الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 172/الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية

مجلة الرسالة/العدد 172/الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية

مجلة الرسالة - العدد 172
الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 19 - 10 - 1936


للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

مدرس الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب

تتمة

- 6 -

وقبل أن نختم بحثنا هذا نقول كلمة مختصرة في أثر هذه النظرية في الفلسفة المدرسية اليهودية والمسيحية، وفي بعض فلاسفة العصور الحديثة، وفلسفة اليهود في القرون الوسطى، أو بعبارة أدق الدراسة اليهودية الفلسفية في ذلك العهد هي في الواقع صدى للفلسفة الإسلامية، واليهود هم خلفاء العرب على تراث أرسطو والفلاسفة الآخرين، وقد فازت الفلسفة على أيديهم منذ القرن الثالث عشر الميلادي فوزاً عظيماً، وأضحوا أنصارها طوال القرون الثلاثة التالية حين خذلتها الشعوب الأخرى، فأخذوا الأفكار العربية أو المعرَّبة ونقلوها إلى لغتهم وتدارسوها فيما بينهم، وتتلمذوا لفلاسفة الإسلام تلمذة صادقة مخلصة، ودون أن نستقصي هنا كل مفكريهم نكتفي بأن نشير إلى شيخهم الأعظم وأستاذهم الأكبر موسى بن ميمون الذي يعد بحق الممثل الأول للفلسفة اليهودية المدرسية، وإذا ما ذكر ابن ميمون ذكرت الفلسفة الإسلامية على الفور، فقد اعتنق كل نظرياتها تقريباً، وصادفت نظرية السعادة بوجه خاص من نفسه هوى، ووجد فيها مجالاً فسيحاً للتوفيق بين الفلسفة والدين، فهو يعتقد أن البحث والثقافة سبيل الكمال الإنساني، وأن العلم هو العبادة الحق التي يستطيع العبد التقرب بها إلى ربه وكشف الحقائق الغامضة؛ وكلما أمعن الإنسان في الدراسة والنظر كلما ازداد قرباً من ربه، ويشبه ابن ميمون الخالق والخلق في رتبتهم المختلفة بملك عظيم يسكن قصر منيفاً في مدينة كبيرة، وسكان هذه المدينة بين المعجب بهذا القصر المصوب النظر إليه، والغافل عنه المعرض عن جماله وجلاله، ومن فتنوا به قد يدفعهم الشوق إلى السعي نحوه والطواف حول جدرانه الفخمة، وربما اقتحموا عتبته وانسابوا إلى حدائقه وأفنيته الملأى بالأزهار والرياحين والمناظر البهجة، ومنهم من يقنع بهذه الغاية ولا يطلب وراءها مزيداً، وذوو النفوس السامية والهمم العالية يأبون إلا التشر بالمليك في حضرته والإصغاء إلى حديثه والتمتع برؤيته، وحينذاك يحظون بالغبطة الدائمة والنعيم المقيم، وواضح أن هؤلاء الماثلين في الحضرة الملكية هم من فازوا بالسعادة الفارابية، والمليك الذي يرمز إليه ابن ميمون ليس شيئاً آخر سوى العالم الروحاني الذي نسعى إلى الاتصال به.

