مجلة الرسالة/العدد 173/نظرية النبوة عند الفارابي
→ صور سياحة | مجلة الرسالة - العدد 173 نظرية النبوة عند الفارابي [[مؤلف:|]] |
في الأدب المقارن ← |
بتاريخ: 26 - 10 - 1936 |
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
يستمد كل دين سماوي أولاً وبالذات على الوحي والإلهام، فمنهما صدر، وبما لهما من إعجاز فاز، وعلى تعاليمهما تأسست قواعده وأركانه. وما النبي إلا بشر منح القدرة على الاتصال بالله والتعبير عن إرادته؛ وهذا هو كل ما له من امتياز، فلا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح، ولا يروي خبراً إلا وهو تنزيل من حكيم حميد، ولا يقضي بقضاء إلا وهو ينفذ إرادة الله. والإسلام ككل الديانات السامية يستمد قوته من السماء، فعقائده وقوانينه مأخوذة من الكتاب والسنة اللذين هما وحي مباشر أو غير مباشر: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى)، فمن ينكر الوحي يرفض الإسلام في جملته، أو يهاجمه على الأقل في أساسه ويهدم دعائمه الأولى والرئيسية. وتلك جريمة شنعاء قل أن يجرؤ عليها أشخاص عاشوا فوق أرض الإسلام وتحت سمائه. وليس شيء ألزم لفيلسوف مسلم من أن يحتفظ في مذهبه بمكان للنبوة والوحي إذا شاء أن تقبل فلسفته وتقابل بالتسامح من جانب إخوانه المسلمين. وقد كان فلاسفة الإسلام حريصين كل الحرص على أن يوفقوا بين الفلسفة والدين، بينا العقل والنقل، بين لغة الأرض ولغة السماء، لهذا لم يفتهم أن يشرحوا لغة السماء ويوضحوا كيفية وصولها إلى سكان العالم الأرضي وبينوا الدين في اختصار على أساس عقلي، فكونوا نظرية النبوة التي هي أهم محاولة قاموا بها للتوفيق بين الفلسفة والدين. والفارابي هو أول من ذهب إلى هذه النظرية وفصل القول فيها بحيث لم يدع فيها زيادة لخلفائه فلاسفة الإسلام الآخرين. وهذه النظرية هي أسمى جزء في مذهبه الفلسفي، تقوم على دعائم من علم النفس وما وراء الطبيعة، وتتصل اتصالاً وثيقاً بالسياسة والأخلاق، ذلك لأن الفارابي يفسر النبوة تفسيراً سيكلوجياً نفسياً، ويعدها وسيلة من وسائل الاتصال بين عالم الأرض وعالم السماء، ويرى فوق هذا أن النبي لازم لحياة المدينة الفاضلة من الناحية السياسية والأخلاقية، فمنزلته لا ترجع إلى سموه الشخصي فحسب، بل لما له من أثر في الوسط الاجتماعي.
قد يكون الفارابي أكثر فلاسفة الإسلام اشتغالاً بالمسائل الاجتماعية، فهو يتعرض لها في كثير من مؤلفاته، ويعنى بها عناية تدل على الرغبة والاهتمام، وبين رسائله القليلة الت وصلت إلينا رسالتان رئيسيتان موقوفتان على السياسة والاجتماع، وهما: السياسة المدنية، وآراء أهل المدينة الفاضلة. وله شرح مختصر على نواميس أفلاطون لا يزال مخطوطاً حتى اليوم ومحتفظاً به في مكتبة ليدن، وقد رأيناه هذا الصيف فيما رأينا من مخطوطات عربية أخرى بالمكاتب الأوربية؛ وكتاب آراء أهل المدينة الفاضلة يكفي وحده في أن نعد الفارابي بين من فكروا تفكيراً منظماً في النظريات السياسية، وعله أشهر كتبه وألصقها به؛ وقد عرف المتأخرون له هذه المنزلة، فلقبوا مؤلفه به وسموه (صاحب المدينة الفاضلة)، وهذا الكتاب يحاكي جمهورية أفلاطون إلى حد بعيد، ويحوي كثيراً من الآراء الأفلاطونية. والواقع أن شيخ الأكاديمية انفرد تقريباً، بين مفكري الإغريق، بالتأثير في دراسة العرب الاجتماعية، وبرز في هذا المضمار على أرسطو الذي ساد الفلسفة الإسلامية في نواحيها الأخرى.
