مجلة الرسالة/العدد 174/صور سياحة
→ نظرية النبوة عند الفارابي | مجلة الرسالة - العدد 174 صور سياحة [[مؤلف:|]] |
في الأدب المقارن ← |
بتاريخ: 02 - 11 - 1936 |
5 - فرنسا وباريس
الحريات المتطرفة وبعض مظاهر الحياة الاجتماعية
بقلم سائح متجول
ليس بين أمم العالم أكثر ترديداً لكلمات الحرية والإخاء والمساواة من فرنسا.
ولا غرو فقد كانت الثورة الفرنسية مهد الحريات الديمقراطية في أوربا، ومنها انبثق فجر الديمقراطية الأوربية الحديثة، وفيها تقررت حقوق الإنسان، وكانت صيحة الحرية والإخاء والمساواة أقدس شعائرها.
وقد خاضت الأمة الفرنسية كثيراً من الحوادث والخطوب وبذلت كثيراً من دمائها للاحتفاظ بذلك التراث المقدس: تراث الثورة الفرنسية، وتراث الحريات الديمقراطية؛ وما زالت فرنسا على رغم الحوادث والخطوب حصن الديمقراطية في أوربا، ومازال شعارها المقدس: (الإخاء والحرية والمساواة) ترقمه على نقدها، وعلى جميع دورها العامة، وتقرؤه في كل مكان وكل مناسبة.
ولا ريب أن الحريات العاملة والحريات الشخصية أكثر توفراً في فرنسا منها في أي بلد أوربي آخر؛ حرية القول والكتابة، وحرية التصرف، في حدود القوانين طبعاً؛ وفي فرنسا يعقد أي اجتماع، ويلقى أي خطاب، وينشر أي كتاب أو مقال سياسي أو اجتماعي، دون أن تتدخل السلطات أو تعترض إلا ما كان واقعاً تحت طائلة القانون، أو ما كان ينذر فعلاً بتكدير الأمن العام.
هذا في فرنسا فقط؛ ولكن فرنسا تفهم الحريات خارج فرنسا فهماً آخر؛ والسياسة الفرنسية لا تطيق أن تسمع لفظ الحرية في شمال أفريقية مثلاً أو في غيرها من الأملاك والمستعمرات، ولها وسائلها الخاصة في إخماد كل نزعة أو حركة حرة، وفي سحق كل رأي حر.
ولكن ذلك لا يمنع أن تكون فرنسا ذاتها بلد الحريات المتطرفة، بل إن أولئك الذي يسلبون حرية الرأي والتصرف في بلادهم يجدون في فرنسا ملاذاً لهذه الحريات.
والحرية أسمى ما يتمتع به الإنسان، وأثمن ما تزدان به الكرامة الإنسانية، ولكن التطرف في فهمها وتطبيقها يخرجها أحياناً عن دائرة المعاني الرفيعة التي قصدت إليها، وعندئذ تغدو ابتذالاً وخروجاً على النظم والقوانين، وأحياناً على الحشمة والحياء.
وقد وصلت الحريات السياسية في فرنسا إلى حدود التطرف والإغراق، ووصلت الحريات الاجتماعية إلى حدود الإباحة والابتذال.
وإنه ليكفي أن نتتبع ما يقع في فرنسا كل يوم من مظاهرات واعتصابات عنيفة، وما يحيط المعارك والمناقشات الحزبية فيها من مناظر الاضطراب والفوضى، وما تتكشف عنه حياتها ونظمها العامة من ألوان الفساد والضعف في تكرار الفضائح المالية والسياسية المثيرة، لنحكم بأن هذه الصورة من النظم الديمقراطية التي تقدمها إلينا فرنسا ليست من افضل صور الديمقراطية وأحبها.