تأثر فلاسفة القرون الوسطى المسيحيون كذلك بكثير من الآراء الفلسفية الإسلامية، ولم يكن التصوف الفارابي بوجه خاص بالغريب عليهم، ذلك لأن المسيحية نفسها تشايع الأفكار الصوفية في جملتها وتدعو إلى قدر منها غير قليل، وإذا كانت الأشياء كلها صادرة من الله وعائدة إليه فخطيئة عظمى أن ينسى المخلوق خالقه أو أن يتراخى في السعي نحوه والقرب منه. على أن الوصول إلى الذات الأقدس ليس بالعسير في رأي المتصوفين المسيحيين، فإنا ندنو من الله كلما خففنا أحمالنا وعرضنا عن شواغل الحياة، وقد كتب المسيو جلسون أستاذ الفلسفة المدرسية المسيحية الآن في (كلويج دي فرنس)؛ وهو الحجة في هذا الباب فصلاً ممتعاً في نظرية الحب المسيحية وأبان ما انطوت عليه من مدلولات خفية ونزعات صوفية، ومحبة الله هي السبيل الذي يقربنا منه ويقودنا إلى السعادة الفارابية، ويجب أن نضيف إلى هذا أن السعادة التي تعشقها الفارابي تعتمد على قوة أخرى وتستمد نفوذاً آخر من سلطان عظيم، ألا وهو سلطان أرسطو الذي استولى على القرون الوسطى المسيحية استيلاء تاماً منذ القرن الثالث عشر للميلاد. فإن هذه السعادة أشبه ما يكون (بالأديمونيا) الأرسطية؛ وقد أسلفنا القول فيما بينهما من صلة. لذلك لم يتردد كثير من أنصار أرسطو المسيحيين في اعتناق هذه النظرية وإن حاربوا في عنف غيرها من آراء الفلاسفة المسلمين. فألبير لجراند وسان توماس يتحدثان عن عقل مقدس هو في الغالب ابن (للروح القدسية) التي أشاد بذكرها الفارابي من قبل. وسان توماس يقرر في وضوح أن سرور النفس وغبطتها تنحصر في تأمل الحقائق الأزلية. فالسعادة الفارابية أثرت إذن في يهود القرون الوسطى ومسيحييها على السواء، وليس بعزيز علينا أن نبين المصدر الذي أخذ عنه المسيحيون هذه النظرية، فقد قرءوا عنها شيئاً فيما ترجم من رسائل الفارابي إلى اللاتينية ووقفوا عليها مفصلة في مؤلفات ابن سينا وابن رشد وفي كتاب موسى بن ميمون المشهور (دلالة الحائرين) الذي استقى منه الغرب كثيراً من الأفكار الشرقية.

لم يقف أثر هذا الكتاب في نشر الأفكار الإسلامية عند القرون الوسطى، بل جاوزها إلى العصور الحديثة، وذلك أنا نجد لدى واحد كاسينوزا أو لَيْينتز آراء كثيرة الشبه بآراء فلاسفة الإسلام: فنظرية النبوة عند الأول تشبه شبهاً عظيماً النظرية التي أخذ بها الفارابي؛ ومشكلة العناية عند الثاني لا تختلف كثيراً عما قال به ابن سينا من قبل. ربما يبدو غريباً أن نحاول إثبات علاقة بين مفكري الإسلام وهؤلاء الفلاسفة المحدثين، خصوصاً وقد جرت عادة مؤرخي الفلسفة الإسلامية أن يقفوا بها عند القرون الوسطى. وما فكر واحد منهم، فيما أعلم، أن يدرس الصلة بينها وبين فلسفة العصور الحديثة دراسة منظمة. غير أنا نرى أن هذه الصلة جديرة بالبحث والدرس ومعتمدة على أسس تعززها؛ فقد عرف اسبينوزا كتاب دلالة الحائرين وعني به عناية كبيرة، كما عرفه ليبنتز وأثنى عليه ثناء مستطاباً فعلى ضوء هذا الكتاب نستطيع أن نحدد إلى أي مدى تأثر رجال العصور الحديثة بالأفكار الإسلامية. ويخيل إلينا أنا أول من تنبه إلى هذه العلاقات التاريخية، وقد حققناها فيما يتعلق بنظرية النبوة.

ويمكننا أن نلاحظ كذلك وجوه شبه بين نظرية السعادة الفارابية وبعض الأفكار الصوفية الحديثة، وخاصة لدى اسبينوزا الذي تربطه بالفارابي أكثر من علاقة واحدة. فكلاهما يعد السعادة غاية لمذهبه الفلسفي؛ ويعملان على تحقيقها بوسائل متماثلة. وكلاهما صوفي النزعة في سلوكه وآرائه، وتصوفهما عقلي نظري مبني على العلم والدراسة. ونظرياتهما الكلامية متقاربة ومتشابهة؛ فصفات البارئ عند الفارابي لا تختلف كثيراً عنها لدى اسبينوزا. الله في رأيهما علم ومعلوم وعالم في آن واحد، وهوية وماهية معاً؛ هو مسبب الأسباب والجوهر المطلق أو الجوهر الوحيد. فهو موجود بنفسه وجوداً أزلياً قديماً، وكل الكائنات تستمد جودها منه. وعلى هذا نرى أن الفيلسوف العربي والفيلسوف الإسرائيلي يقولان بمذهب وحدة الوجود. وإذا كانت النفوس البشرية قد استمدت وجودها من الله فهي دائماً في نزوع إليه؛ وكمالها في أن تتجه نحوه وتقترب منه وتحبه حباً صادقاً. وهذا هو الحب الفلسفي الذي يتغنى به اسبينوزا، ويرى فيه لذة لا تنقطع وغبطة تجل عن الوصف.

