الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 173/القصص

مجلة الرسالة/العدد 173/القصص

بتاريخ: 26 - 10 - 1936


من الحياة الواقعية

مليم العظماء. .؟!

بقلم السيد محمد زيادة

وقف هذا العظيم وقفة ناطقة بعظمته أمام دكان حلاق، ثم جاز بابه متهادياً منتفخاً كما يجوز باب داره التي لا تحوي إلا ما هو مالكه؛ وكان الحلاق جالساً كالنائم، لا يصل بصره وذهنه إلى أبعد من مجلسه، فهب واقفاً تدق على قلبه هيبة الداخل عليه.

وجلس الرجل على الكرسي جلسة أمير متواضع، ووقف الحلاق من خلفه كما يقف المتهم في ساحة العدل. . . وكان دهشاً يزدهيه ويربكه أنه على فقره وخموله يحظى بشرف التصرف في نبات ذلك الرأس العظيم وتزيينه وريه بأغلى ما عنده من العطور؛ ولكنه استجمع نفسه وذهب يجلب من نواحي دكانه أجود مقصاته وأحد أمواسه، وبدأ يعمل بفكره وعينيه ويديه، حتى يخرج من مهارته تحفة فنية رائعة ترضي عظمة (الزبون) وتفتح للدكان باباً في الشهرة ومن ورائه باباً في السعادة. . .

وتواردت على رأس الحلاق أحلام خلابة تنبئه بحياة هنيئة ناعمة، وصيت ذائع منتشر. . . فتصور أن بعد ذلك الرأس الرفيع رؤوساً رفيعة أخرى ستظهر عليها بدائع يديه. . . وأيقن أن قد حان الوقت لينال حقه المهضوم وينصف فنه المظلوم. . .

وتصور أنه إذ يتعب في تزيين ذلك الشعر وتجميله إنما يتعب في تزيين دنياه الجميلة التي الجميلة التي في خياله. . . ثم اعتقد أنه ولا شك بالغ بعد ذلك غاية الأمل ما دام قد حلق لهذا العظيم، وما دام العظيم يرضى عنه، فجعل يبذل ما في وسعه من حذق لتجيء الصنعة فاتنة لا عيب فيها فتجيء الدنيا كاملة لا نقص فيها.

وراح الزبون الكريم المتواضع يطلب موسى غير الموسى لتكون أمضى، ويطلب فرشاة غير الفرشاة لتكون أطهر؛ ثم أخذ ينبسط مع الحلاق ويؤنسه من نفسه العظيمة ويحاضره في تواضع العظمة وعظمائها. ويقص عليه نوادر تبين له أن الكبير من لا يتكبر، وأن الحلال حلو ولو مرَّ، والحرام مرٌّ ولو حلا، وأن الدنيا والآخرة للأمين، والدنيا والآخرة على الخائن؛ ثم كان يفصل قصصه بأحكم الحكم وأصدق الأمثال. والحلاق غارق بسمعه في لذة الحديث، مستغرق بعينه في لذة الصنعة، سابح بفكره في لذة الأحلام. . .

قال الزبون فيما قال: كل شيء يقع في هذه الحياة بقضاء، فما من شر يصيب وما من خير يصاب إلا وهو مكتوب من قبل في لوح القدر.

قال الحلاق: صدقت والله يا أفندينا. . . فقد يكون الإنسان غافلاً فتنساق إليه الأسباب من تلقاء نفسها، وقد يكون خاملاً فينصب عليه الرزق من حيث لا يدري. والمثل فيّ أنا. . . أنا جالس يا أفندينا في غفلتي وخمول شأني ضعة مكاني - فإذا بك تشرفني بالدخول علي؛ فهل هذه إلا مفاجأة؟ (وفي السماء رزقكم وما توعدون).

قال الزبون: وفي حقيقة الأمر أنها لم تكن مني عن تدبير ولا نيّة، ولم تكن في حسباني ولا ألقيت لها بالاً، ولا كنت في حاجة ماسة للحلاقة اليوم. . . فما هي إلا خطرة مالت بي إليك ولا أدري سببها، وكأنما كان للإلهام فيها عمل.