وفي وسع السائح المتجول أن يلمح كثيراً من ألوان الفوضى السياسية في فرنسا، في أقوال الصحف وفي مناقشات الأفراد، وفيما يعرض للبيع من النشرات السياسية والشيوعية التي تسمم الآراء وتذكي الشهوات والأحقاد. ولقد حدث ونحن في باريس في الأيام الأولى لاضطرام الثورة الإسبانية أن هب فريق كبير من الصحافة الباريزية يتهم الحكومة الفرنسية بأنها ترسل الذخائر والطيارات سراً إلى حكومة مدريد، وأنها بذلك تزيد نار الثورة ضراماً وتعرض السلام للخطر، فاضطرت الحكومة أن تصدر بلاغاً رسمياً تنكر فيه هذه الوقائع، واضطرت بعد ذلك أن تثير مسألة عدم التدخل في الحوادث الإسبانية، هذا بينما انتهزت الدول الفاشستية (إيطاليا وألمانيا) كل فرصة لإمداد الثوار بكل صنوف المعاونة في الوقت الذي لبثت تتظاهر فيه بقبول فكرة عدم التدخل؛ وهكذا أفسدت الصحافة برعونتها على الحكومة موقفها وسياستها.
وفي فرنسا اليوم حزب شيوعي قوي يحتل أربعة وسبعين كرسياً من كراسي البرلمان، ويبث دعايته في عدة صحف ونشرات قوية في مقدمتها جريدة (الأومانتيه) التي أسسها جان جوريس، ويكتب فيها اليوم أشهر الكتاب والنواب الشيوعيين مثل مارسل كاشان، وبول لوي، وفايان كوترييه، وموريس توريز وغيرهم.
وكثيراً ما سمعنا، عندما نشبت الثورة في إسبانيا، أن فرنسا قد تضطرم عما قريب بمثل تلك الثورة، إذا لم تعمل الحكومة لتحسين الأجور وتأمين العمال على حقوقهم ورفاهتهم، كنا نسمع ذلك في مقاهي باريس ومطاعمها وشوارعها.
وكما أن الحريات السياسية تتخذ ألواناً من التطرف والإفراط فكذلك الحريات الاجتماعية في فرنسا.
ولا ريب أن معظم المجتمعات الأوربية تتمتع بحريات اجتماعية واسعة، ترجع إلى نظام المجتمع ذاته، والى ما تتمتع به المرأة من حريات مطلقة، كما ترجع إلى روح القوانين، والى فهم المبادئ الأخلاقية ومعيار الحياء بطرق وأساليب خاصة.
ولكن لا ريب أيضاً أن فهم الحريات الاجتماعية يتخذ في فرنسا ألواناً من التطرف قد لا يسيغها كثير من المجتمعات الأوربية، كما يتخذ التساهل في فهم معيار الحياء ألواناً تستهجنها المجتمعات الأخرى.
مثال ذلك منائر العري التي حدثناك عنها في مقال سابق؛ ففي باريس تنتشر مسارح العرى؛ وتعرض المناظر والرقصات العارية في أفخم مسارح باريس مثل الفولي برجير والكازينو دي باري، ويعلن عنها في أكبر الصحف مثل الطان والفيجارو والجورنال والماتان وغيرها، وتعرض أسراب الراقصات العاريات بلا حرج، ويعتقد القضاء أن هذا الضرب من التمثيل العاري عمل فني لا اعتراض عليه، ويتحدث النقدة الفنيون في الصحف المحترمة عن نجاح مس جوان وارنر (ملكة العراء المطلق) وعن رقصاتها العارية.
وفي باريس تصدر مجلات جنسية كثيرة، ويكتب بعضها بأساليب مثيرة، وينشر صوراً عارية، وإعلانات غرامية هي اتجار مكشوف بالحب، ولنمثل لذلك بمجلة (فروفرو) التي ربما كانت أكثر تحفظاً من غيرها، كذلك تعرض الكتب الجنسية بكثرة في المكاتب ومع الباعة وتلقى رواجاً مدهشاً.
