الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 176/القصص

مجلة الرسالة/العدد 176/القصص

بتاريخ: 16 - 11 - 1936


من الأدب الإيطالي

الوسيط

للقصصي الإيطالي (بوكاشيو)

بقلم محمد عبد اللطيف حسن

كان في فلورنسا منذ قريب سيدة إيطالية حسناء تدعى بريتولا، وقد اشتهرت هذه السيدة بين أهل بلدتها بمكرها ودهائها وسعة حيلتها، وكان ذكاؤها وفطنتها مثار دهشتهم، وموضع إعجابهم. ومما يؤسف له أنها كانت متزوجة من تاجر غني لا يفهم الحياة إلا من ناحيتها المادية، ولا يهتم بشيء قدر اهتمامه بما يجنيه من ربح ومنفعة من وراء تجارته! أما حاله مع زوجته فلم تكن حال الزوج الموافق المهتم! وهذا ما دعاها إلى النفور منه والميل غلى غيره

وقد أسعدها الحظ حينئذ برؤية شاب جميل كان دائم المرور أمام منزلها فأحبته حباً جماً وأصبح لا يهنأ لها بال أو يسعد لها حال ما لم تره مرة في كل يوم على الأقل!! وكان هذا الشاب - واسمه تنكريد - يجهل في مبدأ الأمر تعقلها به، وعنايتها بأمره، فلم يلتفت إليها ولم يهتم بها

وبالرغم من أن تجاهله لها كان يضايقها ويكدر عليها صفوها، فإنها كانت حريصة فلم تحاول الاتصال به عن طريق الاستفسار عنه أو إرساله الرسائل إليه خشية أن يلحظ أحد علاقتها به أو يكتشف سر حبها له؛ وهداها تفكيرها آخر الأمر إلى أن تلفت نظره إليها وتجتذب قلبه نحوها عن طريق قسيس ورع كان من أخلص رفقائه وأكثرهم له وفاء ومحبة

وبعد أن اختمرت هذه الفكرة في رأسها ذهبت إلى الكنيسة التي يقيم بها هذا القسيس وابتدرته بقولها:

- لقد جئت إليك يا سيدي أطلب معونتك في أمر مهم سأشرحه لك. ولعلك تذكر أنني أخبرتك في مرة سابقة عن أقاربي وزوجي الذي يحبني أكثر من حبه لحياته، والذي لم يتأخر في يوم من الأيام عن تحقيق ما أطلبه منه!! ولهذا أحببته أنا الأخرى حبا شديدا وأصبحت لا أطيق الفراق عنه أو أستطيع الحياة بدونه!! أما ما جئت إليك اليوم من أجله فهو أن هنالك شابا يدعى تنكريد، وهو كما علمت من بعض الناس صديق حميم لك، اعتاد أن يمر من أمام منزلي كل يوم، وفي كل مرة يمر فيها أراه يرمقني بنظراته التي تدل على شدة حبه لي، وكثرة هيامه بي. وقلما يحول بصره عني طيلة الوقت الذي أكون فيه مطلة من نافذة غرفتي. فاضطر إلى مغادرة النافذة أو إغلاقها في وجهه خشية أن يتقول علي الناس بما يشين سمعتي أو يسيء إلى شرفي. وليس ببعيد يا سيدي أن يكون تنكريد هذا قد تعقب خطاي ورآني وأنا أدخل هذه الكنيسة، أو من المحتمل أن يكون الآن في انتظاري خارجها! وأصدقك القول يا سيدي أن هذا الأمر قد أصبح يضايقني أكبر المضايقة، ويؤلمني أشد الألم. بل لقد بلغ الأمر بي إلى حد أنني أصبحت أفضل الموت على أن أكون مضغة في أفواه الناس!