فأحس الحلاق أن في حديث زبونه ما في حديث نفسه، فانتشى ظاهره بما في باطنه وقال: إي والله إنه لإلهام وإنه لحظ سعيد وإنه لشرف عظيم؛. . وأرجو ببركة تواضعك الميمون أن أصبح في القريب حلاق إخوانك العظماء من هامات الناس وكبرائهم. وبذلك أكون صنيعة فضلك وخادم إحسانك.

قال الزبون: لا ريب في أنك ستكون حلاقي الخاص وحلاق إخواني الدائم إذا ما أعجبتُ أنا بحلاقتك وصنعتك.

وانتهى الحلاق من جهاده في سبيل المجد، ووقف مضموم اليدين ينتظر الرضى والثناء! وأعجب العظيم بحلاقته أيما إعجاب ووقف يعرض نفسه على هذه المرآة وتلك المرآة وهو ينثر كلمات الإعجاب في كرم وسخاء. والحلاق لا يدري أهو كالناس على الأرض أم طائر مع ملائكة الحظ والسعادة. . .

وأخرج الزبون من جيبه دخينة ضخمة فخمة كأنها من نوع ممتاز لخلق ممتاز - وأشعلها ثم قال: ألا تدري أن هذه الدخينة من صنع بلادنا؟.

قال الحلاق: يا عجيباً!! وهل تقدمت بلادنا إلى هذا الحد؟

قال الزبون: أنت تعجب فكيف عجبك لو علمت أن ثمن العلبة من هذه عشرون قرشاً؟ وكيف بك لو علمت أن هناك نوعاً آخر ثمن العلبة منه مائة قرش؟. وكل الذين يتشرفون بزيارة السراي الملكية يقدم لهم من هذا النوع. . وأنا أكاد لا أصدق أن في (السجائر) ما هو رخيص، فكم هو ثمن أرخص (سيجارة) عند الناس؟

قال الحلاق: يا مولاي أن معظم السجائر من هذا النوع الرخيص الدون، وثمن الواحدة منه مليم واحد وهو ثمن نصف رغيف للفقير المسكين. .

قال الزبون: إذن فالمليم له معنى كبير!!؟ ياله بؤساً وشقاء للإنسانية. . أمعك واحدة من هذا النوع الرخيص؟. لا ريب انها ستكون لذة جديدة مشتهاة لغرابتها.

قال الحلاق: أنا يا أفندينا لا أدخن فمليم ومليم ثمن رغيف.

قال: آه. . . أضن أن معي مليماً فريداً حائراً في جيبي. خذه فاشتر لي به واحدة لأرى.

وذهب الحلاق يتكفأ ومعه المليم، وغاب دقائق ثم عاد يتوثب ومعه (السيجارة) الرخيصة. . . ونظر فلم ير أحداً في الدكان؛ ثم نظر فلم يجد آلاته لا في موضعها ولا في غير موضعها، وحينئذ. . . حينئذ فقط أدرك الحلاق أن الزبون العظيم ما هو ألا محتال عظيم، وأن الأحلام التي ألقاها في خياله إنما ألقاها غشاءً على بصيرته؛ فلطم وصرخ واستغاث؛ واجتمع الناس يتناولون الحادث كما حدث ويتبادلون الرأي فيه. . . ومال بعضهم إلى الأرض يقلب شعر اللص الجريء لعله يعثر فيه على سر.

وقال بعضهم: ما أغلى التضحية! لقد طمع الحلاق المسكين في العظيم والعظماء فضيع آلاته وأسباب رزقه ليعلم من كل ذلك أن العظمة قد لا تساوي في بعض أهلها غير مليم.

(طنطا)

السيد محمد زيادة

دون جوان لبنان يفكر. . .

بقلم الآنسة فلك طرزي

جلس (موفق) على حافة البركة التي تتوسط حديقة منزله الصغير وأخذ يداعب المياه الصافية التي تتساقط في الحوض وتتسابق بأصابعه، ويرسم على صفحتها خطوطاً وحلقات سرعان مت كان سير الماء يبددها ويمحوها لتتعود صفحته جلية ملساء تتراكض في وسطها الحبات اللؤلؤية، وكأنها قطع صغيرة من الماس تتقاطر من ثقوب النافورة وتتساقط على صفحة الماء رذاذاً فتبعث نغمة خافتة ووسوسة شجية. لم يصغ موفق إلى الموسيقى العذبة التي كانت تنبعث من لحنها لأن نفسه كانت بعيدة، بعيدة جداً عن هذا الحوض الصغير الذي كانت أنامله تعبث بمائه وتلهو به.

