مجلة الرسالة/العدد 174/الدكتور ألفرد بتلر
→ في الأدب المقارن | مجلة الرسالة - العدد 174 الدكتور ألفرد بتلر [[مؤلف:|]] |
الخطابة مَلَكَةٌ وفن ← |
بتاريخ: 02 - 11 - 1936 |
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
نعت لنا الأخبار منذ قليل المغفور له الدكتور ألفرد بتلر المؤرخ الإنجليزي الكبير والعالم بالآثار المصرية.
وقد كان ذل الرجل العظيم إنجليزي الجنس واللغة، ولكنه كان مصري العقلية عربي الثقافة؛ قضى الشطر الأكبر من حياته منصرفاً إلى دراسة الحياة في وادي النيل وتاريخ حضاراتها الغابرة، حتى لقد قيل إن عاطفته كانت في قرارتها مصرية، فكانت آخر أنفاسه متجهة إلى النيل، وآخر أمنياته منصرفة إلى التملي به وتنسم نسماته.
وقد كان ارتباطه الروحي والعقلي بمصر وواديها داعياً إلى أن تكون كل آثاره العلمية مرتبطة بها، فليس له مؤلف لا يتصل بمصر وتاريخها وآثارها، وكان همه الأكبر منصرفاً إلى تلك الفترة التي تتعسر دراستها على الأكثرين، وهي فترة الحكم الروماني الأخير وأول العصر الإسلامي، فألف كتاباً في الأديرة والكنائس المصرية، وكتاباً آخر في تاريخ الفتح العربي لمصر؛ ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن تاريخ مصر في هذه الفترة مدين أكبر الدين لهذا المؤلف الكبير، إذ لولا دراسته العميقة وعقله الكبير وعلمه الواسع لظلت هذه الفترة من أظلم فترات تاريخ هذه البلاد.
لقد فقدت مصر استقلالها على يد الرومان بعد أن استولى عليها قيصر وذهبت دولة البطالسة عنها، ودخلت منذ ذلك العهد في دائرة الدولة الرومانية الكبرى، واختفى تاريخها في غمار تاريخ الدولة المتبوعة، ومازالت بعد ذلك تنحدر على جوانب الحوادث من هوة إلى هوة كما تنحدر البلاد التابعة المغلوبة في كل عصور التاريخ، وغطت على صورتها ركام من آثار المظالم والمهانة والاضطراب.
فإذا كان الدكتور بتلر قد استطاع أن يستخرج صورة مصر في تلك الحقبة من طبقات تلك الركام، فقد أدى أكبر خدمة لأبنائها، فليس من الهين أن يستطيع باحث الوصول إلى مثل هذا الكشف، ولاسيما إن كان يحيط بعلمه الظلام والإبهام وتقادم العصور.
على أن ظلام تلك العصور التي جلاها الدكتور بتلر لم يقتصر أثره على إخفاء معالم تاريخ البلاد، بل لقد أدى إلى نتيجة أشد ضرراً وأقسى وقعاً؛ وذلك أنه قد نشأت في هذه الأثناء قصص لا أساس لها وخرافات من خلق الخيال والجهل وجهت الباحثين إلى وجهة مضلة جعلت التاريخ يظلم أهل مصر في تلك العصور، فيصمهم بأقسى الوصمات والتهم، وكان للدكتور بتلر فضل إظهار الحق وإعادة الكرامة المصرية إلى ذكرى أهلها.
ولما فتح العرب مصر كانوا لا يعبأون بغير الفتح في أول فورة التوسع والنضال، وما كانوا يخرجون من حرب إلا ليدخلوا في غمار حرب جديدة، ولم يكن لهم سجلات عند ذلك يقيد بها تسلسل الحوادث ولا يثبت فيها وصفها، فلم يكن بد من أن يلجأ المؤرخون في القرون التالية إلى روايات المحدثين وقصاص الأخبار؛ وكان المؤرخون يبذلون في التحري عن أخبارهم جهد المستطاع، ولكنهم مع ذلك كانوا لا يجدون مناصاً من تلقفها من أصحابها وإسنادها إلى أصحابها تخلصاً من عبء الأمانة، ولهذا صار تاريخ الفتوح العربية خليطاً من الأخبار والقصص والروايات؛ فإذا أراد باحث أن يتتبع سلسلة من الحوادث وجد نفسه حيال إبهام شديد وغموض يسد عليه السبل؛ ثم تتابعت العصور على هذه الأخبار فتناولها الباحثون وتصرفوا فيها واستخدموها في تأليفهم بالزيادة والنقص والتصرف، حتى صارت الأخبار الصحيحة مختفية تحت طبقات أخرى من الركام المتخلفة من العصور المتعاقبة.