وبعد أن استرحت برهة قصيرة تابعت حديثها فقالت:

- وكثيرا ما فكرت يا سيدي في أن أحيط أخوتي أو زوجي علما بهذا الموضوع الشائن، ولكني لا ألبث في كل مرة أن أحجم عن ذلك حينما أتذكر أن الرجال غالبا ما ينهون مثل هذه الأمور بالضرب المؤلم الذي قد يفضي إلى الموت في كثير من الأحيان! وأخيرا استقر رأيي، حقنا للدماء وحسما للنزاع، على أن أطلب مساعدتك لسببين: الأول أن هذا الشخص صديقك فتستطيع من هذه الناحية أن تردعه بنفسك؛ والثاني أن من أهم واجبات القسيس الورع التقي إصلاح سيئات الناس وخطاياهم سواء أكانوا أصدقاء أم غرباء. وأنا أتوسل إليك يا سيدي أن تنصح صديقك هذا بالكف عن مغازلتي والامتناع عن النظر إلي. وإذا كان لابد له من هذه المغازلة فهناك كما أعلم سيدات كثيرات غيري يتمنين من صميم أفئدتهن أن يكن عشيقات وفيات له!!

ولما انتهت بريتولا من بث شكواها نكست رأسها كما لو كانت توشك أن تبكي من شدة الحزن والتأثر!!

ولم يشك القسيس الساذج في شيء مما قالته، بل أخذ عليه العكس يمتدح خصالها الطيبة ويثني على حسن تصرفها ورجاحة عقلها!! ووعدها أخيرا بتحقيق رجائها وإجابة ملتمسها.

وقبل أن تغادر بريتولا الكنيسة قالت للقسيس الطيب القلب:

- ولا تنس يا سيدي أن تخبر تنكريد إذا دفعته الجرأة إلى إنكار شيء مما قلته لك، بأنني قد أتيت إليك بنفسي واعترفت أمامك بكل شيء. . .

وفي اليوم التالي أرسل القسيس في طلب صديقه تنكريد. ثم انتحى به جانبا وأخذ يلومه بلهجة هادئة، وعبارة متزنة، على تصرفه الشائن مع بريتولا. . .

ودهش تنكريد بطبيعة الحال لهذا الاتهام الذي لم يخطر على باله، لأنه، كما قلنا، لم يرفع بصره إلى بريتولا في مرة من المرار التي كان يمر فيها أمام منزلها؛ وبالرغم من أنه نفى عن نفسه هذه التهمة بشدة، فان صديقه القسيس لم يصدق ذلك وقال:

- لا تتظاهر بالدهشة يا عزيزي من هذا الأمر، ولا تحاول أن تنكر هذه التهمة لأنني سمعتها من شفتي بريتولا نفسها. . .

وبعد أن سكت برهة قال:

- ولعلك تعلم يا تنكريد أن هذا السلوك الشائن وذلك التصرف السيئ لا يليقان برجل فاضل مثلك، وإني أنصحك نصح الصديق المخلص أن تدع هذه السيدة الفاضلة تعيش في هدوء وسلام مع زوجها الذي تحبه إلى حد العبادة! ولا تحاول أن تقلق راحتها أو تفسد حياتها مرة أخرى. . .

ولم يغب عن بال تنكريد غرض بريتولا من هذا الاتهام الكاذب. وقبل أن يغادر الكنيسة وعد صديقه ألا يعرض لبريتولا ولا أن يضايقها بعد ذلك. فاستراح القسيس لهذا الوعد وشكره على شهامته ونبل أخلاقه

وقصد تنكريد من فوره إلى منزل بريتولا. ولحسن حظه وجدها في انتظاره كالمعتاد في نافذة غرفتها

وما كادت بريتولا تراه وهو مقبل على منزلها حتى ابتسمت له ابتسامة خبيثة ماكرة، وتجلى البشر والسرور في قسمات وجهها، وحيته بهزة خفيفة من رأسها الجميل

وتأكد تنكريد الآن أنه لم يكن مخطئا في زعمه، فابتسم لها ابتسامة رقيقة عذبة ورد تحيتها بأحسن منها. . .

ومنذ هذا اليوم أخذ يصوب نظره إليها في كل مرة يمر فيها من أمام منزلها، فكان ذلك سببا في سرورها وغبطتها. . .

والظاهر أن بريتولا لم تكتف بهذا الفوز الباهر بل أرادت أن تتقدم في سبيل حبها خطوة أخرى. فذهبت إلى القسيس وألقت بنفسها بين قدميه، وأخذت تبكي بكاء مرا. فدهش القسيس وسألها عن سبب بكائها! فأجابته بريتولا دون أن تكف عيناها عن البكاء.

