مجلة الرسالة/العدد 171/في العهد الجديد
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 171 في العهد الجديد [[مؤلف:|]] |
سر القُبَّعةَ ← |
بتاريخ: 12 - 10 - 1936 |
يومان. . . .
قطعني منذ طويل عن مواصلة الكتابة قواطع الأسى والمرض. وفي هذه الفترة الفاترة تقلبت على العين مشاهد، وتعاقبت على الأذن أحاديث، وتواردت على الذهن خواطر؛ فكان المصري الذي في دمي، والكاتب الذي في طبعي، والصحفي الذي في همي، يحاولون أن ينفعلوا على القلم كلما نجم في الوطن حادثة، أو جرى في الشعور عاطفة، أو بدا على (الرسالة) حاجة؛ ولكن الجسد الموهون لا يستجيب لنشاط، والفؤاد المحزون لا يهتز لأثر. وهل الدنيا إلا دنياك أنت؟ تدوم فيها ما دامت فيك، فإذا ما انعدمت في نفسك انعدمت في حسك؛ وإذن لا يكون سرورها سرورك، ولا حزنها حزنك، ولا متاعها متاعك؛ ماذا يفيدك الترياق بعد أن مات حبيبك مسموماً، وماذا تردُّ عليك مباهج الناس إذا بات قلبك مهموماً؟
كنت وأنا في الإسكندرية أقف على سياج الكرنيش، أو أسير على رمال الساحل، فأرى فيض الحياة يتدافع في أمواج البحر وفي أفواج الناس، وروعة الجمال تتجلى في رواء الشباب في الشارع وألوان الأصيل في السحب ومغرب الشمس في الماء، وإشراق الغبطة يلمع في العيون القريرة وعلى الشفاه المفترَّة، وصفاء الوجود يشيع في زمر المصطافين فيكون في أُهُب الأطفال مرحا وفي قلوب الرجال فرحاً وعلى مضاحك الغيد فتنة، وأسمع لغة الفردوس المفقود من فمي آدم وحواء وقد اضطجعا عاريين على رمال الشاطئ بين وسوسة الشيطان وفحيح الأفعى، وهديرَ الأمواج المتعاقبة منذ يومها الأول على سيف البحر، وقد خلطه الخيال الشاعر بهتفات القيصر وضحكات كليوبطرة، وغماغَم الهوى والشباب تَطَّاير إلى الآذان الخلية فتقع منها موقع النغم الساحر في جوف الليل الساجي البعيد، وأحاديث المفاوضة والمعاهدة والمعارضة تتشقق بين الجماعات فتكون في الغالب حماسة من دلائل الصحة، وفي النادر هذياناً من أعراض المرض. كنت أرى وأسمع كل أولئك وأنا في وحشة الغريب وبلادة الذاهل، كأنما انقطع التيار الروحي بيني وبين الناس، فأنا مظلم وهم في نور، وساكن وهم في حركة، ونافر وهم وحدات متسقة في نظام المجتمع، وناشز وهم نغمات منسجمة في نشيد الكون.
يوم واحد من أيام الإسكندرية استطاع أن ينقلني من عدمي إلى الوجود، ويخرجني من نفسي إلى الناس: ذلك يوم سفر المفاوضين المعاهدين إلى إنجلترا! فقد ازدهاني أن يتفاهم الحق والقوة، ويتفق منطق القلم ومنطق السيف، ويقتنع (المبرنطون) بأن وطننا لنا وحدنا، وأن أصحاب (الامتياز) أصبحوا بشراً مثلنا، فدخلت في غمار الشعب الهاتف، وأثرت زحمة الدهماء ووقدة الشمس على مخالطة الأقدار الكبيرة والأحلام الرصينة في ظلال السرادق، وركبت زورقاً من زوارق الميناء في جمهرة من الشباب الفقراء الذين يجهلون معاني (النيابة) والوظيفة والجاه، فيشاركون في المظاهرات لأنها صرخة الوطن، ويهتفون للزعيم لأنه ممثل الأمة، ويصفقون للمعاهدة لأنها صك التحرر.
سار بنا الزورق الراقص الشادي بين عشرات من الزوارق المزدانة المهللة حتى حاذينا (النيل)؛ والنيل قطعة من الوطن المحبوب تجمَّع فيها أمله المنتشر، وبدأ عليها تاريخه الجديد، ستقطع هذا الخضم المزبد إلى الشاطئ البعيد عليها صداقة مصر لإنجلترا، يقدمها وفدها الأمين إلى الذين عرفوه بعد إنكار وسالموه بعد حرب؛ وما كانت سياسته في الأول إلا سياسته في الآخر لولا سوء الفهم وسوء الظن وسوء الضمير. فلما انحسر لثام الرياء عن الأوجه المغشوشة فينا وفيهم، خلص منطق النحاس إلى عقل إيدن، واقتحمت النيل الوداعة مرابض الأسطول.
تحركت الباخرة المزهوة الفخور بعد حفلة الوداع بين عزف الموسيقى وقصف المدافع وصفير البواخر وتصفيق المودعين وهتاف المتفرجين وزغردة النساء؛ فكان من ذلك كله نشيد وطني عجيب التأليف بديع التلحين سحري الإيقاع عبر بهذه القوّة عن الشكر لقادته، والخير لحليفته، والاطمئنان إلى مستقبله.
كان اعتماد الجمهور في التنفيس عن حماسته المضطرمة على الضرب بالأرجل، والتصدية بالأيدي، والتلويح بالأذرع، وما يلازم هذا من اضطراب الحركة وفقدان الاتزان وشيوع الفوضى، وانتقال أثر ذلك كله إلى الزورق! فلو كان للشعب شعراء وموسيقيون، كما كان له زعماء وصحفيون، فوضعوا له الأناشيد التي تعبر عن عواطفه في وحدة، وتهيمن على مواقفه في نظام، لما تعرضنا مراراً للغرق!!!
على أن الغرق لم يقع في حسابي وأظنه لم يقع في حساب أحد، فقد كان فُلكنا المتواضع يجري تحت (النيل) الباذخة كأنه الفرخ الوليد تحت جناح النسر؛ عيوننا ترمق الزعيم الجليل وصحبه فلا تكاد تطرف، وقلوبنا تنتشر دعاء ورجاء فلا تكاد تتماسك، وألسنتنا تضطرب في سيل من الهتاف فلا تكاد تسكن، وفلكنا المجنون في يد القدر، يميل ويعتدل، ويجور ويهتدي، وقد نسينا من روعة الموقف أننا فيه.
يومئذ شعرت بأني جزء من كل وفرد من مجموع، وأدركت أن المشاعر المشتركة كالدين والوطنية هي أوثق روابط الألفة، وأن المشاعر المختصة كنوازي الهوى ونوازع (البلاج) هي أقرب السبل إلى الغرفة.
هذا يوم؛ أما الآخر فله مقال آخر! ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود!
أحمد حسن الزيات