مجلة الرسالة/العدد 174/القصص
→ إلى الوفد السوري | مجلة الرسالة - العدد 174 القصص [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 02 - 11 - 1936 |
نومان. . .
- مكانكم!
لويت عنان فرسي نحو مصدر الصوت الآمر، ولكن العثير الذي أثارته
حوافر الشياه حال دون أن أرى شيئاً، وصبرت قليلاً فلاح لي خلال
ذرات التراب الحائرة أربعة أشباح قد اعترضت سبيل الماشية فحالت
دون سيرها، ولما همد الغبار تبينت في الأربعة الأشباح أربعة رجال
قد ضرب كل منهم لثامه على وجهه فلم يبن منه إلا عينان كعيني
الصقر، وتمنطق كل منهم بحزام من الرصاص لمعت ظروفه النحاسية
تحت أشعة الشمس المائلة للمغيب، وسدد كل منهم فوهة بندقيته الكامدة
نحونا، لا يتحرك ولا تطرف عينه.
وانطلق الصوت الآمر مرة أخرى أجش:
- مكانكم قبل الهلاك!. . .
وأدرت رأسي ببطء نحو رفاقي في رحلتي، وكانوا ربعة نفر من جنود الشرطة السورية، فتبينت وجوهاً علاها الاضطراب، ورؤوساً منكسة الأذقان؛ ورأيتهم وكل قد خفض بصره فزعاً، يخالسون الأنظار ويسترقون الرؤية؛ فكدت، أنا موظف الحجز في محكمة (الرقة) أقهقه في الموقف العصيب من أمر هؤلاء النفر، يرتعدون هلعاً وفي كتف كل منهم بندقية كأنما علقت بإشارة ناطقة على الجبن والخور.
وساد صمت قصير لم يقطعه إلا حوافر الخيل تضرب الأرض، وارتفع بعدها الصوت الأجش:
- هذا الطريق إلى (الحان) فدونكموه. . . هيا!
سكت أصحابي ولكني قلت مستفهماً:
- وهذه الماشية المحجوزة؟ - هيا. . . الماشية لنا. . .
كان جواباً حاسماً، ولكن رئيس الجنود جمع شتات شجاعته وصاح معترضاً:
- وكيف نتركها لكم؟ هذا لن يكون
وقبل أن يلفظ الحرف الأخير دوى صوت الطلقة التي أطاحت قبعته. . .
- هاه! هيا سيروا، ولا يلتفتن أحد وراءه. . .
وكان أول من لكز حصانه رئيس الجنود وقد ملكه الذعر فأرسل العنان لفرسه لا يلوي على شيء، وأرسلنا الأعنة لخيلنا، نريد أن نبلغ (الحان) قبل المغيب.
لاحت لنا بيوت الشعر من قرية الحان وبين الشمس وبين أن تغيب قليل، وكانت خيولنا تسير ببطء وتثاقل، كأنما تحس بما عليها من عار وخزي، وكان الجنود ساهمين لا ينبس أحدهم ببنت شفة، فكأن الخوف والخجل تكاتفا على إظهارهم بمظهرهم هذا الذليل؛ وسرت خلفهم منعزلاً عنهم أفكر في هذه المهزلة التي أكرهنا على تمثيلها. فلما لاحت لي أطلال (الحان) العتيق تحيط بها بيوت الشعر عنت لي فكرة، فعزمت على أمر.
تلقانا مختار القرية، الذي كنت به وبأهل قريته عارفاً، بخير ما يتلقى المرء، ولما ترجلت انتحيت به ناحية وقلت له:
- أريد نومان
فرفع إلى رأسه ثم ألقى على أصحابه الجنود نظرة أعادها إلي في دهشة وتساؤل، فتبسمت وقلت:
- لا تخش شيئاً، لست أجهل أن نومان طريد الحكومة ولكني أطلبه
فحرك كتفيه باستسلام وقال:
- كما تشاء
ومضى، ولم تكن إلا برهة حتى عاد وأسر إلي: (هو سينتظرك عند الجدار الغربي من الحان)، فيممت المكان الذي ذكر، فلاح لعيني فتى طويل القامة متين البناء، ملق عباءته على رأسه، ومرخ لثامه على وجهه، وفوق منكبيه تنوس ضفيرتان بلون الليل على ثيابه البيضاء، قد اقترن حاجباه فوق اللثام، ولمع مقبض خنجره خلف الحزام؛ ومذ رآني خف إلي مصافحاً فتعانقنا، وبادرته: - هيه يا نومان!
فأجابني صوت صافي النبرات رنان:
- يا لبيك! ما وراءك؟
فأخبرته الخبر وما سينجم عنه، ثم قلت له:
- أنت وما ترى، فلقد طرحت الأمر عن عاتقي
فلمعت الابتسامة خلف اللثام الكثيف، وقال بلهجة الحازم الواثق:
- لعينيك أبا خالد، فسيبلغك خبري. . .