- إنني أبك يا سيدي صديقك الملعون الذي شكوته إليك من قبل

فقطب القسيس ما بين حاجبيه وسألها قائلا:

- ألا يزال هذا الرجل يضايقك؟

فأجابته بريتولا وهي تبكي:

- نعم. فمنذ أن شكوته إليك وهو لا يفتأ يضايقني بنظراته الوقحة، ويؤلمني بابتساماته السخيفة. وليس هذا فقط. بل أنه بعد أن كان يمر من منزلي مرة واحدة أو مرتين في اليوم أصبح يمر الآن ما لا يقل عن سبع مرات!!

وبعد أن نهنهت دموعها الجارية تابعت حديثها فقالت:

- وليت الأمر قد انتهى عند هذا الحد، فبالأمس أرسل إلى من قبله عجوزا لا أعرفها. وبعد أن عرفتها بنفسي أعطتني حقيبة جلدية نفيسة ومنديلا حريرا غالي الثمن، وقالت لي وهي تبتسم ابتسامة ذات معنى إنها مهداتان إليَّ من تنكريد! ولا أكتمك يا سيدي أنني غضبت لذلك غضبا شديدا وكنت على وشك أن أطردها هي وهدية تنكريد خارج منزلي، لولا أنني خشيت أن تحتفظ بالحقيبة والمنديل لنفسها دون أن تخبره برفض هديته! ففضلت ان آخذهما منها! وقد رأيت من الواجب أن أحضر معي هذه الهدية لكي تردها إليه وتخبره بأنني لست في حاجة إلى شيء منه. وأرجو أخيرا أن تحذر صديقك هذا بأنه إذا لم يكف عن مضايقتي، فأنني سأضطر حتما إلى إخبار زوجي أو أخوتي بكل شيء مهما كانت النتائج التي تترتب على ذلك قالت ذلك وقدمت الحقيبة والمنديل للقسيس وهي تتظاهر بالحزن والغضب لإهانة تنكريد إياها!!

وظن القسيس لسذاجته وسلامة صدره أن ما قالته بريتولا قد حدث بالفعل، فغضب لذلك غضبا شديدا، وقال لها بعد أن فكر برهة: إنني لا أستغرب يا سيدتي شدة حزنك لهذا الأمر، ولست ألومك بالطبع على شيء مما حدث. بل إنني على العكس أشكرك على اتباعك نصيحتي، وعملك بمشورتي. ومع أنني لمت تنكريد عندما زارني لأول مرة، فانه على ما يظهر لم يرعو عن غيه، ولم يرتدع عن ضلاله، ولهذا عولت على أن أوبخه توبيخا شديدا على هذا السلوك المعيب. وأرجو يا سيدتي ألا تنقادي لعاطفتك فتخبري زوجك أو أخوتك بهذا الأمر، فان نتائجه السيئة لا تخفى بالطبع على سيدة عاقلة مثلك، بل اتركي كل شيء وأنا أتصرف فيه بعقلي وحكمتي.

وما كادت بريتولا تبرح الكنيسة حتى أرسل القسيس في طلب صديقه تنكريد مرة أخرى. فلما جاء قابله بوجه عابس وجبين مقطب. واستنتج تنكريد من ذلك أنه لابد وأن تحادث مع بريتولا فانتظر بفارغ صبر ما سيقوله له. ولم يطل انتظاره طويلا إذ انهال عليه القسيس بوابل من الشتائم واللعنات بعد أن أعاد على مسامعه كل ما ذكرته بريتولا له.

وبالرغم من أن تنكريد أنكر بشدة إرساله الحقيبة والمنديل إلى بريتولا، إلا أن القسيس لم يصدق قوله، بل اشتدت حدته وازداد غضبه عن ذي قبل ثم قال:

- كيف تنكر ذلك أيها الشرير المنافق مع وجود دليل المادي على ارتكاب فعلتك؟

ثم نهض من مقعده، وأحضر الحقيبة والمنديل وناولهما إياه ثم قال:

- أليس في هذا الكفاية؟ فشعر تنكريد - مع براءته - بالخجل لوجود ذلك الدليل القاطع ولما لم يجد بدا من الاعتراف بهذه التهمة المنسوبة إليه قال:

- نعم. لقد أرسلت إلى بريتولا هذه الهدية لأنني كنت أحبها كغيرها من النساء، ولكني بعد أن تأكدت الآن أنها تختلف عنهن كل الاختلاف، فإني أعدك بشرفي ألا أرتكب ما يسيء سمعتها أو يجرح شعورها. وثق يا سيدي أنك لن تسمع منها بعد اليوم شكوى

ولم ينس تنكريد أن يأخذ معه الحقيبة والمنديل قبل أن يغادر الكنيسة بعد أن اقتنع تماما من أن بريتولا تحبه حبا جما، وتهيم به هياما شديدا، وأنها ما فعلت ذلك إلا بدافع هذا الحب والهيام. . .

