مجلة الرسالة/العدد 170/وحي الدم المتحد
→ حول (نبوة المتنبي) | مجلة الرسالة - العدد 170 وحي الدم المتحد [[مؤلف:|]] |
جولة ريفية ← |
بتاريخ: 05 - 10 - 1936 |
للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف
لم تعد الوحدة العربية خيالاً تغازله الأحلام في أفق بعيد، ولا فكرة سطحية تطفو على عقل ضحْلٍ كما تطفو الفقاقيع. . . وإنما صارت كوناً موجوداً وأمراً مجسداً له ذرية وأنسال يتوادون ويتظاهرون في المأساة وفي فرح الحياة. . . وله دماء قرب منها مزيجاً مزجته الأقطار العربية وقدمته لحماية فلسطين من عابدي الذهب. . . فللعروبة من ذلك قرة عين لأنها رأت على صفحة الدم المتحد صورة المجد القديم الذي أوشك الزمان أن يستدير بجدته ويقبل بدولته.
أجل! سلوا أشجاراً يابسة وجذوعاً جافة بشعاب فلسطين وبطون وديانها، وقد حالت إلى الإيراق والحياة: ما الذي نضَّرَ عودك ورد عهودك وأطال عمودك؟ وستجيب: إنها الدماء التي لم أُسْقَها من عهد صلاح الدين. . . الدماء التي مزجت أمشاجها فكرة إلهية فجعلت فيها إكسير الحياة حتى للأحجار والأشجار والمدر والوبر. . الدماء التي تسيل من الأسود والأبيض والأصفر والأحمر فتجمع خلاصة ما في الإنسانية من إخاء، وسر ما في المسلمين من توحيد. . . الدماء التي تطفئ ما للظالمين من نار، وتجرف مالهم من آلات الهول والدمار. . . الدماء التي تدخرها الحياة ثم تطلقها سيّالاً طهوراً هدّاراً رجافاً يغسل الأرض ويحدث الانقلاب وينقل الإنسانية إلى الأمام. . . الدماء التي تحمل عناصر إخصاب الإنسانية بالفكرة الإلهية والحرية والإخاء والمساواة والعدالة والرحمة والسلام والبر والتعاون حتى تلد الأمهات أمثال ابن الخطاب وابن عبد العزيز والرشيد وصلاح الدين. . .
يا فلسطين يا أرض النبوات! تلك رسالة جديدة تهبط من شعاب جبالك ومن بين (التين والزيتون) مرة أخرى على قلوب العرب والمسلمين، وقد كتبت بالدم الممزوج من نفوس تمثل أربعة أقطار من ميراث محمد بن عبد لله. . . تحدث أهل الأرض الذين استحالت حياتهم إلى نوع من حياة الأوابد والفواتك لقبح الثقة وسوء الظن، وشر المعاملة، أن لأخوة الإنسانية لا زال لها تحت جناح تعاليم محمد مكان تأرِزُ إليه وتلوذ به، وأن الأسرة التي كان يبغيها أبو البشر آدم على وداد وترابط وتضامّ حتى يكون له من ذلك معنى السمو على الأفق الحيواني. . . لا زالت هي الأمة العربية المطبوعة على إجابة الصريخ وتلبية الدعاء ونصرة اللهيف واحترام الجامعة ومعنى الدم. . .
يا أهل فلسطين! إنكم عرفتم كيف تموتون عند الاقتضاء، ولذلك لم تموتوا! بل ضوعف فيكم سر الحياة لأنكم أمددتموه بالدم وفعال المجد وحسن البلاء. . بل لقد ضوعف بعملكم سر الحياة في العرب والمسلمين جميعاً، وصار منكم مثل جديد يضربونه مفتخرين بين يدي هذا الزمان على مسمع الأمم وبصر التاريخ. . وقد غدوتم في فم الزمان مثلاً شروداً وحديثاً مُرَدَّداً أنسى التاريخ خبر الإسبرطيين وأجناد الرومان والجرمان وغير أولئك من العصبة أولي القوة! وقد أضفتم إلى مكتبة البطولة كتاباً ضافي الصفحات واضح الغرات فرح به عشاق الأبطال وعارفو أقدار الرجال.
ومهما يكن عدد مستشهديكم الذين ساقوا إلى المعالي مهرها من صبيب الدم ومسفوك النجيع. . . ومهما يكن من سطوة القوة، وعنف الظلم، ووقاحة الطاغوت. . فأن الدرس الذي تلقونه على المتآمرين على كسر شوكتكم وازدرادكم وهضمكم، درس هائل مزق أعصابهم، وأطار صوابهم، ومحا خططهم، وأفهمهم أنكم أعظم بأساً وأشد مراساً وأطول أنفاساً.
(ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين. إن يمسسكم قَرح فقد مس القوم قرح مثله).
يا صهيونيون! كذبٌ من الأحلام وخُدعة من الأماني أن تملكوا أرضاً تنكركم وتلفظكم. لقد سخرتم إلهكم الذهب في شراء سطوة أمة مخدوعة بكم أو خادعة لكم تتخذون منها آلة تهدم وطناً على أهله لتبنوا لكم على أنقاضه وطناً في عالم الأحلام. . . وسنبصر وتبصرون: أينا المحروب المغلوب. فارتقبوا إنا مرتقبون، (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر، ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتُهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار)، ففروا من مجزرة أنتم شاؤها وأرانبها. . وكونوا أكيس من أن تبنوا لكم عشاً في طريق الفيل. . أو تناموا بين فكي الأسد. . .!
ثم هبوا أنكم غصبتم فلسطين من العرب، فما هي ضمانات دوامها لكم وسط هذا البحر العربي الذي يكنفها ويلفها ويقذفها بموجه من الشمال والجنوب والشمال واليمين؟ هي الحراب الحليفة لا شك. ولكن الحماة مواطنهم في شمال الأرض، وهم أمة لا مناص من أن يلحقها داء الأمم وتدركها عقابيل الشيخوخة، وحينذاك أو قبله بكثير يستيقظ الثأر الراقد، وينهض الوتر الرابض، ويتنادى أبناء الشرق عليكم، فلو نفخوكم لأطاروكم. . . فأيما أمانٍ وقرارٍ وقيمةٍ لبلد فقد أهم عناصر الاستيطان وهو الدوام؟!
ألا إنها خدعة عبقرية، أو قل هي عصا القدر تسوقهم إلى شبكة محبوكة فاغرة لتصديق نبوءة النبي العربي الكريم. (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين).
أيها المؤتمرون بتراث العروبة! كلمة من شباب العرب والإسلام: إننا اعتزمنا أن نحيا أعز حياة وأمجدها، مدفوعين إلى ذلك بوحي أرضنا أرض التاريخ والرسالات، والميراث الروحي، وبهتاف أبطالنا وأعلام تاريخنا، تحيط بنا أفواج مجندة من أرواح الشرق التي نعيش معها ونلقَن عنها؛ ولن يعوق اندفاعنا عائق، لأن عجلة الفلك تدفعها يد القدر، وهي التي تدفعنا لنأخذ دورنا الثاني في تنمية الميراث الإنساني وغسل الأرض. . .
ألا فأفسحوا الطريق ولكم حسنة، قبل أن تفسحوه وعليكم كلمة السوء! فأننا عما قليل سيلٌ يتحدر من صبَب، ونار تشتعل في حطب! (ومنذا يرد على الله القدر)!
عبد المنعم محمد خلاف