مجلة الرسالة/العدد 176/العالمِ المسرحي والسينمائي
→ الكتب | مجلة الرسالة - العدد 176 العالمِ المسرحي والسينمائي [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 16 - 11 - 1936 |
الحروب الصليبية على ستار سينما رويال
لناقد (الرسالة) الفني
أنصف سيسل دي ميل الشرق في فلمه الأخير (الحروب الصليبية) في شخص صلاح الدين الأيوبي سلطان مصر، فدل بذلك على أن روحه روح فنان لم يتملكها التعصب ويحيد بها عن طريق الحق والواجب في تسجيل التاريخ على شريط السينما
فهو قد صور بطلنا الشرقي في الصورة المعروفة عنه من الشجاعة والنبل، صوره رجلا يأبى الوصول إلى أغراضه عن طريق الخسة والدناءة، ويترفع عن وسائل الغدر والخيانة، في حين أن الكثيرين من كتاب الغرب إذا ما عرضوا لشخصية شرقية مهما أيد التاريخ والحوادث عظمتها لم يتركوها دون مغمز، بل منهم من يخلق لها الحوادث المخزية ويروح يبذل جهده لإلصاقها بها، ويصور الشرق والجو الذي يحيط بالقصة في أشنع الصور وأشدها إلى النفس.
فإنصاف سيسيل دي ميل لصلاح الدين والشرق عمل جدير بالتقدير لاسيما وأنه صور الشرق في أوج عظمته عندما كانت الإمبراطورية المصرية في أقوى أيامها وبلاد الغرب في همجيتها ليس القراء في حاجة إلى أن نقدم لهم هذا المدير الفني العظيم، فهو أحد أركان النهضة السينمائية في أمريكا وأحد دعائمها، وله ماض حافل بالأفلام الهائلة الرائعة، ولكني إذا تحدث عنه لا يسعني إلا أن أشرح رأيه في السينما؛ فهو يرى أن السينما فن المجموعات وأنها لم تخلق لتعالج الموضوعات البسيطة أو الموضوعات الاجتماعية التي تعرض للإنسان في حياته الخاصة، وإنما خلقت لتعالج الموضوعات التي تشغل شعوب العالم والتي تتمثل فيها قوى الجماعة. فهي أليق ما تكون للروايات الاستعراضية أو الروايات التاريخية التي تتجلى فيها العظمة والقوة.
ولهذا كان دي ميل يعمد دائما إلى التاريخ يستلهمه مادة لقصصه السينمائية، ولا يختار من الوقائع والحوادث إلا ما يتلاءم مع العظمة والأبهة الكاملة وما يحتاج إلى مصروفات باهظة وأنت إذا تشهد أي فلم من أفلامه تعجب كيف استطاع هذا الإنسان أن يدير الفلم على هذه الصورة من الدقة وأن يخلق حول القصة الجو الصادق.
وهذا الرجل إذ يعمد إلى التاريخ لا يتقيد بالحوادث التاريخية إلا أنه يتصرف تصرفا معقولا ويحافظ أشد المحافظة على الجو التاريخي. ومهارته لا تقف عند حد خلق الجو التاريخي الصادق وإظهار العظمة والأبهة، بل تتعداه إلى اختيار القصة التي تساير التاريخ وتلازمه، كما تحوي كثيرا من المواقف التمثيلية البديعة.
وأفلام دي ميل تدل على أنه رجل يميل إلى ما له علاقة بحوادث المسيحية فهو أدار (بن هور)، (علامة الصليب) ثم (الحروب الصليبية) فهل لهذه النزعة علاقة بأنه يقلب إحدى حقائق التاريخ الثابتة، وهي أن الصليبيين لم يأخذوا عكا عنوة وإنما سلمت بعد اتفاق عقد بينهم وبين صلاح الدين؟ لا أظن. وإنما الموقف التمثيلي بعد حرب الدبابات التي أظهرها اقتضى ذلك فلم يحجم عن تجاهل هذه الحقيقة كعادته.