الآن وقد تتبعنا نظرية السعادة الفارابية منذ نشأتها إلى أن أسلمناها إلى العصور الحديثة نستطيع أن نقرر أن المشائين من العرب أثروا فيمن جاء بعدهم تأثيراً واضحاً. فأفاد منهم مفكرو الإسلام لا فرق بين متطرفيهم ومعتدليهم في نواح كثيرة، وإن تحاملوا عليهم وحاربوا معظم نظرياتهم. وأخذ عنهم رجال الفلسفة المدرسية من يهود ومسيحيين كثيراً من آرائهم وأفكارهم. ولم يقف أثرهم عند القرون الوسطى بل تعداها إلى العصور الحديثة، وقد أوضحنا فيما سلف وجوه الشبه بين بعض النظريات الفارابية والآراء الأسبينوزية، نحن لا ندعي طبعاً أن الفلسفة الإسلامية أثرت تأثيراً مباشراً في رجال العصر الحديث وجماعة الديكارتيين بوجه خاص؛ فأن أحداً منهم لم يعرف العربية. ولكن الأفكار الإسلامية نفذت إليهم، فيما نعتقد، عن طريقين: طريق اليهود وطريق المسيحيين، ففيما كتب موسى بن ميمون مثلاً أو سان توماس ما يحكي بعض الأبحاث الإسلامية. وإذا كانت الفلسفة الإسلامية نفسها لا تزال غامضة ومجهولة، فبديهي أن يبقى أثرها في طي الخفاء، ولا سيما إذا كان هذا الأثر متعلقاً بناحية يزعم الناس أنها بمنأى عن التأثير. فقد شاع خطأ أن ديكارت يفصل فصلاً تاماً بين عهدين، وأنه أب لفلسفة لا تحمل في ثناياها شيئاً من آثار الفلسفات السابقة، غير أن هذه الفواصل المزعومة بين العصور قد انمحت، وهذه السدود المقامة باطلاً بين مراحل التفكير الإنساني قد انهارت. وقد ثبت فعلاً أن ديكارت سبق إلى كثير من أفكاره في القرون الوسطى المسيحية، كما أن مذهب ليبنتز مثلاً يقترب من الفلسفية المدرسية والإغريقية بقدر قربه من النظريات الديكارتية. فلم لا نحاول بدورنا أن نوازن بين شك ديكارت وشك الغزالي؟ ولم لا نبحث عن أصل للتفرقة الأسبينوزية بين الذات والوجود عند الفارابي كما بحثنا عنه لدى كثير من الفلاسفة المتقدمين، إنا إن فعلنا خدمنا القرون الوسطى والتاريخ الحديث، وألقينا جزءاً من الضوء على طائفة كبيرة من النقط الغامضة، وقمنا بقسطنا في ربط الفلسفة الإسلامية بسلسلة التفكير الإنساني.

ولنا رجاء آخر، وهو أن تتجه الجهود نحو العصور المتأخرة من تاريخ الثقافة الإسلامية؛ فإن ما كتب عنها لا يكاد يذكر ومعلوماتنا عنها محدودة للغاية. وقد حاول هورتن في أبحاث متفرقة أن يوضح جانبها الفلسفي؛ إلا أن أبحاثه غير ناضجة، وهي أشبه ما يكون بمقدمات لدراسة كاملة لم تبدأ بعد. وأما اللغة والتشريع والتوحيد والتصوف فلا تزال في طي الكتمان تماماً. ومن غريب المصادفات أن أحد قراء (الرسالة) بعث إلينا، ونحن نكتب هذه الكلمة، مستفسراً عن بعض أبيات للصوفية المتأخرين. فالجمهور المثقف يشعر إذن بهذا النقص ويشاركنا في الشكوى منه، وعل أغمض شيء في هذا الدور حقيقة هو تاريخ التصوف على الرغم مما فيه من طرافة، وما له من أهمية اجتماعية وفلسفية. نحن لا ننكر أن عصور الظلام ثقيلة على النفس وليس فيها شيء كثير يجتذب الباحث أو القارئ، هذا إلى قلة مصادرها وتعذر السير فيها والاهتداء إلى معالمها. بيد أن ربط حاضرنا بماضينا يستلزم أن نجلي غامضها وندرسها دراسة كافية.

إبراهيم بيومي مدكور