وقصد تنكريد من فوره إلى منزل بريتولا حيث كانت لحسن الحظ في انتظاره كالمعتاد، وما كاد صاحبنا يلمحها من بعيد حتى أخرج من تحت إبطه الحقيبة والمنديل وأراهما إياها. فسرت بريتولا سرورا شديدا لأنها عرفت حينئذ أن خطتها المرسومة سائرة في طريق التقدم.

ولم يبق إلا غياب الزوج عن منزله لتكلل خيانة بريتولا بالنجاح التام. ولم يطل انتظارها طويلا إذ اضطر الزوج بعد بضعة أيام من وقوع الحادث السابق إلى السفر إلى جنوا، للقيام بإحدى المشاغل الضرورية التي تتطلبها طبيعة عمله

وذهبت بريتولا إلى القسيس مرة ثالثة عقب سفر زوجها مباشرة وقالت له وهي تبكي:

- لقد سبق أن قلت لك يا سيدي بصراحة أنه لا يمكنني أن أحتمل مضايقة تنكريد أكثر من ذلك. ولما كنت قد وعدتك بالا أقدم على عمل شيء قبل مشورتك، فقد جئت إليك اليوم لأشكو لك من صديقك تنكريد. . .

فذهل القسيس حينما سمع منها ذلك وسألها قائلا:

- ألا يزال هذا الملعون يضايقك؟؟ فقال له: بريتولا وهي تتظاهر بالحدة والغضب:

- نعم. ففي مساء الليلة الماضية دخل حديقة منزلي بعد أن علم بسفر زوجي إلى جنوا - ولست أدري كيف - وتسلق إحدى الأشجار إلى نافذة غرفتي، والتي كانت لسوء حظي مفتوحة في ذلك الوقت. وكنت على وشك أن أصرخ عندما رأيته في غرفتي لولا أنه توسل إلي ألا أفعل ذلك، ورجاني بأن أكون رحيمة به فلا أرتكب ما يلفت أنظار الناس إليه. وأقول لك الحق يا سيدي إنني خضعت لتوسلاته ولم أفعل شيئاً أكثر من أنني طردته من نفس النافذة التي جاء منها ثم أغلقتها وراءه بشدة. . .

وبعد أن سكتت برهة تابعت حديثها فقالت:

- والآن أرجو أن تحكم يا سيدي بنفسك في هذا الأمر وتخبرني هل في إمكاني أن أحتمل مضايقة تنكريد أكثر من ذلك؟؟ أو ليس من الواجب أن أخبر أخوتي بما فعله حتى يردوه إلى صوابه، ويعيدوا إليه ما عزب من عقله؟؟

واحمر وجه القسيس حينما سمع ذلك وفار دم الحنق والغضب حارا في عروقه وقال:

- وهل أنت متأكدة من أن الذي دخل غرفتك إنما هو تنكريد دون غيره؟؟

فأجابته بريتولا وهي لا تزال تبكي:

- وهل يمكنني يا سيدي أن أخطئ في معرفته بعد كل ذلك؟؟ فأنا واثقة تمام الثقة من أن الشخص الذي دخل غرفتي إنما هو تنكريد نفسه. وإذا تجاسر وأنكر ذلك أمامك - وهذا ما سيفعله بالطبع - فأرجو منك ألا تصدقه. . .

وبعد أن مرت بين الاثنين فترة سكوت قصيرة قطعها القسيس بقوله:

- إن ما فعلته يا سيدتي إنما هو الصواب بعينه؛ وقد قمت بواجبك خير قيام. ولست أنكر أن عمل تنكريد في منتهى الخسة والدناءة، ولكني مع ذلك استحلفك بالله أن تتركي هذا الأمر لي مرة أخرى دون أن تخبري أخوتك بشيء مما حدث؛ وسترين بعد ذلك إذا كان في إمكاني أن أقوم اعوجاج تنكريد. فإذا أفلحت كان بها، وإذا فشلت فسأترك لك الخيار في أن تتصرفي في هذا الأمر كما تشتهين. . .