لقد ذكر موفق في هذه اللحظة أياماً ولّت وليالي انقضت كان خلالها يتمتع بأهنأ اللذات والمسرات، إذ كان النعيم يكسو ساعاتها ولحظاتها بأثواب السعادة الزاهية الألوان المختلفة الأشكال، ويبسط عليها ظلال الهناء والمرح والسرور، فكان كل من هذه الظلال الثلاثة يرشده إلى جنات وفراديس تجري من تحتها الأنهار، وتغرد على أفنانها الأطيار. . . فكان موفق يتمتع ويتلذذ، وكان يرشف كؤوس اللذة صافية حتى الثمالة، وكان يقطف ما حلا له من الزهر وما طاب من الثمر، ثم يعرض عن هذه وتلك حينما يتضح له أن ذبولاً قد ذهب بنضرة الزهر، أو أن مرارة قد مازجت حلاوة الثمرة، حتى شاع أمره بين الناس وذاع بين جميع البيئات، فدعوه (دون جوان لبنان) لما عرف عنه من حبه للنساء وإغرائه إياهن بشتى الوسائل، وإيقاعهن في حبائله بمختلف الطرق والأساليب.

وكان موفق يسر بهذا اللقب أما سرور؛ وهل من شيء يعتز به كل دون جوان في الحياة أكثر من اعتزازه بالحظوة الرفيعة التي يلاقيها عند النساء؟ فكان يذيع هذا النبأ الجديد هنا وهناك ويطلع الذين لم يعلموا بأمره أنه كان يحلم بهذا اللقب منذ حداثته، بل منذ كان صبياً يلعب والصبية الصغار من أبناء الحي. وكان كثيراً ما يقص عليهم حوادث وحكايات جرت له وهو مازال في الثامنة عشرة من عمره، وكم من مغامرات غامرها، وكم من نسوة ساذجات كان يغريهن بالكلمات المعسولة والمجاملات اللطيفة ليجذبهن إليه ويوقعهن في شباكه؛ ثم ليعرض عنهن ويوليهن ظهره بعد أن ينال منهن بغيته ويتركهن وشأنهن ويذهب ليبحث عن اللذة عند غيرهن.

ولما كبر وصار رجلاً جعله أبوه مديراً للمتجر الكبير الذي كان يعد من أشهر المحال التجارية في بيروت، وقسم الأعمال الأخرى على اخوته الثلاثة الذين يصغرونه ببضع سنين، وترك له حرية التصرف في الدخل الذي كان ينهال على هذا المحل كأنه النهر المتدفق يجرف في طريقه كل الأشياء ولا يبقي منها شيئاً واحداً. . . أخذ موفق ينفق بسخاء وإسراف ويبدد الأموال هنا وهناك وفي كل مكان دون أن يفطن للآخرة ودون أن يحسب لها حساباً، وكم كلفته شخصية دون جوان، هذه الشخصية التي تقمصته وامتزجت به واختلطت بنفسه فصارتا نفساً واحدة.

أجل! كم كلفته أموالاً وإسرافاً، بل كلفته جهوداً في العدو وراء كل امرأة يستهويه جمالها وتجذبه حمرة شفتيها.

وما لبث موفق أن أخذ يستعرض في ذاكرته أشكال النسوة اللاتي تولى زمامهن في الحياة إلى حين. وأخذ يذكر النعيم والهناء اللذين تذوق حلاوتهما في عشرتهن ومصاحبتهن، ويذكر هذه النشوة التي كانت تعتريه حينما كان يظفر بفريسة يشبع نهمه بلحمها ودمها. . .

