛ وفي هذا الطرف أيضاً، وإلى جانب جناح الملك يوجد الجناح الذي كان مخصصا لسكني خليلته المركيزة دي بومبادور، ومن بعدها لسكين خليلته الدوقة دوباري، ومن الغريب أنه لا يبعد كثيرا عن الجناح الذي كان مخصصا لسكني الملكة الشرعية ماري لكزنزكا.

ويلي هذا الجناح، في وسط القصر، جناح لويس الرابع عشر، وهو أفخم وأروع، وبه غرفة نوم ملوكية مازالت تحتفظ بأثاثها، وإلى جوارها ترى متزين الملك، وخزائن الثياب؛ وقد زين هذا الجناح بصور عديدة للويس الرابع عشر، في أوضاع ومناسبات مختلفة؛ والملك يبدو فيها جميعا قصير القامة، محدودب الأنف، وقد انسدل على كتفيه شعره الغزير، وبدت على وجه ملامح الكبر والخيلاء.

ويوجد في الطرف الآخر من القصر بهو شاسع تزينه مجموعة كبيرة من الصور التاريخية الضخمة التي تمثل أعظم المواقع الحربية التي انتصرت فيها فرنسا منذ فجر العصور الوسطى حتى عصر نابوليون، وقد صورت معظم هذه المناظر في عصر نابوليون واشترك في تصويرها أعظم مصوري العصر مثل لوي دافيد، وايزابي، وفرنيه؛ وتبدأ المجموعة بمنظر يمثل انتصار الملك كلوفيس على الرومان الغاليين (سنة 486م)، ويليه منظر استوقفنا طويلا لروعته وطرافته، هو منظر انتصار الفرنج على العرب في سهول ثوروبواتييه سنة (732م)، وهي الموقعة الشهيرة التي تعرف في التاريخ الإسلامي بموقعة البلاط أو بلاط الشهداء، وفيها يبدو عبد الرحمن الغافقي قائد العرب شيخا مهيب الطلعة تتدلى لحيته البيضاء الطويلة حتى صدره، وقد وثبت بجواده المضطرم إلى الطليعة وهو شاهر سيفه، ولكن جنده يتساقطون من حوله أمام ضربات الفرنج؛ وأذكر أنني رأيت هذه الصورة منذ أعوام في طبعة إنكليزية لكاتب المستشرق دوزي عن الأندلس، وكنت أتوق إلى معرفة الأصل الذي نقلت عنه، فإذا بي في بهو فرساي أمام المنظر الرائع وجها لوجه.

ويلي ذلك في صفين متقابلين مناظر لأعظم المعارك التي انتصرت فيها فرنسا مرتبة حسب العصور والتواريخ؛ مواقع شارلمان، ولويس الحادي عشر، ولويس الرابع عشر، وموقعة فالمي أشهر معارك الثورة الفرنسية ضد أوربا، ثم طائفة كبيرة من مواقع نابوليون مثل مارنجو، فاجرام، أوسترلتز، وغيرها.

بيد أن أعظم ما يثير الخيال في أرجاء هذا القصر الشاسع، هو الذكريات التاريخية العظيمة التي كان مسرحا لها، والتي أسبغت عليه طابعا خاصا من الروعة والخلود؛ ففي قصر فرساي عقدت مؤتمرات ووقعت معاهدات كان لها أكبر الأثر في تاريخ فرنسا وتاريخ العالم بأسره؛ نذكر منها عهد استقلال الولايات المتحدة (أمريكا) الذي وقعته إنكلترا في سنة 1783 على أثر هزيمتها في حرب الاستقلال الأمريكية، وقد وقع هذا العهد في قصر فرساي ترضية لفرنسا وتكريما لها لما بذلته من كبير عون للأمريكيين في هذه الحرب التحريرية؛ وكانت نتيجة هذا العهد الخالد أن قامت في العالم الجديد أمة حديثة مستقلة من أعظم الدول الديموقراطية؛ وفي سنة 1871، على أثر محنة فرنسا وهزيمتها أمام ألمانيا في الحرب السبعينية (سنة 1870) أرغمت فرنسا على أن توقع وثيقة هزيمتها وذلتها في قصر فرساي نفسه، في بهو المرابا الشهير وهو البهو الشاسع الذي يتوسط القصر فيطل على البستان من ناحيتيه، وأرغمت على أن تتنازل لألمانيا عن الألزاس واللورين؛ وفي بهو المرايا أيضاً أعلنت الإمبراطورية الألمانية، وتوج أول إمبراطور ألماني، وهو فلهلم الأول (جيوم)، وأجريت مراسيم التتويج في نفس البهو بحضور ملوك الولايات الألمانية المتحدة، وهذه ذكريات من أسود الذكريات وأتعسها في تاريخ فرنسا القومي.