قلت إن موضوع الفلم بديع وقد أمكن أن يساير التاريخ إلى حد معقول، ولكن ذلك لم يمنع دي ميل من أن يخالف بعض الحقائق التاريخية، وستكون قصة الفلم موضع حديثنا في العدد القادم، وسوف نقارنها بالتاريخ كما نقارنها بقصة ايفانهو للكاتب الإنجليزي المعروف والتر سكوت التي تحدث فيها عن صلاح الدين وريكاردس والتي اقتبس منها دي ميل الموقف الذي يقطع فيه ريكاردس قطعة الحديد بسيفه ويقطع صلاح الدين كذلك قطعة الحرير بسيفه أيضاً
أما المجهود الفني الذي بذله دي ميل فهو هائل، فالمناظر في غاية الروعة ومعدات الجيش كاملة مما أكسب الفلم قسطا من الحقيقة. وهو قد أعطى صورة صادقة لهجمات الصليبيين على عكا ودفاع المسلمين عنها. فلقد جاء في كتاب (صلاح الدين الأيوبي وعصره) تأليف الأستاذ الكبير محمد فريد أو حديد وهو حجة في تاريخ المماليك في حديثه عن حصار عكا:
(وقد أبلى في ذلك الشأن بلاء حسنا شاب من صناع دمشق فانه أدخل من التحسين على صناعة النار ما جعلها تحرق آلات الحصار المنيعة التي كان الفرنج يطلونها بطلاء يمنع تعلق النار بها. وكان أشد الآلات على المدينة الدبابات، وهي أبراج عالية ذات طبقات يركبها الجنود وتسير على عجل وفي مقدمتها حديد قوي فتصطدم بالأسوار فتصدعها، ثم يعمل الجنود المجتمعون بها في الأسوار فيهدمونها.
وقد تمكن ذلك الشاب المجتهد من إحراقها باختراع سائل يرميه أولا في قدور على هذه الدبابات ثم يقذف بعد ذلك النار فيلتهب ذلك السائل ولا يقاوم ناره شيء) أهـ
ورواد السينما يشهدون لسيسل دي ميل أنه أعطى صورة صادقة لكل ما ذكره الأستاذ فريد وأنا أعجب من دقة هذا المدير الفني في تصوير الحصار والهجوم هذا التصوير الصادق.
كذلك لا أنسى الموقعة التي قامت بين جيش ريكاردس وبين جيش صلاح الدين بعد أن دخل الصليبين عكا فقد كانت صورة جميلة لحرب الفروسية والشجاعة والأقدام، وقد تضاءلت أمام أعيننا الحروب الحديثة التي بدت قذرة أثيمة في وسائلها وأغراضها.
والتصوير دقيق والزوايا التي أخذت منها المناظر تدل على مهارة كبيرة، والشخصيات التي اختارها تطابق في كثير الشخصيات التاريخية، وما عرف عنها ولاسيما شخصية ريكادوس وصلاح الدين والراهب. ومن المواقف التمثيلية الرائعة موقف صلاح الدين أمام جميع الملوك المسيحيين وهم يقولون له (نحن ملوك عديدون) فيجيب بعظمة (وأنا ملك واحد).
أما ملابس صلاح الدين ففيها كثير من الأخطاء مما يدل على أن واضع النماذج لم يدرس الملابس الإسلامية، فقد ألبس صلاح الدين عباءة ملكية من القطيفة تشبه في كثير عباءة ملك فرنسا وهذا اللباس غريب عن مصر والشرق ولباس الرأس غريب كذلك، فصلاح الدين كان يلبس في غير الحرب العمامة دائما وهو لم يلبس العقال لأنه كردي لا عربي.
وعندما ظهر صلاح الدين في خيمته ومعه أسيرته أميرة نافار وزوجة ريكاردس شاهدنا فتاة تعزف على القيثارة وهذه القطعة الموسيقية رومانية وليست عربية والعرب والمصريون استعملوا من القطع الموسيقية العود والناي والمزهر (نوع من العود) وربما القانون، أما القيثارة فلم تكن أبداً بين القطع التي استعملوها.
ولقد اتخذ المسيحيون الصليب شعارا لهم فلم يقلدهم المسلمون في اتخاذ الهلال شعارا، فاتخاذ الهلال شعار إنما شاع في أيام الإمبراطورية التركية. وليس هنالك ما يمنع أن يضع صلاح الدين الهلال على رأسه ودرعه، ولكن ذلك ليس معناه أن الهلال كان شعارا كالصليب كما يفهم من الفلم.
إن دقة تصوير الفلم لريكاردس طبقا لما جاء في التاريخ على أنه ملك شجاع لا يعبأ بمظاهر الملك، مندفع لا يفكر في النتائج البعيدة، ولم يكن بالقديس الذي يعبأ بأمر الدين كثيرا، لم ترق في أعين الإنجليز، ولذلك منعوا عرض هذا الفلم في بلادهم
والفلم العظيم وهو أقوى من فلم (كليوباترا) وأقل من فلم (علامة الصليب)، ولكن يجدر بالمصريين أن يشهدوه ليروا عظمة صلاح الدين الذي كان يستمد قوته من مصر.
يوسف تادرس