مجلة الرسالة/العدد 17/القلب
→ ظلم العدالة! | مجلة الرسالة - العدد 17 القلب [[مؤلف:|]] |
قبر مفقود ← |
بتاريخ: 15 - 09 - 1933 |
للأستاذ أحمد أمين
رمتني آنسة في جريدة الأهرام (بأن لا قلب لي، وان كان فليس يخفق) لأني كتبت موضوعا في مجلة الرسالة عنوانه (أدب القوة وأدب الضعف) سميت فيه الأدب الذي يضعف النفس ويمرض العاطفة أدبا ضعيفا مائعا
لك الله يا آنسة أفتدرين أن أشنع سُبّة يسب بها إنسان: أنه لا قلب له؟
وهل المرء ألا قلبه؟
ليس الإنسان جسما بعضه القلب لكنه، قلب غلافه الجسم. لقد قالوا: (إن المرء بأصغريه قلبه ولسانه) ولكنهم بقولهم قد رفعوا من شأن اللسان حتى قرنوه بالقلب، ووضعوا من قيمة القلب إذ قرنوه باللسان، وهل اللسان إلا حاك بكى لأحط حركات القلب وانفعالاته؟ وكيف يعبر المحدث عن القديم؟ أم كيف يحيط المحدود باللامحدود؟ وأين يقع معجم اللغة من معجم العالم؟
إن القلب يقرأ ما رسمه الله على السماء والأرض من أشعار، ولا يسمح منها للسان الا بالقليل التافه، وما الشعر الملفوظ بجانب الشعر المحسوس؟
القلب لا يكذب أبدا واللسان لا يصدقُ الا قليلا، لعلك يا آنسة فتشت عن أعجب ما خلق الله من السماء وفي الأرض لم تجدي أعجب ولا أروع ولا أدق ولا أجمل من قلب الإنسان، تصلح أوتاره فيفيض رحمة وشفقة وحبا وحنانا، ومعاني لطافاً وشعورا رقيقا، حتى يتجاوز في سموه الملائكة المقربين، وتفسد أوتاره فينضج قسوة وسوءا حتى يهوى إلى أسفل سافلين
حوى على دقته كنه العالم! فما أدقه وأجله وما أصغره وأعظمه! يكبر، ولا نرى كبره، فيتضاءل أمامه كل كبير، وسيصغر ولا نرى صغره فيتعاظم عليه كل صغير.
اتحد شكل القلب واختلفت معانيه، فقلب كالجوهر الكريم صفا لونه، وراق ماؤه، يتلقى الإشعاع ويعكسه وهو على أشد ما يكون ضوءا ولمعانا، وقلب كالصخر قوي متين، ينفع ولا يلمع، وقلب هواء، خف وزنه، وحال لونه، وقلب. . . وقلب. . . مما لا يحصيها الا خالقها، إن اتحدت عيون الناس وآذانهم ووجوههم ورءوسهم نوعا من الاتحاد فأن لك إنسان قلبا وحده، ينبض بنوع من حب وكره، وقسوة وحنان، وإعظام واحتقار، ورفعة وانحطاط، لا يشركه فيه قلب آخر وبهذا، وبهذا وحده. اختلفت قيم الناس وتعددت مراتبهم.
يموت القلب ثم يحيا، ويحيا ثم يموت، ويرتفع إلى الأوج، ويهبط إلى الحضيض، وبينما هو يسامي النجوم رفعة، إذا به قد لامس القاع ضعة، وهكذا يتذبذب في لحظة بين السماء والأرض، والطول والعرض، وخير الناس من احتفظ برفعة قلبه، وسمو نفسه.
هو إن شئت فردوس، وإن شئت جحيم، هو إن شئت ملك، وإن شئت شيطان، هو إن شئت نار تتقد بالحب
هل الوجد الا ان قلبي لودنا ... من الجمر قيد الرمح لاحتقر الجمر
هل الحب الا زفرة بعد زفرة ... وحر على الأحشاء ليس له بَرْد
وفيض دموع العين يا مي كلما ... بدا عَلَم من أرضكم لم يكن يبدو
وإن شئت سلا فكان برداً وسلاما
وقلت لقلبي حين لج به الهوى ... وكلفني مالا أطيق من الحب
الا أيها القلب الذي قاده الهوى ... أفق لا أقر الله عينك من قلب
القلب مركز العاطفة، والرأس مركز العقل، وما العقل لولا العاطفة؟ إن العقل أكثر ما ينفع للهدم، والقلب أكثر ما ينفع للبناء، إن القلب يؤمن، والعقل يلحد، والقلب يحب والعقل يحذر
نصحتك علما بالهوى والذي أرى ... مخالفتي فاختر لنفسك ما يحلو
القلب يؤسس العالم، والعقل يسكنه، والقلب يخلق الشيء والعقل يغصبه، سلي التاريخ أليس أعظم بناة العالم قد امتازوا بكبر القلب، وصدق الشعور، وقوة الإرادة، أكثر مما امتازوا بسعة العقل وقوة الإدراك؟
القلب بنى البناء والعقل نقده، والقلب أحيا الشعور والعقل حدَّة، هل تعلمين يا آنسة أن من وجد كل شيء وفقد قلبه لم يجد شيئا، وان من جرد من قلبه لا يعرف صداقة ولا يدين بوطنية ولا يشعر بحنان، ولا ينطوي على إيمان؟
أو تعلمين أن من سُلِب القلب فقد سُلِب الفن والأدب، لأن الفن مناطه القلب، والعلم مناطه العقل؟ وقد سئل مصور ماهر كيف تمزج ألوانك؟ فقال: أمزجها بدم قلبي. وكذلك الأدب الحق، هو ما كان ذوب القلب.
يا آنسة لقد رميت فأصميت، ولشد ما خفق قلبي لسُبتك، كأنه يريد أن يثبت وجوده!