على أن فرنسا اعتزمت غداة ظفرها في الحرب الكبرى أن تمحو هذه الصفحة المشجية وهذه الذكريات الأليمة من تاريخها وأن تثأر لشرفها القومي من ألمانيا، وأن ترغمها على أن توقع وثيقة انكسارها وذلتها في نفس المكان الذي اختارته ألمانيا من قبل لإرغامها وإذلالها؛ ففي هذا البهو الشهير ذاته - بهو المرايا - وقعت ألمانيا معاهدة الصلح - أو معاهدة فرساي - التي فرضها عليها الحلفاء الظافرون في يونيه سنة 1919، والتي تثقلها بمختلف الفروض والمغارم الهائلة، وتقضي عليها برد الالزاس واللورين إلى فرنسا.

وليس في بهو المرايا اليوم ما يذكرنا بأعظم معاهدة عرفها التاريخ سوى لوحة بسيطة مؤثرة كتب عليها. (في 28 يناير سنة 1919، ردت الألزاس واللورين إلى فرنسا)

وفي نهاية البستان الشاسع من الناحية الأخرى صرحان آخران منعزلان هما قصر تريانون الكبير، وقصر تريانون الصغير؛ وقد أنشأ أحدهما لويس الرابع عشر، وأنشأ الآخر لويس الخامس عشر؛ وكلاهما حافل بالذكريات العذبة، وكلاهما كان مسرحاً لليالي والحفلات الباهرة؛ وكان تريانون ملاذا محبوبا للملكة ماري أنتوانيت، والإمبراطورة جوزفين بوهارنيه زوج نابوليون.

قضينا عدة ساعات في التجوال في هذه المعاهد والمشاهد التي تذكى الخيال إلى الذروة وتحملنا إلى عصور وعوالم أخرى؛ وكانت الساعة الثانية بعد الظهر حينما انتهينا من هذا التجوال الممتع، وغادرنا القصر المنيف والبستان الشاسع إلى قلب المدينة حيث طفنا بطرقاتها برهة، ثم عطفنا على مطعم نتناول فيه الغداء، وقد رأينا أن الأثمان في فرساي ليست أقل ارتفاعا منها في باريس، وأن موجة الغلاء المرهق التي قدمنا لك منها فيما تقدم أمثلة عديدة تعم فرنسا بأسرها.

ولقد كان يوم فرساي خاتمة التجوال في رحلتنا الباريزية؛ وكانت الإقامة في باريس بما فيها من تكاليف وأثقال مرهقة، وبما استوعبناه من مشاهدها ولياليها المتماثلة، قد أخذت تثقل على النفس، فأزمعنا مغادرة العاصمة الفرنسية إلى عواصم ومجتمعات أكثر ترحابا وأقل إعناتا وإرهاقا، وأرفع خلالا ومثلا وقد يكون فيما اتخذته فرنسا أخيرا من الخروج عن معيار الذهب وتخفيض قيمة الفرنك بالنسبة للعملات الأجنبية شيء من التخفيف على السائحين وإغراء لهم بزيارة فرنسا بعد ما انصرفوا عنها في الأعوام الأخيرة، ولكن الظاهر أن التخفيض الجديد لم يحدث أثرا يذكر إذ صحبه ارتفاع مماثل في الأثمان، فإذا صح ذلك، وإذا لم توفق الحكومة الفرنسية إلى تخفيض معيار العيش وإخماد تلك النزعة الجشعة التي تبدو في كل صنوف التعامل فأن أولئك الذين زاروا فرنسا أيام ارتفاع الفرنك واكتووا بنار هذا الغلاء، يترددون كثيرا في العودة إليها.

(* * *)