مجلة الرسالة/العدد 17/في الأدب المصري القديم
→ صور من الأدب العربي | مجلة الرسالة - العدد 17 في الأدب المصري القديم [[مؤلف:|]] |
بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام ← |
بتاريخ: 15 - 09 - 1933 |
النيل والحضارة المصرية (ملخص فصل من كتاب)
للأستاذ (آ. موريه)
وهنا نجوى تبسط لنا شيئا من الحياة الزوجية، يرددها زوج يبكي فقد امرأته، وامرأته، كما يبدو، ما زالت روحها أتبع له من ظله. قال يناجيها:
(لماذا أشقيتني حتى غلبت عليَّ هذه التعاسة؟ ماذا صنعت حتى رفعتُ يدك علي دون أن أباديك بشيء؟ سأرفع دعواي لآلهة المغرب التسعة، حتى يفصلوا بيننا.
ماذا صنعت؟ كنت امرأتي حين كنتُ أخطر في برد الشباب ما أزعجتك وما مسستك بسوء. اذكريني عندما كنت عريفاً بين المحاربين في جيش فرعون، تركتهم لأجئ اليك. حاملا اليك منهم هدايا ثمينة، وأنا لم أَحفِ عنك سرا طيلة حياتك، ولم أدخل منزلا غير منزلك (بعد الطلاق). وعدما رهنوني في الموطن الذي أنا فيه الآن وجعلوا رجوعي اليك مستحيلا، أرسلت إليك زيتي وخبزي وأثوابي؛ ولم أبعث بها إلى أحد سواك. وعندما مرضتِ جئتك بطبيب، فوصف العلاج، وأتى بكل ما قلت عنه؛ وعندما وجب علىَّ أن أرافق فرعون في رحلته إلى الجنوب لبثت أفكاري متوزعة عندك، وقضيت ثمانية شهور حليف الأسى لا يلذ لي طعام، ولا يسوغ لي شراب. وبعد وفاتك عدتُ إلى ممفيس، ورجوت من فرعون الذهاب إلى بيتك، وهناك وقفت باكياً، وأسعفني أصحابي على البكاء، وأعطيتهم ثيابا للف جثمانك.
واليوم وقد تعاقب ثلاثة أعوام وأنا قابع في عزلتي، ما دخلت منزل أجد، ولا عرجت على أخت من الأخوات اللابثات في البيت).
ثم نشأت قصص صغيرة مشبعة بالروح الشعبية التي تجلت فيها، أضف إلى ذلك مقطوعات غزلية عاطفية، تمثل لنا الحياة الوجدانية والعقلية للمصريين القدماء. ومن هذه القطع مقاطيع بعنوان (أغاني لغبطة القلب) وهي أغاني يجب أن تكون مصحوبة بآلات الطرب، على أن الموسيقى المصرية ظلت مجهولة برغم آلاتها الشائعة عندهم. وجل هذه المقطوعات محاورات بين رجل يدعو المرأة (يا أختي)، وامرأة تدعو الرجل (يا أخي) وكلاهما يتجاذب الأغاريد بلهجة جذابة رقيقة. وتلوح على هذه المقطوعات بعض ملامح مصرية وأخلاق مصرية تثبت ما قصه علينا المؤرخ هيرودوت إذ قال: (ان المصريات كن أحراراً في مسالكهن وتصرفاتهن في تجارة الحياة وفي مزدحم الأعياد الدينية، وهن اللواتي كن يخرجن من بيوتهن لتدبير البيت والإنفاق عليه، والرجال يقومون بالخدمة المنزلية خلال تغيبهن. وهذه القبور الطيبية تطلعنا على حياة المرح عندهن، وكثير من الحكايات الشعبية تدلنا على أخلاقهن وما أتسمن به من صفات الجرأة، وهذه الجرأة قد تبدو في هذه المقطوعة الغزلية، إذ نرى العاشق كالمتغاني، والعاشقة هي التي تتكلم: يقص علينا العاشق هبوطه إلى ضفاف النيل بحوار ممفيس. وهناك شاهد (أخته) في حديقة طيبة الأريج، (إذا هو لثم شفتيها كان نشوان بغير نبيذ) هو يدنو منها كالعصفور الذي ينقض بنفسه على الشرك (شرك الحب). ولكن حميا الحب أقوى من حميا الخمر.
يقول العاشق: (نزلت المنحدر، وأنا أحمل على كتفي حزمة قصب. وبلغت ممفيس وقلت (لباتا) سيد العدالة أعطني أختي هذه الليلة، فالنهر من خمر، (وباتا) قصبه. و (سبكميت) سدرته، (وأريت) يراعه، و (ينقرنوم) أزهاره.
هذا هو الفجر ومففيس كأس من ثمر، مصفوفة أمام الإله باتا ذي الوجه الجميل.
سأنام في بيتي، وأغدو عليلا، وسيهرع جيراني إلى عيادتي، وإذ ذاك تجئ أختي معهم، وتريني للأطباء لأنها عارفة بدائي.
أرى (أختي) مقبلة، وقلبي يستفزه الطرب وذراعاي تنبسطان لعناقها، وقلبي يخفق في موضعه عندما تجيء.
إذا عانقتها وفتحت لي ذراعيها، كأني ألقيت بنفسي في (بونت) مدينة الطيوب. وإذا لثمت فاها وتفتحت لي شفتاها. فأنا سعيد سكران بدون نبيذ.