وابتعد عني يتخطى الأطناب متغلغلاً بين البيوت، وعاد بعد يسير معتلياً صهوة فرسه وقد تمنطق بحزامين من الرصاص وبندقيته في يده، فلما بلغ موقفي لكز الجواد وجال على ظهره جولة ثم قذف بالبندقية في الهواء وتلقفها بأصابعه والجواد يعدو، ثم هتف بي:
- إلى اللقاء، فاتنظرني
وأتبعته نظري وقد سار في الطريق الذي جئنا منه حتى حجبه عن عيني الغبار الثائر
تعددت الطلقات تمزق سكون الليل البهيم، فانتبه رفاقي بعد أن أخذ الكرى بمعاقد أجفانهم فهوموا، وأرجف من في مضيف المختار من رجال القرية أسماعهم إلى الأصوات برهة، ثم انصرفوا إلى ما هم فيه من حديث؛ أما المختار فقد نظر إلي نظرة المستفهم، فأجبته بابتسامة الخبث وقد فهمت ما يريد؛ فهز رأسه وتمتم بكلمات غير مفهومة. وكانت أصوات البنادق لا تزال تلعلع حيناً بعد حين، آناً متفرقة وطوراً متوالية متقاطعة؛ وبعد هنيهة سكت كل شيء، فوجب قلبي وتوجست خوفاً من هذا السكون، وقد حدثتني النفس بمصاب نومان، غير أني طردت أفكار السوء وخرجت من المضيف.
كان ليل البادية زاهياً، نجومه الوضيئة المنتثرة في نواحي السماء الزرقاء، ونسيم أول الربيع البليل يعبث بأروقة البيوت وكواسرها، وعواء الكلاب يتردد في أطراف المنازل تارة وينقطع أخرى، ولاح لي (الحان) كشبح جبار أسود حاثم في الفلاة المترامية الأطراف، فوضعته نصب عيني وأصخت بسمعي إلى الطبيعة الساكنة.
كم هي رهيبة هذه القناطر المعقودة والأقواس المتتالية في ردهات (الحان) العتيق!
كم هي مهيبة هذه الأعمدة المتوازية التي تملأ أبهاءه مشققة السطوح مهشمة الرؤوس! وهذه الجدران التي لم يذهب من حجارتها، على كر القرون والعصور، إلا ما أخذ أثافي للقدور وأركاناً للمواقد! لقد جلت في قاعات هذا القصر القديم ونظرت خلال خروق السقوف من غرفة إلى الكواكب الزاهرة، ثم رقيت الجدار وأرسلت بصري يجوب أنحاء البادية، ولكن عيني لم تقع إلا على فلاة موحشة سوداء ونجوم تليها نجوم لا يبلغها حصر، ويعيا عن عدها الفكر.
وانتابتني الهواجس مرة أخرى، ولكن الغبار القاتم الذي ثار عند مد البصر قشع غيومها؛ فقد ميز سمعي في هدأة الليل وقع حوافر الشياه على رمال الطريق فانجابت عني الشكوك وملأ قلبي الفرح وقد تبينت صوت نومان يحث الشياه على المسير.
ونبحت الكلاب هذا الفوج من الطارقين فأوقدت النيران وحمل كل قبساً ليتبين هذه الغبرة الغريبة، قلما اقترب القادمون رأيت على ضوء المشاعل منظراً يملأ الصدور حبوراً ويثير العواطف والشعور: قطيع من الغنم يتلوه أربعة رجال مشمرو المآزر ملثمو الوجوه، قد كتفت أيديهم مكن خلاف وعلقت بنادقهم في الأعناق، يسوقهم سوق الماشية فتى متين الهيكل، شديد الأسر، ملطخ الثياب بالدماء القانية، قد اعتلى صهوة جوادٍ أشقر، تنوس على كتفيه ذؤابتان طويلتان كلما حرك رأسه ليرد تحية محي.
فقزت عن الجدار وعدوت أشق الجموع إلى نومان هاتفاً
- المذبَّة المذبَّة أبا صخر!
- أبشر أتاك الخير. . .
ومد ذراعيه فاعتنقته.
كان لهيب النار الموقدة في ساحة (الحانة الكبرى) يتلوى كرؤوس الثعابين فترقص له الظلال على الأقواس الرهيبة والأعمدة المرمرية الهائلة، وكان نومان قائماً في وسط الساحة معتمداً على بندقيته ينظر إلى أسراه نظر الصقر إلى الفريسة، كرمز للبطولة والنبل.
رفع البطل رأسه ثم أداره ببطء على الحاضرين ثم قال:
لقد اجترأ هؤلاء فقطعوا الطريق على فلان وصحبته، فأشهدكن أنه حر في حكمه عليهم. . . أعندك ما تقول يا أبا خالد؟ - لا، غير الشكر الذي أعجز عن وصفه.
فأطرق قليلاً ثم قال:
- لقد وفيت بما وعدت، وحكمتك فحكمني
فقلت له:
- إنما أنا رهن إشارتك، وحكمك نافذ. فمر تطع
- أسراي أطلقهم
. . . وبين زغاريد النساء وهتاف الرجال فك نومان وثاق الأسرى، وسار إلى الباب رافع الرأس، بقدم ثابتة وخطى جبارة.
(حلب)
(ع)