وفي باريس ترى مناظر الحب في النهار وفي الليل، في الشارع وفي الحديقة، وفي المقهى، وفي المترو؛ ومن المناظر العادية أن ترى فتى وفتاة يتبادلان القبلات الحارة وقد أمسك الفتى بخصر الفتاة، أو يتبادلان العناق المضطرم؛ ترى ذلك في أي وقت وأي مكان، وتراه بنوع خاص في أقبية المترو، وفي المترو ذاته، ولا يمنع ذلك أن يكون وسط الجمهور الحاشد، والأعين ترمقهما من كل صوب؛ بل ترى في أقبية المترو، في المنعطفات المستترة أو حين ينسدل الظلام كثيراً من المناظر الغرامية المريبة.
وتكثر مثل هذه المناظر المثيرة أو المريبة مساء في منعطفات مونمارتر وبيجال وكليشي وفي المراقص والحانات الليلية.
ولا تختص باريس وحدها بهذه المناظر الإباحية، فقد رأيت في الجنوب أثناء انتظاري بمحطة ناربون جماعة رياضية من طلبة الجامعات شباناً وفتيات وقد ارتدى الجميع الثياب الرياضية واشترك الفتيات في ارتداء السراويل القصيرة التي تترك الساقين عاريين؛ وفي أثناء انتظار القطار جاءت الفتيات فجلست كل واحدة منهن في حجر فتى، وساقاها العاريتان على ساقيه العاريتين وأخذ الجميع ينشدون النشيد الجمهوري، وقد طوق كل فتى فتاته بلا حرج.
ولكن من الإنصاف أن نقول إن الطبقات الدنيا هي التي تذهب في فهم الحب والحريات الاجتماعية إلى هذا الابتذال المثير.
على أننا نعرف كما يعرف الذين زاروا العواصم الأوربية الأخرى أن رقص العراء المطلق لا يسمح به إلا في باريس، وأنه يندر أن ترى في غيرها من العواصم مثل هذا الابتذال العلني في مناظر الحب والغرام، أو مثل هذه المجلات والكتب الجنسية التي تغمر باريس.
وإذا كانت الحريات الاجتماعية في برلين وفينا مثلاً لا تقل إطلاقاً وتسامحاً عنها في باريس، فإن معيار الحياء يرتفع فيهما كثراً عنه في باريس؛ ومن النادر أن ترى في الشارع أو الحديقة أو الترام أمثال هذه المناظر الغرامية المكشوفة التي تراها في باريس.
وإذا كانت باريس قد اشتهرت دائماً باللهو الخليع، فتلك شهرة في محلها، وباريس تموج بالملاهي الخليعة من كل ضرب، وتغمرها بالليل ريح شاملة من المرح الخليع، ومن الغريب أن هذه الملاهي يعلن عنها بمنتهى البراعة، وتصور في إعلاناتها وبرامجها كأنها أروع ما انتهى إليه الفن؛ فإذا ازدلفت إليها منيت بخيبة الأمل، ورأيت الابتذال بعينه، وأدركت ما في هذه الدعاية الخلابة من ختل وتضليل.
ولقد تحدثوا كثيراً عن سحر الباريزية وأناقتها ورشاقتها؛ ونحن نستميح عشاق العاصمة الفرنسية عذراً، إذا قلنا إننا لم نستطع أن نكتشف في الباريزية كثيراً من هذا السحر وهاته الأناقة؛ فالمرأة الباريزية تعتمد في جمالها وسحرها على المظاهر والصناعة أكثر مما تعتمد على الحقيقة؛ وهي تكثر من صباغة الشعر والأظافر وتفرط في استعمال المساحيق؛ والشقرة هي لون الشعر المحبوب في باريس، ولكنها شقرة صناعية في الغالب؛ والواقع أن الباريزية لا تتمتع بذلك اللون الوردي الباهر الذي تتمتع به الإنكليزية أو النمسوية مثلاً، بل يغلب عليها اللون الثلجي أو اللون الباهت، فتعمد في تجميله إلى الصناعة؛ ويبدو عناء التجمل وفي وجهها دائماً؛ وأما عن الأناقة فإن الباريزية لا تتمتع منها بقسط كبير، فهي تميل إلى الأزياء المعقدة أو الغريبة، وتكثر من الألوان بلا تناسق؛ والخلاصة أن الباريزية تعشق المظاهر، وتفرط في التجمل، وتعتمد على الصناعة؛ بيد أنها تتمتع مع ذلك بخفة روح لا شك فيها.