أما العاشقة فهي سهلة المأخذ، تنطلي عليها الأساليب المغرية، حبها الدقيق أدنى إلى الندب والشكوى، في حالة الاتنظار، تبدي كل مظاهر الدلال، وتقيس ذراعاً كلما قاس العاشق إصبعاً، وهذه (صائدة الطيور) لا تنصب الشباك لمجرد اللذائذ وانما تصبو من وراء الحب إلى اتحاد الروحين بالزواج وإلى السهر على خيرات عاشقها كأنها صاحبة بيته.
تقول العاشقة:
(يا أخي المحبوب! إن قلبي يسعى وراء حبك، انظر ماذا اصنع! قد نصبت فخي بيدي، إن عصافير (بونت) هبطت على مصر مخالبها مفروكة بالصبر، والعصفور الذي نزل، في البدء، قد التقط طعمي.
هو ناقل عطره من (بونت)، ومخالبه مفعمة بالصبر الطيب، أرغب منك أن تعمل على إفلاته من الفخ، حتى تصغي أنت إلى أنين هذا العصفور المطيب بالصبر.
ما أجمل وجودك معي عندما أنصب الفخ!
الوزة (العاشق) تشكت عندما ما علقت.
وذاك حبك يستهويني اليك دون أن أستطيع الإفلات منه، يجب علي أن أهجر (حبائلي). ولكن ماذا أقول لأمي عمن أغدو اليه كل يوم وأنا مثقلة بعصافيري!!!
أنا سجينة حبك! وقبلتك وحدها هي التي تحيي قلبي.
قد وجدت من أحبه، فليت شعري هل يقدر (آمون) على أن يعطيني إياه إلى الأبد. .؟
يا صديقي الجميل! أود ان أرعى خيراتك كصاحبة بيتك؛ وذراعي مسندة إلى ذراعك.
سأقول في نفسي عندما يعاودني حبك؛ أن أخي الكبير بعيد عني هذه الليلة.
ما أشبهني بالأموات، لأنك أنت عاقبتي وكل حياتي).
وهذه عاشقة أخرى تلوم شاة أيقظتها عند الصباح وهي لا تود أن تستيقظ:
(ناجتني الشاة قائلة لي: هذا هو الفجر فاستيقظي، الا تهمين بالخروج؟
لا لا! يا شاتي: أنت تسيئين إلي!
قد وجدت أخي يتمطى في سريره، فطرب قلبي له وقال لي: لن أتركك أبداً، وهذه يدي في يدك، سنطوف معا كل مكان يحسن فيه التنزه.
اتخذ مني خليلته الأولى. وهو لن يحمل أي هم إلى قلبي). وبعد هذا الحب كله يضعف الهوى وتهب الشكوك ثم تتصاعد أنات العاشقة لخيانة صاحبها إياها واستبداله غيرها بها، فأصبح حب المرأة أدنى إلى العاطفة وأغنى (هوى) من الحب الذي أعلنه الرجل بلسانه.
والشاعر يزين نفثاته بالأساليب الغزلية الرقيقة، فالعاشقة تطوف في حديقة غنية الأزهار والأعشاب، فما من نبتة أو ثمرة الا تذكر بشيء من محاسن المحبوبة أو ترمز إلى سعادتها المتلاشية. الأشجار تتكلم: فهي التي تؤوي إلى أفيائها العاشقين، وتخفي عن العيون فصول غرامهم، فهنا شجرة رمان تشكو وتتوعد من أهملها، وهناك سدرة غرستها كف عاشقة تعلن رضاءها عن القدر، وهنالك جميزة صغيرة سعيدة بمواقف العاشقين تحتها. وهي تراقب الأزواج بعين خبيثة ولكنها تكتم أسرارهم.
وثمت شيء من الشعر الذي يصف ألوان الجمال النسائي. وهذه هي أهم صفات هذا الجمال المنشود (شعر حالك كالليل، وأسنان اسطع من لمعان الصوان، وقامة رشيقة، وصدر صلب طافح).
وإذا قارنت هذا الجمال بما جاء في تماثيلهم وصورهم عرفت أن المصريين قد أهملوا رقة الصور والأشكال في الجمال، فكانوا على نقيض الشرقيين المعاصرين الذين يحبون (الخط الأهيف في الجمال الفتي) الذي يعدهم في العالم الثاني بامرأة لها شباب خالد.
وفي هذا الأثر الأدبي الذي أبقى عليه الزمن، ترى عمل المخيلة الصافية فيه مهملا، وتعاليم الفن والعلم والأدب التي وضعت لخدمة الدين والدولة جاءت غنية الخطوط، طابعة الحضارة المصرية بطابعها.
أما مصر القديمة فلم تكن الا في القليل النادر بلد البراعة المنزهة عن الغرض، والتي جاءتها من أجل الفن. فعلمها للعلم المجرد، وتفكيرها للتفكير المطلق، وأدبها للأدب النفسي، وأعمالها العظيمة المجهولة الاسم قد وضعها أربابها بدقة ومهارة في سبيل خدمة مذهب فني يسمو إلى غايات اجتماعية ودينية. وهكذا ضيق الجمال المصري باكراً ساحة الإبداع على المبدعين القادرين، ولكنه لم يهن ولم يقصر في تحليل كل ما يقدسه الشعب ويجله من تعاليم السلطة والصلاح والأدب. فكان أعظم ميزاته وأسمى سماته تمثيله بالرموز معنى النسل. وسهولة فهم مثله الأعلى الشريف، وكل ذلك بأسلوب يستحيل التقليد فيه، وعلاء يصعب السمو اليه.
خليل هنداوي