وقبل أن تغادر بريتولا الكنيسة قالت للقسيس وهو يودعها:

- تأكد يا سيدي بأنني لن أضايقك بهذه المسألة بعد الآن. وقد استقرر رأيي على ألا أخبرك بشيء في هذا الموضوع مطلقا

وما كادت بريتولا تبرح الكنيسة حتى استدعى القسيس صديه تنكريد بعد أن استقر رأيه على أن يزجره زجرا شديدا وأن يعنفه تعنيفا قاسيا. ولما حضر قابله بوجه مقطب، ومظهر قاس، ثم انتحى به ناحية من الكنيسة وأخذ ينهال عليه بالشتائم واللعنات التي كانت تزداد حدتها شيئاً فشيئاً، بينما جلس الآخر في مكانه هادئا ساكنا كما لو كانت هذه الشتائم واللعنات موجهة إلى غيره! وأخيرا تضايق تنكريد من تأنيب القسيس وقال:

- ما الذي فعلته يا صحابي حتى استحق منك كل هذه الشتائم؟

فازداد غضب القسيس لهذا الإنكار وضحك ضحكة ساخرة ثم قال:

- ألا تدري ماذا فعلت أيها الأحمق؟ إنك تتكلم كما لو كان هذا الأمر لا يعنيك. . .

فتظاهر تنكريد بالدهشة وقاطعه بقوله:

- عن أي أمر تتحدث يا مولاي؟؟

فحملق القسيس في وجهه بشدة وقال:

- أين كنت في مساء الليلة الماضية؟؟

فأجابه تنكريد بهدوئه وسكونه المعتاد:

- لست أدري بالضبط يا سيدي!!

فازدادت ثورة القسيس ثم قال: - سأخبرك أين كنت أيها المخادع الشرير!!

وبعد أن استجمع شتات تفكيره تابع حديثه فقال:

- لقد دخلت حديقة بريتولا في مساء الليلة الماضية ثم تسلقت إحدى الأشجار إلى غرفتها، وكاد أمرك يفتضح لولا أنها أشفقت عليك ورأفت بك ولم تفعل شيئاً أكثر من أنها طردتك من نفس الطريق الذي جئت منه!!

ولم يغب عن بال تنكريد ماذا تقصده بريتولا من هذا الكلام الذي قالته للقسيس، وأخذ يفكر فيما يجب عليه أن يفعله في مساء تلك الليلة، ولكن القسيس ما لبث أن قطع عليه حبل تأملاته فقال:

- إنك تظن أيها المنافق أن في إمكانك أن تحمل هذه السيدة الفاضلة على حبك. . . ولكن لا! ولست أغالي إذا قلت لك انك أصبحت الآن أبغض الناس إليها، وأثقلهم على قلبها! وليس هذا فقط، بل أنك أمسيت في نظرها كالطاعون الذي لا يترك إنسانا إلا بعد أن يفتك به! حقا إنك لم تستمع لنصحي ولم تأبه لإرشادي، ولكني أؤكد لك بأن الأمر قد خرج الآن من يدي. فإذا لم ترتدع، فستضطر بريتولا إلى إخبار اخوتها أو زوجها بكل ما فعلته معها، وفي هذا كما تعلم ويل وعذاب لك. . .

وبعد أن هدأ تنكريد ثورة القسيس بوعوده وتوسلاته غادر الكنيسة وهو على أشد ما يكون من الفرح والسرور وفي المساء ذهب إلى منزل بريتولا ثم دخل الحديقة وتسلق الشجرة التي تؤدي إلى نافذة غرفتها، والتي تركتها مفتوحة لهذا الغرض. ولما دخل الغرفة قابلته حبيبته يشغف ظاهر وسرور عظيم، وتعانق الاثنان عناقا حارا وهما يشكران هذا القسيس الذي كان واسطة التعارف بينهما!

ومن بعد هذا اليوم أصبح العاشقان الفاسقان يتقابلان دون أن يحتاجا إلى وساطة هذا القسيس الطيب القلب!!

محمد عبد اللطيف حسن