الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 174/حماسة الشعب

مجلة الرسالة/العدد 174/حماسة الشعب

بتاريخ: 02 - 11 - 1936


للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

وحدثني صاحب سر (م) باشا قال: لما رجع سعد باشا من أوربا في سنة 1921 كانت الأمة في استقباله كأنها طائر مد جناحيه لا خلاف لشيء منه على شيء منه، بل كله هو كله؛ وكانت المعارضة في الاستحالة يومئذ كاستحالة وجود رقعة في ريش الطائر.

على أن ثوب السياسة المصرية كثير الرقع دائما بالجديد والخلق. فرقعة من المعارضين، وأخرى من المتعنتين، وثالثة من المتخاذلين، ورابعة من المعادين، وخامسة وسادسة وسابعة من الحاسدين والمنافسين والمختلفين لشهوة الخلاف، ورقاع بعد ذلك مما نعلم وما لا نعلم، فإن من العجيب أن هذا الجو الذي لا يتقلب إلا بطيئاً يتقلب أهله بسرعة، وهذه الطبيعة التي لا تكاد تختلف لا يكاد أهلها يتفقون.

ولكن سعدا رحمه الله رجع من أوربا رجعة الكرامة لأمة كاملة، ففاز بأنه لم يخسر شيئاً من الحق، وانتصر بأنه لم يهزم، ودل على ثباته بأنه لم يتزعزع، وذهب صولة ورجع صولة وعزيمة؛ فكان إيمان الشعب هو الذي يتلقاه، وكانت الثورة هي التي تحتفل به، وبطلت العلل كلها فلم يجد الاعتراض ما يعترض عليه، واتفقت الأسباب فأجمعت الكلمة، وظهر سعد كأنه روح الأمة متمثلا في قدرة، حاكماً بقوة، متسلطاً بيقين. . . .

نعم لم ينتصر البطل ولكن الأمة احتفت به لأنه يمثل فيها كمالا من نوع آخر هو سر الانتصار، فكانت حماسة الشعب في ذلك اليوم حماسة المبدأ المتمكن يُظهر شجاعة الحياة وفورة العزائم وفضيلة الإخلاص وشدة الصولة وعناد التصميم، ويثبت بقوة ظاهره قوة باطنة، وكان فرح الأمة عناداً سياسياً يفرح بأنه لا يزال قوياً لم يضعف، وكان ابتهاجها مجداً يشعر بأنه لا يزال وافراً لم يُنتقص، وكان الإجماع رداً على اليأس، وكانت الحماسة رداً على الضعف.

انبعثت صولة الحياة في الشعب كله وابتدأ المستقبل من يومئذ، فلو نزلت الملائكة من السماء في سحابة مجلجلة يُسمع تسبيحهم ليؤيدوا سعداً - لما زادوه شيئاً؛ فقد كان محله من القلوب كأنه العقيدة، وكان التصديق مبذولاً له كأنه الكلمة الأخيرة، وكانت الطاعة موقوفة عليه كأنه الباعث الطبيعي، وكان البطل في كل ذلك يشبه نبياً من قِبلِ أن كلاً منهما صور كاملة للسمو في أفكار أمة.

قال صاحب السر: ورجع الباشا من القاهرة وقد رأى ما رأى من مسامحة النفوس وصحة العهد واجتماع الكلمة وإعداد الشعب للمراس والمعاناة فقال:

تالله لقد أثبت (سعد) للدنيا كلها أن مصر الجبارة متى شاءت بنت الرجال على طريقة الهرم الأكبر في العظمة والشهرة والمنزلة والقوة. ولقد صنع هذا الرجل العظيم ما تصنع حربٌ كبيرة فجمع الأمة كلها على معنى واحد لا يتناقض، ودفعها بروح قومية واحدة لا تختلف، وجعل عرق السياسة يفور كما يفور العرق المجروح بالدم.

إن هذه الأمة بين شيئين لا ثالث لهما: إما الحزم إلى الآخر وإما الإضاعة. ولا حزم إلا أن يبقى الشعب كما ظهر اليوم طوفاناً حياً مستوي الطبيعة مندفع الحركة غامراً كل ما يعترضه إلى أن يُقضى الأمر ويقول أعداؤنا يا سماء أقلعي.