فهذه التي تمثل الآن شبحها وتجسم في مخيلته، كانت هيفاء القد نحيلة الخصر، وتلك التي عقبت أختها الآن وتصورها خياله كانت، ويا شد ما كانت! كانت ناعسة الجفون، حالمة العينين، تزيد نظراتهما رقة وعذوبة أهداب كثيفة سوداء كثيراً ما كانت تسدل فوقهما لتخفي بين الجفون معاني تلوح في حدقتيهما. وأما هذه الأخرى فيا لشفتيها! كم كانتا رقيقتين كأنهما وردتان نضرتان متفتحتان في روض وجهها الذي تتلألأ فيه فتنيره عينان وضاءتان كحيلتان تريقان عليه نوراً مشرقاً ساطعاً يزيد في إشراق سمائه وجماله، وهؤلاء الفتيات الخمس اللائي وضعهن يوماً في السيارة وسار بهن من بيروت إلى أحد مصايف لبنان حيث قضى معهن سهرة أحياها إلى الصباح. . . لقد جلس بينهن أمام مائدة قد صف عليها جميع أنواع الكحول، وتكدست فوقها أصناف النقل المتنوعة والأثمار المشكلة. . . وما أسعدها ليلة قضاها موفق بين نزعات الهوى الباسم ونغمات الهواء البليل الناعم، يتمتع بمغازلة خمس حسان من أجمل الفتيات وأرشقهن قدوداً وأعذبهن صوتاً وأحلاهن حديثاً. . . وما أهنأها ليلة وما أجملها، تنشق موفق النسمات اللطيفة التي ينفحها جو لبنان الصافي العليل.

غير أن الأوراق المالية كانت في هذه الليلة تسيل من جيبه كما كانت الشمبانيا تسيل من القوارير.

كان موفق يفعل هذا كله لإرضاء نفس لا يستطيع كبحها، وأهواء ليس في وسعه ردها؛ ولم يذكر موفق أن الحب، الذي يدعونه بالحب الخالص الصافي، قد خالط نفسه يوماً من الأيام.

كلا؛ فهو ما شعر قط بلذة الروح - هذه اللذة العالية التي ترفع بصر الإنسان إلى ما فوق المادة وتجعل القلب يخفق بأنبل العواطف وأشرفها - تعتور نفسه، وتشعرها برعشة تهتز لها أضالعه وتختلج جوانحه. كلا! إنه لم يعرف من الحب سوى المعنى الوضيع الذي تولده حيوانيته، وجهل ومازال يجهل المعنى الرفيع الذي تولده نورانيته، والذي يضئ الروح بنور الفضيلة والهدى والحق. . .

لقد كانت أهواؤه شغل حياته الشاغل، إذ هو لا يجيد من فنون الحياة إلا فن الإغراء والإغواء والمخادعة. . . وما فكر قط أن آخرة مؤلمة ستنتج عن حياة الطيش والفوضى؛ لقد انتهى موفق إنفاق ما في خزائن المتجر وتجاوزها إلى رأس المال، فأفلست التجارة. . ولم يجد الدائنون بداً من عرض جميع ما يملك موفق وأسرته في المزاد العلني، فبيع المنزل وجميع مفروشاته الفاخرة، وبيعت الحديقة الغناء الواسعة الجوانب التي تحيط به من جميع أطرافه، ونزحت الأسرة المنكودة عن البيت بعد أن نعموا باجتماع الشمل حقبة، وراح موفق ينشد العمل في كل مكان فلم يعثر عليه إلاَّ بعد جهد جهيد مقابل أجر زهيد يكاد لا يكفي نفقته ونفقة أخته التي تقاسمه الحياة وتشاطره البؤس. . .

أحس موفق حين رجع بذكرياته إلى هذه الذكرى المؤلمة، كأن هزة عنيفة تعتري جسمه فانتفض واختلج، وشعر كأن شيئاً أخذ يحز في نفسه حزاً مؤلماً، فانتصب واقفاً وغادر حافة البركة التي كان جالساً عليها يداعب مياهها، وأخذ يجول بنظره في أطراف الحديقة، ويتلفت يمنة ويسرة، يحدق بكل ما يبصر، ويصغي إلى كل ما يسمع، فإذا به يشاهد براعيم الأزاهر ترنو إليه وترفع نحوه أكمامها المتضوعة العبير تشكو ظمأها، فاقترب من البركة وأخذ إبريقاً من المعدن الأبيض وملأه وسقى الأزاهر وبلل أغصانها بقطرات الماء النمير، ثم بعد ما فرغ من سقيها أخذ وعاء صغيراً ووضع فيه دقيقاً خلطه بماء، ثم أخذ يعجنه حتى إذا تماسك قدمه إلى حمامة سمعها تنوح شاكية له جوعها. . .

وهكذا تعزى دون جوان المنهزم عن عزه الغابر المفقود بإطعام الحمام وسقى الأزهار!

فلك طرزي