فعلى طريقة أفلاطون يرى الفارابي أن المدينة كل مرتبط الأجزاء ومتضامها؛ هي كالبدن إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر. فالألم الذي يحس به أحد أفراد الجمعية لا بد أن يعدوه إلى الآخرين، والسرور الفردي لا يصح أن يعرف في جمعية صالحة. فلا يألم شخص وحده، ولا يُسر وحده، بل يجب أن تسري في الجميع روح واحدة تحس بإحساس مشترك. وإذا كانت أعضاء الجسم ذات وظائف متميزة فواجب أن يكون لكل فرد من أفراد المجتمع عمل خاص، ولن تتم للجمعية سعادتها إلا إذا قسم العمل بين أفرادها تقسيماً متناسباً مع كفايتهم ومشوباً بروح التضامن والتعاون، وبديهي أن الأعمال الاجتماعية متفاوتة بتفاوت غاياتها؛ وأسماها وأشرفها ما اتصل برئيس الجمعية ومهمته، لأنه من المدينة كالقلب من الجسم، فهو مصدر الحياة وأصل التناسق والنظام؛ وليست وظيفته سياسية فقط، بل هي أخلاقية كذلك؛ فإنه مثال يحتذى وسعادة الأفراد تتلخص في التشبه به.
يبني الفارابي كل آماله على رئيس المدينة ويعلق عليه كل الأهمية، كما علق شيخ أثينا أهمية كبيرة على رئيس الجمهورية، ويشترط فيه شروطاً كثيرة تشبه تمام الشبه الشروط التي قال بها أفلاطون من قبل، بل هي مأخوذة عنها نصاً. ويعقد لها في كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة) فصلاً مستقلاً عنوانه: (في خصال رئيس المدينة الفاضلة)، وفي هذا الفصل يقرر أنه لابد أن يكون رئيس المدينة سليم البنية قوي الأعضاء تامها، جيد الفهم والتصور، قوي الذاكرة، كبير الفطنة، سريع البديهية، حسن العبارة، محباً للعلم والاستفادة، متحلياً بالصدق والأمانة، نصيراً للعدالة، عظيم الإرادة، ماضي العزيمة، قانعاً متجنباً للملذات الجسمية. شرائط صعبة التحقيق ونادرة الوجود مجتمعة في شخص واحد كما يلاحظ الفارابي نفسه، ومع هذا لا يتردد في أن يزيدها تعقيداً؛ فيضيف إليها شرطاً آخر أملاه عليه مذهبه العام واستعداده الصوفي، أو بعبارة أخرى يضيف إليها الشرط الذي يبعده عن أفلاطون بقدر ما يقربه من التعاليم الإسلامية، وذلك الشرط هو أنه لابد لرئيس المدينة من أن يسمه إلى درجة العقل الفعال الذي يستمد منه الوحي والإلهام، والعقل الفعال، كما نعلم، أحد العقول العشرة المتصرفة في الكون، ونقطة الاتصال بين العبد وربه، ومصدر الشرائع والقوانين الضرورية للحياة الخلقية والاجتماعية، وعلنا تلحظ من هذا أن خيال الفارابي - ولو في هذه النقطة على الأقل - أخصب من خيال أفلاطون. ففي حين أن مؤلف الجمهورية يريد أن يرغم الفيلسوف على النزول من سماء التأملات إلى عالم الشؤون السياسية، يطلب الفارابي من رئيس مدينته أن يندمج في العالم الروحي وأن يحيا بروحه أكثر من حياته بجسمه، ويشترط فيه أن يكون قادراً باستمرار على الاتصال بالعقل الفعال. فالحاكم الفيلسوف الذي قال به أفلاطون يتحول إلى حكيم واصل عند الفارابي. يقول دي بور في حق: (يُبْرز الفارابي رئيسه في كل الصفات الإنسانية والفلسفية؛ فهو أفلاطون في ثوب محمد النبوي). وواجب على رئيس كهذا قد حظي بالسعادة الحقة ونعم بالاتصال بالكائنات الروحية أن يجتذب مرءوسيه نحوه، ويقوم على تهذيب أرواحهم أولا وبالذات، ويصعد بهم إلى مستوى النور والإشراق. فنحن إذن أمام مدينة سكانها قديسون ورئيسها نبي، وهي مدينة لا وجود لها إلا في مخيلة الفارابي.