هكذا يعمل الوطن مع أهله كأنه شخص حي بينهم حين يستوي الجميع في الثقة، ويتآزر الجميع في الأمل، ويشترك الجميع في العطف الروحي، ولا يبقى لجماعة منهم حظ في رغبة غير الرغبة الواحدة للجميع؛ وهكذا يعمل الوطن بأهله حين يعمل مع أهله.

كان أعداؤنا يحسبوننا ذباباً سياسياً لا شأن له إلا بفضلات السياسة ولا عمل له في أزهارها وأثمارها وعطرها وحلواها؛ فأسمعهم الشعب اليوم طنين النحل وأراهم إبر النحل، ليعلموا أن الأزهار والأثمار والعطر والحلوى هي له بالطبيعة.

وكانوا يتخرّصون أن مذهبنا في الحياة لمصلحة المعاش فقط، وأن المصري حاكما أو محكوماً لا يمدُّ آماله الوطنية إلى أبعد من مدة عمره سبعين أو ثمانين سنة، فإذا أطلقوا أيدينا في حاضر الأمة أطلقنا أيديهم في مستقبلها. ومن ثم طمعوا أن يكون الحق الناقص في نفسه حقاً تاماً في أنفسنا لهذه العلة؛ وحسبوا أن السياسي المصري لا يتجرأ أن يقول ما يقوله السياسي الأوربي من أنه لا يخشى الموت ولكنه يخشى العار، فانه إذا مات مات وحده، وإذا جلب العار جلبه على نفسه وعلى أمته وعلى تاريخ أمته بيد أن سعداً قالها؛ وفي مثل هذا قد يكون قول (لا) معركة.

وهاهي ذي معركة اليوم التاريخية، فان الذرات الحية التي تخلق من دمائنا نحن المصريين قد ثارت في هذه الدماء في هذا النهار تعلن أنها لا ترضى أن تولد مقيدة بقيود.

أتدري ماذا عرضوا على سعد؟ إنهم عرضوا عليه ما يشبه في السخرية طاحونة تامة الأدوات والآلات من آخر طراز، ثم لا تقدم لها إلا حبة قمح واحدة لتطحنها. . . . نتيجة تسخر من أسبابها وأسباب تهزأ بالنتيجة.

إن أوربا لا تحترم إلا من يحملها على احترامه، فما أدرى السياسيين في هذا الشرق عملا أفضل ولا أقوى ولا أرد بالفائدة من إحياء الحماسة في كل شعب شرقي، ثم حياطتها وحسن توجيهها؛ فهذه الحماسة الشعبية الدائمة القوية البصيرة هي قوة الرفض لما يجب أن يرفض، وقوة التأييد لما يجب أن يقبل وهي تعد ذلك وسيلة جمع الأمر وإحكام الشأن وإقرار العزيمة في الأخلاق وتربية الثقة بالنفس، وبها يكون إذكاء الحس وتعويده إدراك الأعمال العظيمة والتحمس لها والبذل فيها.

وما علة العلل فينا إلا ضعف الحماسة الشعبية في الشرق وسوء تدبيرها وقبح سياستها، وإنا لنأخذ عن الأوربيين من نظامهم وأساليبهم وسياستهم وعلومهم وفنونهم فنأخذ كل ذلك بروحنا الفاترة في خمول وإهمال وتواكل وتفرد بالمصلحة واستبداد بالرأي، فإذا دينارهم في أيدينا درهم، وإذا نحن وإياهم في الشيء الواحد كالنحلة والذبابة على زهرة.

ليست لنا حماسة الحياة وبهذا تختلف أعمالنا وأعمالهم، وذلك هو السر أيضاً في أن أكثر حماستنا كلامية محضة إذ يكون الصراخ والصياح والتشدّق ونحوها من هذه المظاهر الفارغة - تنقيحاً للطبيعة الساكنة فينا وتنويعاً منها بغير أن نجهد في التنقيح والتنويع. ومن هذا كانت لنا أنواع من الكلام ينطلق اللسان فيها للخروج من الصمت لا غير. . . . ومنه كثير من هذا الهراء السياسي الذي يدور في المجالس والأحزاب والصحف.

إن حماسة الشعب لا تكون على أعدائه فقط بل على معايبه أيضاً وعلى ضعفه بخاصة. والشعب الفاتر في حماسته لو نال حقين مغصوبين لعاد فخسر أحدهما أو كليهما؛ أما الشعب المتحمس القوي في حماسته، فلو غُصبَ حقين ونال أحدهما لعاد فابتزَّ الآخر.

طنطا

مصطفى صادق الرافعي