فإذا نظرنا إلى عمل الدكتور بتلر نظرة عادلة عرفنا مقدار خدمته لتاريخ مصر، إذ استطاع أن يستخرج تاريخ العصر الروماني في مصر أولاً، وأن يصفي أخبار العصر العربي الأول مما شابه من القذى والصدأ. ولقد كان عمله عظيماً في نواح متعددة لا نستطيع هنا حصرها. على أننا نضرب مثلاً أو مثلين منها:
نشأت خرافة سخيفة في العصور المتأخرة من التاريخ الإسلامي وهي خرافة إحراق العرب لمكتبة الإسكندرية عندما تم لهم فتحها، ولسنا ندري على سبيل التحقيق ما هي الخطوات الأولى التي أدت إلى خلق تلك الخرافة، ولكن أحد المؤرخين أوردها في بعض مؤلفاته فرددها من جاء بعده، ومازال صداها يتردد بعد ذلك حتى صار الناس يتلقونها بغير تمحيص ويوردونها موارد الحقائق الثابتة التي لا يرون ضرورة لمناقشتها؛ واتخذ أهل الأغراض تلك الخرافة وسيلة يتوصلون بها إلى الحط من شان المدنية العربية والغض من الذكاء العربي. وأي وسيلة أنجع في الدعاية على العرب والإسلام من أن يذكر اسم مكتبة الإسكندرية العظمى ويقال إن العرب قد أحرقوا تلك الثروة الفكرية النادرة وأبادوا بذلك ما خلفته أذهان النوابغ في كل العصور القديمة؟
ولقد كان للدكتور بتلر الفضل الأكبر في أنه تتبع أثر تلك المكتبة كما يتبع الرائد آثار الأقدام وهو هادئ النفس مطمئن العين حتى أظهر لأهل القرن العشرين تقلب القرون الماضية على تلك المكتبة وبين لهم ما آل إليه أمرها على يد قيصر ثم على يد أحزاب المسيحية الأولى المتحمسة التي دفعتها حماسة الدين أو سورة العصبية إلى القضاء على ذلك الأثر العلمي النفيس.
ولقد حمد المنصفون للدكتور بتلر ذلك المجهود العظيم في إظهار الحق والإبانة في نصرته، وكان من بين هؤلاء المنصفين اللورد كرومر إذ كتب إلى ذلك المؤلف خطاباً خاصاً جاء فيه: (لقد قضيت القضاء الأخير على تلك الخرافة السخيفة، خرافة إحراق العرب لكتبة الإسكندرية).
ولعل الدكتور بتلر أول من حاول محاولة منتجة أن يكشف القناع عن شخصية لم تزل منذ بدء الإسلام مثار التساؤل والإبهام ألا وهي شخصية (المقوقس) فإنه استطاع بعد جهد عظيم وبحث علمي يكاد يكون معجزاً أن يبين للناس من هو ذلك الرجل أو من هم هؤلاء الذين أطلق عليهم ذلك الاسم. ولم يكن في بحثه يدع ثغرة للإبهام ولا للشك، بل كان ينخل الحقائق ويصفيها حتى لا يتسرب إليها في أثناء البحث ما يشوبها.
ولقد كان من أكبر آماله أن يرى كتابه منقولاً إلى لغة العرب، ولكن ذلك الأمل قد طال العهد به حتى بلغ نيفاً وعشرين عاماً، ثم توقفت لجنة التأليف والترجمة والنشر إلى ترجمته، فلما بلغه نبأ ذلك الحدث كان اغتباطه أشد اغتباط حتى أنه لم يتمالك أن لام المصريين في خطاب بعث به إلى بعض أصدقائه على أنهم لم يعنوا بنقل ذلك الكتاب من قبل مع أنه كتاب يخدم تاريخهم ويسد فيه فراغاً عظيماً.
وكان الدكتور بتلر فوق خدمته لتاريخ مصر كثير العناية بما يهمها. ولقد أرسل إليه صديق كتاباً مرة يشير فيه إلى ما جاء في كتابه (فتح العرب لمصر) من أن قبر سيدنا عمرو بن العاص غير معروف، وأن ذلك الصديق ذكر له أن ذكر قبر ذلك الرجل العظيم وارد في بعض المؤلفات العربية وأنه بجوار مدفن سيدنا عقبة بن عامر بالقرافة الصغرى.
فأثار ذلك النبأ حماسة الشيخ الإنجليزي فأرسل إلى صديقه يقول: (لئن صح أنك استطعت معرفة مكان قبر عمرو بن العاص واستطعت التثبت من ذلك بالوسائل العلمية التي لا تدع مجالاً للشك، فما أحراك أن تثير في الناس دعوة لإقامة أثر عظيم على ذلك القبر جدير بعظمة فاتح مصر الكبير).
ولا أجد لهذه الكلمة خاتمة خيراً من أن أقتطف قطعة من الخطاب الذي أرسله إلى صديقه يذكر له فيه ثناء اللورد كرومر عليه، وقد جاءت في تلك الكلمة حكمة بالغة أحب أن أسوقها لأهل البحث والعلم. قال: (ولكن أهل البحث الذي يجيدون في أعمالهم قلما ينتظرون ثواباً على عملهم، اللهم إلا ما يجدون فيه من لذة البحث ونشوة الكشف عن الحقائق).
وهذه صورة تلك القطعة من خطابه بخطه أقدمها لقراء الرسالة أثراً من ذلك الصديق الكبير عليه رحمة الله.
محمد فريد أبو حديد