بيد أن الفيلسوف العربي يأبى إلا أن يصور لنا من هذا الخيال حقيقة ويحملنا على التسليم بإمكان المدينة الفاضلة التي ينشدها، ذلك لأن الاتصال بالعقل الفعال، وإن يكن نادر الوجود وخاصاً بعظماء الرجال، ميسور من طريقين: طريق العقل وطريق الخيالة، أو طريق التأمل وطريق الإلهام؛ فبالنظر والتأمل يستطيع الإنسان أن يصعد إلى درجة العقل المستفاد حيث تتقبل الأنوار الإلهية، وليست النفوس كلها قادرة طبعاً على هذا الاتصال، وإنما تسمو إليه الأرواح القدسية التي تستطيع أن تخترق حجب الغيب وتدرك عالم النور. يقول الفارابي: (الروح القدسية لا تشغلها جهة تحت عن جهة فوق؛ ولا يستغرق الحس الظاهر حسها الباطن؛ وقد يتعدى تأثيرها من بدنها إلى أجسام العالم وما فيه؛ وتقبل المعلومات من الروح والملائكة بلا تعليم من الناس). فبفضل الدراسات النظرية الطويلة والتأملات العقلية الكثيرة يستطيع الحكيم الاتصال بالعقل الفعال، وهذا الحكيم الواصل هو الذي يسمح الفارابي بأن يكل إليه مقاليد أمور مدينته، وبهذا يحل (صاحب المدينة الفاضلة)، على طريقته طبعاً مشكلة الرئيس السياسي والاجتماعي، وهو حل صوفي كما ترى؛ وليس غريباً أن يصدر عن فيلسوف يقول بنظرية السعادة والاتصال. فآراء الفارابي السياسية، وإن اعتمدت على دعائم أفلاطونية مشوبة بنزعة صوفية واضحة.
على أن الاتصال بالعقل الفعال ممكن أيضاً عن طريق الخيالة، وهذه هي حال الأنبياء؛ فكل إلهاماتهم وما ينقلون إلينا من وحي منزل أثر من آثار الخيالة ونتيجة من نتائجها، وإذا ما رجعنا إلى علم النفس عند الفارابي وجدنا أن المخيلة تلعب فيه دوراً هاماً وتنفذ إلى نواحي الظواهر النفسية المختلفة. فهي منبتة الصلة بالميول والعواطف وذات دخل في الأعمال العقلية والحركات الإرادية. تمد القوى النزوعية بما يستثيرها ويوجهها نحو غرض ما؛ وتغذي الرغبة والشوق بما يؤججهما ويدفعهما إلى السير في الطريق حتى النهاية. هذا إلى أنها تحتفظ بالآثار الحسية وصور العالم الخارجي المنقولة إلى الذهن عن طريق الحواس، وقد لا يقف عملها عند ادخار الصور الذهنية والاحتفاظ بها، بل تخلق منها قدراً مبتكراً لا تحاكى فيه الأشياء الحسية، وبهذا يشير الفارابي إلى الخيالة المبدعة التي تنبه إليها علماء النفس المحدثون بجانب الخيالة الحافظة ومن الصور الجديدة التي تخترعها الخيالة تنتج الأحلام والرؤى. ويعنينا هنا قبل كل شيء أن نبين أثر الخيالة في الأحلام وتكوينها. فإنا إن فسرنا الأحلام تفسيراً علمياً استطعنا أن نفسر النبوة وآثارها. ذلك لأن الإلهامات النبوية إما أن تتم في حال النوم أو في حال اليقظة؛ وبعبارة أخرى إما أن تبدو على صورة الرؤيا الصادقة أو الوحي. والفرق بين هذين الطريقين نسبي، والاختلاف بينهما في الرتبة لا في الحقيقة. وما الرؤيا الصادقة إلا شعبة من شعب النبوة تمت إلى الوحي بصلة وتتحد معه في الغاية وإن اختلفت عنه في الوسيلة. فإذا فسرنا أحدهما أمكن تفسير الآخر. وقد عقد الفارابي في كتابه: آراء أهل المدينة الفاضلة فصلين متتاليين (في سبب المنامات، وفي الوحي ورؤية الملك)؛ وفي هذا ما يبين الصلة بين هذين المبحثين.