وإن أولئك الذين عرفوا فينا وباريس معاً، يعرفون كم تحوي فينا من الجمال النسوي الرائع، وأي صباحة ورشاقة وأناقة طبيعية تتمتع بها الفتاة النمسوية، وأي فرق شاسع بين هذا السحر الطبيعي وبين ذلك السحر الصناعي الذي تلجأ إليه الباريزية في تكلف وعناء.
ويصح أن نشير هنا إلى مسألة الصحة العامة والنظافة الشعبية، فقد لاحظنا أن الصحة العامة ليست في أوجها، وأن الشباب لا يتمتع بكثير من النضرة ومظاهر القوة والفتوة؛ وتبدو مظاهر السقم والعناء على وجوه الطبقات العاملة من رجال ونساء؛ وقد لاحظنا فوق ذلك أن هذه الطبقات وربما بعض الطبقات الوسطى أيضاً لا تعنى كثيراً بمسألة النظافة؛ وإنه ليكفي أن تركب المترو ظهراً أو مساء حين يكتظ بالعمال والمستخدمين لتدرك هذه الحقيقة، ولا تشذ عن ذلك أسراب الفتيات الحسان؛ وربما كان في ظروف حياة هذه الطبقات ما يفسر هذه الظاهرة، فالنظافة تحتاج إلى كثير من النفقة، والاستحمام في باريس ترف يصعب على الفقراء الإكثار منه؛ وفي الفنادق المتوسطة قد يكتفي بغرفة حمام واحدة في طبقات الفندق كلها؛ والغرفة ذات الحمام الخاص ترف رفيع لا يسمع به إلا في الفنادق الأرستقراطية؛ وهذه حقائق لا يصعب على السائح اكتشافها.
والى هنا نقف في حديثنا عن باريس وعن الحياة الباريزية والمجتمع الباريزي؛ ولقد قلنا في بدء هذه الفصول إننا لا ندعي الوصول إلى أعماق المسائل والشؤون، وإننا إنما ندون حقائق وملاحظات انتهينا إليها بالتجوال والمشاهدة، وأحياناً بالتجارب والدرس؛ وقد حفزنا إلى كتابة هذه الفصول ما سبق أن نوهنا به في البداية وهو أننا مازلنا نقرأ بالعربية عن فرنسا وعن باريس كتباً وفصولاً يطبعها الإغراق والمبالغة في التغني بمحاسن العاصمة الفرنسية وكل ما في الحياة الفرنسية؛ وهانحن أولاء قد حاولنا بهذه الفصول المتواضعة أن نقدم بعض الحقائق والصور حسبما رأينا وشعرنا بعيداً عن كل إغراق ومبالغة؛ وربما كانت باريس بالأمس أعظم فتنة وأشد سحراً منها اليوم، وربما فقدت العاصمة الفرنسية كثيراً من هذا السحر بفعل الظروف والتقلبات الاقتصادية والاجتماعية، ولكنا نصرح مخلصين أننا لم نشعر أن لباريس هذا السحر الفياض الذي ينسب لها، أو أن لها تلك الفتنة التي أملت على كثير من كتابنا تلك الفصول الوردية الرنانة. هذا ومما يبعث إلى الغبطة أن كثيراً من الأصدقاء البارزين الذين عرفوا باريس وعرفوا حياتها ومجتمعاتها أكثر مما عرفنا، يقرون كثيراً من هذه الصور التي قدمناها والملاحظات التي أبديناها.
(يتلى)
(* * *)