فهو يبدأ أولا بالأحلام فيوضحها توضيحاً يقرب كثيراً من بعض الآراء العلمية الحديثة، ويرى أن المخيلة متى تخلصت من أعمال اليقظة تفرغت أثناء النوم لبعض الظواهر النفسية، فتخلق صوراً جديدة أو تجمع صوراً ذهنية قديمة على أشكال مختلفة محاكية ومتأثرة في ذلك ببعض الاحساسات والمشاعر الجسمية أو العواطف النفسية والمدركات العقلية، فهي قوة مخترعة قادرة على الخلق والإيجاد والتصوير والتشكيل، ولها أيضاً قدرة عظيمة على المحاكاة والتقليد، وفيها استعداد كبير للانفعال والتأثر فأحوال النائم العضوية والنفسية واحساساته ذات أثر واضح في مخيلته، وبالتالي في تكوين أحلامه، وما اختلفت الأحلام فيما بينها إلا لاختلاف العوامل المؤثرة فيها، فنحلم بالماء أو السباحة مثلاً في لحظة يكون مزاجنا فيها رطبا، وكثيرا ما مثلت الأحلام تحقيق رغبة أو الفرار من فكرة بغيضة؛ فقد يتحرك الإنسان أثناء نومه تلبية لنداء عاطفة خاصة، أو يجاوز مرقده ويضرب شخصاً لا يعرفه أو يجري وراءه، وعلى الجملة الميول الكامنة والاحساسات السابقة أو المصاحبة لحلم ما ذات دخل عظيم في تكوينه وتشكيله. ولسنا في حاجة لأن نشير إلى أن هذه الملاحظات على بساطتها تشبه التجارب العلمية التي قام بها فرويد وهرفي وموري من علماء النفس المحدثين الذين اشتغلوا بالأحلام وتحليلها. وقد أبان فرويد في جلاء أثر الميول الكامنة في تشكيل الرؤى والأحلام، وخاصة لدى الكهول والشبان؛ واستطاع هرفي وموري أن يبرهنا على أن الحلم غالباً ما يكون امتداداً لإحساس سابق أو نتيجة لإحساس مقارن، فقد يحلم الإنسان بحريق في حجرته في الوقت الذي يقع فيه بصيص من الضوء على حدقته أثناء نومه، أو بأنه يضرب على أثر ألم في ظهره. وقد حدث مرة أن رأى شخص أن داره تنهار به في الوقت الذي انكسرت فيه إحدى قوائم سريره. ولقد وصل الأمر بهرفي أن ظن - بناء على ما سبق - أنه يمكن أن يتصرف في أحلامه ويشكلها كما يشاء، فمتى ربط صلة بين بعض الاحساسات وذكريات معينة استطاع في نومه استعادة هذه الذكريات بإثارة الاحساسات المتصلة بها. وقديماً حاول الإغريق أن يحتفظوا بأحلامهم أو يثيروها بواسطة بعض الطقوس الدينية.
وإذا كان في مقدور الخيالة أن تحدث كل هذه الصور فهي تستطيع أن تشكلها بشكل العالم الروحاني، فيرى النائم السموات ومن فيها، ويشعر بما فيها من لذة وبهجة. وفوق هذه فقد تصعد المخيلة إلى هذا العالم وتتصل بالعقل الفعال الذي تتقبل منه الأحكام المتعلقة بالأعمال الجزئية والحوادث الفردية، وبذا يكون التنبؤ؛ وهذا الاتصال يحدث ليلاً ونهاراً، وبه نفسر النبوة، فهو مصدر الرؤيا الصادقة والوحي. يقول الفارابي: (إن القوة المتخيلة إذا كانت في إنسان ما قوية كاملة جداً، وكانت المحسوسات الواردة عليها من خارج لا تستولي عليها استيلاءً يستغرقها بأسرها، ولا يستخدمها للقوة الناطقة، بل كان فيها مع اشتغالها بهذين فضل كثير تفعل به أيضاً أفعالها التي تخصها، وكانت حالها عند اشتغالها بهذين في وقت اليقظة مثل حالها عند تحللها منها في وقت النوم. . . اتصلت بالعقل الفعال وانعكست عليها منه صور في نهاية الجمال والكمال، وقال الذي يرى ذلك إن لله عظمة جليلة عجيبة، ورأى أشياء عجيبة لا يمكن وجود واحد منها في سائر الموجودات أصلاً، ولا يمتنع إذا بلغت قوة الإنسان المتخيلة نهاية الكمال أن يقبل في يقظته عن العقل الفعال الجزئيات الحاضرة والمستقبلة أو محاكياتها من المحسوسات، ويقبل محاكيات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة ويراها، فيكون له بما قبله من المعقولات نبوة بالأشياء الإلهية، وهذا هو أكمل المراتب التي تنتهي إليها القوة المتخيلة والتي يبلغها الإنسان بهذه القوة فميزة النبي الأولى في رأي الفارابي أن تكون له خيالة قوية تمكنه من الاتصال بالعقل الفعال أثناء اليقظة وفي حال النوم، وبهذه الخيالة يصل إلى ما يصل إليه من إدراكات وحقائق تظهر على صورة الوحي أو الرؤيا الصادقة، وليس الوحي شيئاً آخر سوى فيض من الله عن طريق العقل الفعال، وهناك أشخاص قويو الخيالة، ولكنهم دون الأنبياء فلا يتصلون بالعقل الفعال إلا في حال النوم، وقد يعز عليهم أن يعربوا عما وقفوا عليه، أما العامة والدهماء فمخيلتهم ضعيفة هزيلة لا تسمو إلى درجة الاتصال هذه لا في الليل ولا في النهار. يقول الفارابي: (ودون الأنبياء من يرى بعض الصور الشريفة في يقظته وبعضها في نومه، ومن يتخيل في نفسه هذه الأشياء كلها ولكن لا يراها ببصره، ودون هذا من يرى جميع هذه في نومه فقط؛ وهؤلاء تكون أقاويلهم التي يبرون بها أقاويل محاكية ورموزاً وألغازاً وتشبيهات، ثم يتفاوت هؤلاء تفاوتاً كثيراً). وهنا يشير الفارابي إلى جماعة الأولياء والواصلين الذي يتفقون مع الأنبياء في بعض النواحي ويختلفون عنهم في نواحي أخرى.
هذه هي نظرية النبوة التي انتهى إليها الفارابي بعد أبحاثه الاجتماعية والنفسية. فالنبي والحكيم في رأيه هما الشخصان الصالحان لرياسة المدينة الفاضلة؛ وكلاهما يحظى في الواقع بالاتصال بالعقل الفعال الذي هو مصدر الشرائع والقوانين الضرورية لنظام الجمعية، وكل ما بينهما من فارق أن الأول يحظى بهذا الاتصال عن طريق الخيالة والثاني عن طريق البحث والنظر. وسندع الحكيم وطريق اتصاله جانباً فقد تعرضنا له من قبل على صفحات الرسالة حين تكلمنا عن نظرية السعادة، وسنوجه عنايتنا فيما يلي إلى بيان أصول نظرية النبوة وأثرها فيمن جاء بعد الفارابي من فلاسفة ومفكرين.
(يتبع)
إبراهيم بيومي مدكور